- «السيد س» مستغرق في سَكرته (الشعريّة)
صوت على حدة فوق الخريطة الشعريّة. لمع نجمه في بيروت السبعينيات، لكنّه لم يعتلِ يوماً مناصب التكريس. بقي خارج التصنيفات: أكثر «شعراء الجنوب» تفرّداً، وشاعر التفعيلة الذي مجّد قصيدة النثر. مجموعته الجديدة عن «دار الفارابي»
لم يكن قد مرّ الكثير على بداية إعلان محمد العبد الله عن نفسه شاعراً، حتى تحوّل إلى «نجم» شعري في مستهل السبعينيات من القرن الماضي، حين فازت قصيدته «بيروت» بالجائزة الأولى لمهرجان الشعر في كلية التربية التي كانت وقتها البيئة الأبرز للسجالات السياسية والثقافية والشعرية السائدة في المدينة.
ثم جاءت مجموعته الأولى «رسائل الوحشة» (1978) لتحجز له مكاناً خاصاً داخل ما كان يُكتب من شعر في تلك الفترة. كانت المجموعة أشبه ببيان شخصي كشف فيه محمد العبد الله عن نبرة شديدة الخصوصية تمزج بشكل خلاّق بين المشهد الحياتي والواقعي وممارسات المخيّلة. ولعل العبد الله - إذا نظرنا إلى تجربته في مجملها - هو أحد أهم الشعراء الذين صنعوا هذا المزيج من دون الانتقاص من الشعرية التي يُفترض أن يتضمّنها أي نص شعري. واللافت أنّ قصيدته كانت تتقدم بقوة الموهبة، سواء كانت مكتوبة بالوزن أو الإيقاع أو النثر. بل إنّه أنجز إحدى أشهر قصائد ديوانه الأول، وهي قصيدة «مصرع دون كيشوت» بتقنيّات مسرحيّة وأصوات متعددة أيضاً. الواقع أنّ معظم نصوص ذاك الديوان كانت تكشف عن ممارسة شعرية مبتكرة من أولها إلى آخرها. كان الديوان علامة محمد العبد الله الفارقة، ولعله لا يزال كذلك حتى هذا اليوم. هو نفسه يؤكد ذلك: «ضمن الفضاء العام السائد وقتها، وهو فضاء سياسي وثقافي وشعري معاً، يُخيَّل لي أن ديواني الأول، بانتمائه إلى ذاك الفضاء، كان يُفرد لنفسه لهجةً خاصةً لا تشبه، في ظنّي، أي لهجة أخرى. وهذا ما ذهبت إليه أيضاً المقالات التي كُتبت عنه حينذاك».
بعض الشعراء يقسِّطون بياناتهم الشعرية. محمد العبد الله كان أحد الذين قالوا بيانهم دفعة واحدة. لكنه عاد ليكشف تفاصيل هذا البيان، موزّعاً إياه على دواوينه وكتبه التي صدرت لاحقاً. المتابعون لتجربته يعرفون أن «اللهجة» الخاصة التي ميّزته أفصحت لاحقاً عن تدرّجات وأطياف عديدة، حتى إنّ العبد الله نشر قصصاً وسيناريو سينمائياً وشعراً بالعامية.
قصائده نفسها تضمّنت مكوّنات نثرية، مواربة ومرئية في آن. ولم يتوان عن تسمية أحد كتبه بعنوان «حبيبتي الدولة»، إضافة إلى أنّ القارئ يعثر على فنّ خاص في معظم أعماله. إنه يُنجزها بحسب إصغاء متفرد إلى اللغة والسياق الشعري. فنجد في «بعد ظهر نبيذ أحمر» (1981) صفحات كاملة أشبه بفصول ناقصة من رواية أو عمل سردي تعود إلى العبد الله وحده براءة اختراعه. فلنتذكر هنا شخصية «السيد س» التي كانت عنواناً لقصيدة في ديوانه الأول، ثم راحت تحضر في أعمال تالية. يقول صاحب «جموع تكسير» (1983): «معظم الكتب التي أصدرتها كانت تشي بما سيأتي بعدها.
ويسهل تتبّع هذا المسار منذ «رسائل الوحشة» التي احتوت على القصة والسيناريو والنص السردي وقصيدة النثر إلى «زهرة الصبار» آخر دواويني».
كتب محمد العبد الله قصيدة النثر على طريقته. ولعله ظلمها مثلما ظلمها قراؤه ونقاده. فقد كتبها بإيقاعات مبتكرة وقوية. كان نثره ينضح بالموسيقى والإنشاد والوزن، لكن معظمنا لم يُلاحظ أنها نثر صافٍ. يقرّ صاحب «وقت لزينتها» (1989) بأنّ نثره غالباً ما كان مغطّى بمناخات إيقاعية عالية كانت تصنع له سوء فهم غير متعمد: «كتبت الكثير من قصائد النثر. وأزعم أنّي صاحب لهجة خاصة حتى في هذا النوع الشعري. تستطيع أن تلمس ذلك في كتابي الأول والثاني وفي أعمالي الأخيرة. خذ قصيدة «فصل في كاترين» من ديوان «حال الحور» (2005). إنها نشيد نثري مجَّدتُ فيه قصيدة النثر على طريقتي. مشكلة القارئ أنّه يُخدع بغنائيتها وإيقاعاتها الصاخبة فيظن أنّها قصيدة تفعيلية أو إيقاعية. ولذلك استغربتُ عدم دعوتي إلى المشاركة في مؤتمر قصيدة النثر الذي انعقد قبل سنتين في بيروت».
لكنك غالباً ما تميل إلى الإنشاد والتطريب فيزداد حضور التداعي الغنائي والموسيقي على حساب الابتكار والبحث والتجريب الشعري، نسأل شاعرنا، فيجيب: «نحن نحب الغناء، وأحياناً نغنّي رغم أصواتنا القبيحة. لكن الإيقاع في كتاباتي ليس بديلاً من التجريب بل هو موازٍ له وممتزج به. قد تميل مجموعة ما إلى الإيقاع، إلا أنّ ذلك لا يعني أني أقفلت بحثي عن الشعر، إذ قد تفاجئك مجموعة أخرى بطغيان النثر فيها. إضافة إلى كل هذه المزاعم، أنا لست القارئ الأفضل لشعري. ليس لدي سوى مزاعمي».
ولأن محمد العبد الله، إضافة للتطريب، يميل إلى السخرية والتهكم، وهو ما نجده بكثرة في مجموعتيه الأخيرتين «حال الحور» و«زهرة الصبار»، نسأله عن سبب لجوئه إلى ذلك وهو يعرف مسبقاً أن الشعر يتعارض مع «النكتة»، فيقول: «أنا منتبه إلى أن هذا يُحدث ارتباكاً لدى القارئ، لكني أعوِّل كثيراً على هذا الارتباك بهدف كسر سلطتي على ما أكتبه. حين أكتب شيئاً جميلاً ومميزاً أشعر بأني تملكت الأمر فأخلع نفسي عن عرشي. كلما اقتربت من اكتمال سلطتي في القصيدة أكسرها وأبتذلها».
رغم كل هذا، وبسببه على الأرجح، غالباً ما يُصنف محمد العبد الله شاعر تفعيلة وغناء. ولعل انتماءه المبكر إلى ما سُمِّي ظاهرة «شعراء الجنوب» التي ضمت محمد علي شمس الدين وحسن العبد الله وشوقي بزيع وجودت فخر الدين والياس لحود .. أسهم في تعزيز هذا الانطباع، خاصة أن كل هؤلاء كتبوا قصيدة التفعيلة ولا يزالون مواظبين على اكتشاف طاقاتها.
لكن ألا يضع هذا الانطباع الجماعي الشاعر داخل ما يمكن تسميته «نادي التفعيلة اللبناني» الذي يشهد انعدام انتساب أعضاء جدد له بين الشعراء الجدد، وهو ما يحوِّل هذا النادي إلى معقل أخير لقصيدة التفعيلة؟ يقول محمد العبد الله: «هذا الانطباع ليس ملزماً لي. لقد أسّستُ لنفسي خطاً في قصيدة النثر، وكتبت بالتفعيلة والوزن أيضاً. ومع صداقتي الشديدة للأسماء التي ذكرتها، وتذوقي لما كتبوه، فإني أفضّل أن تُؤخذ تجربتي بالمفرّق لا بالجملة. وأظن أنّهم هم أيضاً يفضّلون ذلك، رغم التصور السائد الذي لا يزال يضعهم في سلة نقدية واحدة. أما انقطاع الشعراء الجدد عن كتابة التفعيلة فعائد إلى أسباب مختلفة يصعب تحديدها وشرحها بدقة... لكني أشير إلى تعقيدات الحياة الحديثة وانعكاسها على الكتابة الشعرية بصفغه أحد هذه الأسباب. الخلاصة أن العالم مثلما هو إيقاع فيه نثر أيضاً. وبرأيي مواجهة الإيقاع بالنثر ممارسة خاطئة. المهم هو الكتابة الجيدة، والشعراء أحرار في الوصول إلى ذلك».
لكن شعراء التفعيلة باتوا يُعاملون معاملة خاصة، كأنهم جماعة في طور الانقراض؟ يسارع صاحب «بعد قليل من الحب» (1994) موضحاً: «الشعراء كلهم يلقون اليوم معاملة خاصة وليس فقط شعراء التفعيلة. ثمة تصور سائد بأن الشعر «دقة قديمة» وأن الشاعر صاحب مهنة غير دارجة».
أخيراً. نسأل صاحب «كيفما اتفق» (1998) عن ابتعاده أو «إبعاده» عن العمل في الصحافة الثقافية، وهو الذي عمل في أكثر من صحيفة ومجلة في بيروت وقبرص وباريس؟ فيقول: «حاولت مرات عدة أن أعود إلى الصحافة، لكن يبدو أن الجهات التي تحدثت معها تفضّلني كاتباً أكثر مما تفضلني موظفاً، علماً بأنني موظف جيد مع بعض المشاكسة، مثلما أنا كاتب جيد. ليس هناك استبعاد ولا مؤامرة علي. إنه سوء تفاهم طفيف. يقولون: الأستاذ محمد العبد الله لا يليق أن نضعه وراء مكتب، ونطالبه بدوام وحجم عمل، لأن مشاكسته أحياناً قد تُفسد الأمور. هذه قراءتي الخاصة للأمر. وأنا ضد هذه القراءة. أنا موظف جيد وأستأنس بالعمل مع زملاء آخرين. يمكنني أن أقوم بواجباتي وأن أسجّل بعض «الفاولات» مثل سائر الموظفين».
*****
آخر الرومانسيين
قليل الظهور، حين يملأ زملاؤه الدنيا بضجيجهم. منزوٍ كما الشعراء، هو الذي لم يبرح دائرة الضوء في حياة مضت، أشبه بالزمن السعيد. كان محمد العبد الله نجم «كليّة التربية»، صوت جيله الذي لصقت به - اختزالاً - تسمية «شعراء الجنوب». ثم تتالت الإخفاقات، سياسية وعاطفيّة ووجوديّة، انهارت الأوهام والمشاريع الكبرى. انهارت المرحلة التي اعتبر يوماً في مقدمة مجموعته الأولى «رسائل الوحشة» (1978) أنها «الأصعب»، وانفرط عقد الجيل الذي كتب أيضاً أنّه كان «الأصعب». المدينة التي أمّها ذات يوم آتياً من بلدة الخيام لبلوغ المجد، لم تعد تماماً كما هي، ولم تعد تتسع لأي مجد. «بيروت» التي غنّاها في قصيدة شهيرة من أيام الجامعة، ابتلعها الزلزال. كل شيء تبدّل هنا، وبقي الشاعر.
محمد العبد الله كما تعرفه. لم يتغيّر قيد أنملة في مجموعته الجديدة «زهرة الصبّار» (الفارابي). زادت الندوب والخيبات ربّما. تضاعف التعب وتفشّت المرارة على الأرجح. دولسينييا (أو «مريم»)، أطالت الغياب حتماً. أما في ما عدا ذلك، فكلّ شيء على ما يرام! يكفي أن تقرأ هذه القصائد اليومية، المبثوثة كالقرقعة على هامش الواقع. محمد العبد الله نفسه، كما غافلَنا مرّة «بعد ظهر نبيذ أحمر، بعد ظهر خطأ كبير» (1981). مهرّج حزين يقلّد - «كيفما اتفق» - غوريلا تتهادى على خيط حريريّ رفيع، ممدود فوق الثقب الأسود للكون. «كحمار يحمل أسفاره/ أحمل أحزاني، عينيكِ/ وكتاب الآهاتْ/ ضيّعت الدربَ/ ولكنّني صادقُ جميع الطرقاتْ/ لا مجدَ لديَّ لأهديكِ/ أهديتُكِ مجدَ الكلماتْ».
ما سبق ليس سوى «إهداء» المجموعة الجديدة. تقتفي أثره عبر قصائدها السريعة، وتتذكّر (أو تنتبه) أن صاحب «وقت لزينتها» (1989) و«بعد قليل من الحبّ» (1994) هو في النهاية رومانسي بامتياز. لعلّ مجنون «مريم»، إذ يستحضر الحبيبة المشتهاة أو الوقت الهارب أو الانتظار أو البكاء، لم يقلع يوماً عن تلك العادة الباطلة التي تنصّل منها الشعراء من زمن بعيد. لكنّه يلجأ - بفعل الحياء؟ - إلى الفجاجة لتمويه غنائيّته أو تخريبها. يتحصّن بالمفردات التي لا نتصوّر أنّها يمكن أن تدخل قصيدة (من الطنجرة إلى الترّاس، مروراً بمعالي الوزير)... يأخذ فجأة تلك النبرة المباشرة ليحكي بلغة الحياة العادية، تفاصيل اعتراضيّة ونكاتاً وكلاماً «بايخاً». وإذا بهذه الانحرافات تضيف إلى رومانسيّته، تصبح اللحظة الأقوى في القصيدة. المهرّج الحزين حين يرثي العالم... يضحك على نفسه.
الأخبار
الثلاثاء 22 كانون الثاني 2008