«إنهم (إنهما) معاً، ولكن ليس في صورة أكيدة» جملة استعارها الشاعر اللبناني شربل داغر من الكاتب الفرنسي موريس بلانشو لا ليزين بها الصفحة الأولى من روايته «وصية هابيل» الصادرة حديثاً في بيروت عن دار رياض الريس، بل لأنه وجد فيها سلما يرتقيه القارئ ليصل من خلاله إلى الفراغ الذي تجري فيه وقائع هي في حقيقتها نوع من الاستعادات التي تبدو كما لو أنها الحافة التي تنفصل عندها السيرة الشخصية عن موضوعها لتكون فضاء استفهامياً غاصاً بالاحتمالات الجمالية. من الصفحات الأولى لا يخفي داغر مراده من كتابة هذا العمل: البحث عن معنى وصفة وأبعاد للكائن الذي يعيش إلى جواره، قرينه الذي يكتب باسمه، بل ويعيش أحياناً منتحلاً حياته. هذه الفكرة بالنسبة الى شربل ليست جديدة، فهو سبق أن طرحها في قصائد كثيرة، بل لا أبالغ في القول إن الجزء الأكبر من صنيعه الشعري يدور حول تلك الفكرة.
غير أنه هذه المرة لا يأتيها من جهة الشعر بتوتره اللغوي واقتضابه التعبيري، بل يستعين بالحوار المتأني بين غائبين، يتغيران باستمرار من غير أن يكون التعرف عليهما سوى احتمال غير مؤكد من بين احتمالات كثيرة. وهو سلوك شعري لا ينفي الرواية بقدر ما يهبها حساسية القدرة على اختراق الممرات الوعرة والضيقة. وهي الأماكن عينها التي يحمل جسد الشاعر آثار المرور بها.
من خلال هذه الرواية عاد شربل إلى مواقع طفولته، من أجل أن يلتقط تلك اللحظة الغامضة التي وجد نفسه فيها وقد اشتبكت بذلك الشبح الذي صار يرافقه أينما مضى: قرينه الذي يكتب بالإنابة عنه وباسمه. كل قارئ لهذه الرواية لا بد من أن يشعر بوجود شبح القارئ الأول لهذه الرواية: شربل داغر نفسه. غير أنني منحاز للقارئ العادي يمكنني القول إن ما يعثر عليه داغر في نصه من أسباب للكتابة لا تساوي تلك المتعة التي يعيشها القارئ وهو يسعى إلى فض الاشتباك بين اثنين هما مادة الحوار وموضوعه. شربل وقرينه على المسرح يصنعان نوعاً من الفرجة في فضاء تضيق سعته أحياناً ليكون مجرد مجموعة من الدرجات التي صفت قرب دكان.
إنهما معاً دائماً. ولكن من هما؟ أثناء القراءة صرت أشك في أن الكاتب نفسه يستطيع أن يفصل بينهما لو عاد إلى قراءة ما كتب، وهو الذي كتب من أجل هذه العودة. حوار طويل، وهو الحوار الأطول الذي قرأته بالعربية في حياتي، لكنه حوار لا يلزم المتحاورين بالإفصاح عن شخصيتيهما دائماً. بل يشعر القارئ أحياناً أن تبادل الأقنعة بين الشخصيات هو جزء من اللعبة التي عاشها شربل في صفتها نوعاً من المعادلة التي تستقيم من خلالها سيرة حياته. الآخر الذي يسكنه هو كل آخر ممكن. وعده أثناء الكتابة الذي يتحول إلى نوع من الأمل أثناء القراءة. لقد كتب شربل سيرته كما لو أنه يكتب عن شخص آخر، شخص يشبهه، له الملامح نفسها، غير أن ذلك الشخص لا يقوى على الإخفاء كما يفعل أي شخص في حياته اليومية. جملة من نوع «ذلك الشخص» تهم شربل كثيراً. فهي تعلق مثل وشاية برجل الكتابة، ذلك الرمز الذي طمح شربل ذاته إلى أن يكونه، لكنه حين صاره تخلى عنه. «لست بصدد الحديث مع أحد» يقول وهو محق، ذلك لأن وصية هابيل هي صمته وليس ضياع قابيل سوى ثمن ذلك الصمت.
كل هذا الصمت في الرواية يمكن أن ينسب إلى صاموئيل بيكيت الذي لم يرد ذكره في الرواية التي شهدت حضور الكثير من الأسماء الأدبية العربية والعالمية. لقد استلهم داغر ذلك الصمت ليصف المكان، فكان دقيقاً في وصفه. هناك صفحات في الرواية أعادتني شخصياً إلى شرفة وقفت فيها يوماً ما برفقة الشاعر. وإذا ما كنا تقليديا نبحث عن أبطال لكل رواية فإن «وصية هابيل» لا تفتقر إلى أولئك الأبطال فحسب بل هي تتحاشى أيضاً فكرة البطل. البطل الوحيد هو ذلك القرين الذي يعنيه أن يكون شبحاً، نوعاً من سلالة منتصرة ولكن من وراء حجب. وما الفضائح الصغيرة التي تفصح عن نفسها بين حين وآخر إلا نوع من الغواية التي مارسها الكاتب من أجل أن يفصح ذلك القرين عن نفسه. ليس هناك ما يوحي بأن عمل ذلك القرين قد انتهى، بل العكس هو الصحيح تماماً. «ربما يكون ذلك القرين هو الذي كتب هذه الرواية». هذا ما يمكننا قوله، ذلك لأنه يعرف كل شيء عن شربل داغر، بل انه يعرف ما لا يعرفه داغر عن نفسه. يسمح الشعر بأكثر من ذلك. رواية يكتبها شاعر هي في حد ذاتها حدث جمالي، تتقدمه الأسئلة التي لا تصف بقدر ما تمهد لعلاقة استثنائية بين القارئ ونص غير منتم، إلا لخلاسيته. لعل «وصية هابيل» من النصوص التي تقترح مفهوماً جديداً للكتابة. وهو مفهوم بريء من الشعر بقدر تلعثمه به. فليس هناك من الشعر في هذه الرواية إلا ما يذكر به: لغة تكتفي بذاتها. كانت هناك حكاية، ولكن هل كان شربل داغر يرغب في أن يكون حكواتياً؟ في مختلف صفحات الرواية يستخرج داغر وقائع حياته من خزانة عائلته كما لو أنها صور يمكن أن تمحى لو تعرضت لضوء الشمس. وهي صور تمتعه، لأنها تظهره من غير أن يكون له قرين. إنها صور تشهر وحدته، كياناً ذا أبعاد معلومة. شربل داغر في «وصية هابيل» وهي وصيته، يرتجل قدمين لقرينه، لكن ليس من مادة الشعر هذه المرة.
«سيرة ذاتية ناقصة» يمكننا القول. وهو نقص مقصود لذاته, به أو من خلاله نجح شربل داغر في الفصل بين الكائن الاجتماعي وذاته التي تمحورت حول الكتابة وتبلورت من خلالها. سيرتان تشتبكان وتتقاطعان غير أنهما تنتجان وقائع مختلفة، من شأنها تعزيز حال الفصل بينهما. وقد كتب داغر نصه هذا لا من أجل إرضاء كائن الكتابة وإعادته طائعاً إلى البيت بل من أجل التعرف عليه متمرداً وضائعاً وذاهباً إلى تيهه. في أكثر من مكان من الرواية هناك إشارة إلى ألـ (هو). وحتى ألـ (أنا) حين يحضر فإن حضوره يكون صورة عن ذلك ألـ (هو) في حال انفصال عن غيابه. لعبة الآخر الذي يتبعه التأويل ليكون جزءاً منه في ما بعد. وهي لعبة الشعر الذي يكتبه شربل كي يمتحن قدرته على أن يكون موجوداً في لحظة لا تصلح للوصف. في بعض المقاطع يشعر القارئ أن الحوار مقصود لذاته، كما لو أن الاثنين قررا أن يكون الهذيان وسيلة اتصال بينهما. وهو ما يجعل خزانة الشعر مفتوحة. وإذا ما كانت السيرة الذاتية تكتب من أجل أن يستعيد الكاتب من خلالها خطواته فإن شربل داغر كتب سيرته مستعيداً خطوات الآخر الذي يسير على قدميه.
الحياة
إقرأ أيضاً:-