حسناً فعل الشاعر والناقد السوري خضر الآغا في اعتبار كتابه "البياض المهدور "(*) مقدمة للشعر الجديد في سوريا. ففي عبارة "مقدمة" ما يوحي بأن ثمة فصولا يجب أن تكتب لاحقاً لتشكل دراسة كهذه "بيانا" متكاملا، مما ينقذ الناقد والكتاب على حد سواء من تعميمات واستنتاجات واحتكارات، هما والحركة الشعرية السورية الجديدة في غنى عنها.
والحق أن الآغا يحدد مرماه النقدي ويبدي تحفظه و"يبرىء" ساحته منذ البداية، حين يؤكد أن هذه "المقدمة تعبّر عن طموح (...) وليس بالضرورة عما هو منجز من الشعر السوري الجديد"، مردفاً قوله: "سأدرس الرغبة، الدفقة الأولى للماء وليس النهر، الرعشة وليس الحب. فلقد نحا النقد العربي حتى هذه اللحظة منحى دراسة المنجز الشعري بمختلف مستويات الدراسة، الا أن أحدا، بحسب إطلاعي، لم يقدم على دراسة النزوع - البدء.
أنهم يدرسون النتيجة وليس المقدمة، المطر وليس الوميض. بمعنى: يدرسون الحبر لا البياض. فكرتي هنا: دراسة البياض والقبض عليه، البياض في قلقه نحو تجريح الورق بالكتابة التي يبدو عليها، كنزق على الأقل، إنها تتحدى البياض، لا التي تسالمه، تخرّبه أو تقيم معه علاقة الفاعلية والتشارك لا التي تبقيه محايداً تجاه ما يجري عليه من انتهاك مجاني، ذلك البياض الذي ينتحر عليه المعنى، وتنتحر اللغة، ليلدا من جديد، في الآن نفسه: آن الكتابة".
يهدف الآغا اذن إلى دراسة ما لم تتضح معالمه إلى الآن في شكل نهائي، إنما قد يشكل في رأيه لحظة الانفجار أو الولادة التي تُختتم بها مراحل تكوّن جنين التجديد النائم في رحم الشعر السوري التسعيني. ولعل مفهومه هذا للبياض "ابلغ" وأجمل ما في كتابه والأكثر نفاذا إلى حقيقته، فهو يوحّد صوت الناقد والشاعر ويظهر مدى انحياز الكاتب إلى الأدبي الذاتي البحت في عملية التنظير. بيد أن هذا الانحياز لا يحول دون اعتماد الآغا أيضا على البعدين النقديين التأريخي والتحليلي من خلال دراسته البنيوية والدلالية لمختارات من قصائد الشعراء الثلاثين الذين انتقاهم من ناحية، ودأبه من ناحية أخرى على استعراض بعض المحطات في مسار الشعر العربي وتبيّن علامات الانقلاب والتجديد والتحول في تاريخ أدبنا منذ بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، لافتا إلى "فترات طويلة جدا وسوداء جدا" من التكرار والتقليد والانحطاط في هذا التاريخ، ومشيرا إلى بعض الظواهر التي تعتبر تجديدية كالرصافي وجماعة الديوان وحركة ابولو وصولا إلى جبران خليل جبران الذي رأى فيه "صاحب رؤيا كبيرة شكّلت طاقة فعلية للحداثة، بل الطاقة الكبيرة المختزنة للحداثة العربية برمتها"، والذي كان على الشعر أن ينتظر من بعده حتى النصف الثاني من القرن العشرين لكي تظهر "حالة حقيقية من التجديد الشعري" مع شعراء الحداثة الكبار ومرحلة "اليقينيات" مثلما يصفها.
وفي هذا الإطار لا بد للعقل النقدي من أن يتذكّر مقدمة "لن" المشهورة واللحظة الشعرية الابوكاليبتية المنجّية التي خلخلت أسس الرؤيا الأدبية العربية وحررت أشكالها ومفاهيمها ولغتها، لكي نتلمس طريقنا إلى المقاربات والمقارنات ونتمكن من ولوج المتاهة التي يدعونا الآغا إلى الخوض فيها. ولذلك سأجد نفسي في حال من التحفظ حيال إحالة الناقد عبارة رولان بارت "الكتابة في الدرجة صفر" على الشعر السوري الجديد، فهو وان "يتملص" من هذا التعميم بقوله أن هناك "الكثير مما هو قبل الصفر وتحته"، الا أن ذلك لا يلغي واقع توصله إلى استنتاج متسرع مفاده أن لغة الشعر الجديد "بلا ذاكرة". وربما كان على المقدمة هنا أن تتوغل في عملية السبر التفكيكية وان تضع الشعر المأخوذ في الاعتبار على مشرحة النقد لتقول لنا في دقة كيف تتجلى تلك "اللاذاكرة" البيضاء في الجيل الشعري الجديد.
من اجل هذا وسواه يبدو خضر الآغا في "البياض المهدور" متأرجحا أكثر منه ثابتاً في موقعه، متجاذباً بين التداعيات الأدبية بصفتها استكشافاً للشعر ببوصلة الشعر وفراراً من "المعنى" إلى البياض، إلى المجهول، إلى المحتمل وجوده وراء الأكمة. وبين البحث المنهجي والبنيوي الذي يفكك القصائد ويدرسها من داخل ويضع القارىء على السكة الحقيقية التي تساعده في أن يحكم بنفسه على العمل. ولكان كتاب الآغا أكثر قدرة على التمهيد والتقديم اللذين يطمح اليهما لو اختار طريقه على نحو حاسم وذهب مذهباً من الاثنين، أي العمل الأكاديمي أو التأويل الأدبي، بدلا من التمايل بين الصوغ التحليلي والتوثيقي من ناحية، و"دغدغة" البياض والمجاز من ناحية ثانية.
الا أن هذا التشبث بالبياض الذي يحتضن التفاصيل لن يعفي مقدمة الكاتب مما تحمله من "ادعاء" - والتعبير للآغا - في أن "كان على الشعر أن ينتظر ثلاثين عاما، أي حتى ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، ليدخل فضاءات أخرى أو ليقيم علاقات جديدة مع اللغة"، وليشير إلى تأسس مرحلة شعرية جديدة "قاسمها المشترك هو النزوع نحو تجاوز المنجز الشعري الستيني". فرغم أنني منحازة شخصيا إلى هذا النوع من الادعاء المتجرىء إذ قد يساهم في حماية الصوت الخاص والمميز حقا من بعض المصادرات الأبوية والأخوية الاعتباطية التي تعم حياتنا الأدبية، غير أن هذا الإصرار على "لا ذاكرة" الشعر السوري الجديد يبدو في بعض الأحيان تعميماً مفتعلا يثبت نقيض ما يحاول التوكيد عليه، ولاسيما أن كثراً يتساءلون هل كان ممكناً حقاً الحديث عن منعطف تصنعه أصوات جيل التسعينات في سوريا وهل كان هذا الشعر يشكل فعلا في ذاته مرحلة مستقلة فاصلة تفرّقه عن الأجيال السابقة. فرغم انحياز الشعراء الجدد المطلق إلى قصيدة النثر، الا أن قصيدتهم متعددة الوجه والصوت والإيقاع والشكل والكيان إلى حد كبير. لكن آغا يؤكد من ناحيته أن عدم اندراج هذه القصيدة في خط أسلوبي وجمالي وتعبيري وفني و"عقائدي" واحد لا يحول دون تشكيلها مناخاً أو "حالة" مشتركة خاصة، وهو يتوقف في مقدمته عند بعض مفاتيح هذه الحالة ومفرداتها المميزة، كالفراغ والخواء والخراب التي هي في رأيه "ذات شأن بالغ في الكتابة الشعرية الجديدة"، مستدركاً في الأسطر التي تلي انه ربما يتورط في هذا الكلام بسبب صعوبة تحديد العلامات الفارقة في الشعر والمطبات البالغة التعقيد التي تعوق شرح هذه. بيد انه يعود ليؤكد مرة ثانية أن اللغة الخاصة التي يمكن أن يتشكل منها الشاعر الجديد مستلة من مفردات العزلة والسحر والهامش، موضحاً أن هذه المفردات منحت الشاعر "لغة كثيرة" يطلقها "إلى أقاصيها، وفي الأقاصي مناطق مظلمة يكشفها، ومحايدة في علاقتها بالعالم والأشياء، وهامشية فينقلها إلى المتن".
تكمن فاعلية الشعر في رأي الآغا اذن في انه ينقل الهامش إلى المتن، وهذا ما يجعل لغته "تنتحر على الورقة البيضاء، البيضاء جدا، والتي عبر انتحارها تفتح آفاقا جديدة للنص الشعري، ليصل إلى فكرة أن الانتحار هو جوهر الشعر، وليستطرد من ثم إلى الحديث عن لغة النقد مؤكدا أن "الشعر الجديد ومبادئه النقدية كلاهما يساهم في تشكيل الآخر".
الفت أخيرا إلى أن الآغا يتخذ بداية زمنية لدراسته "يمكن أن تكون تعسفية وقسرية" في تعبيره، إذ اقتصر تركيزه على الشعراء الذين بدأوا في إصدار دواوينهم منذ ،1990 مما يدفعه إلى الاعتذار ممن يمكن أن تكون هذه الدراسة أغفلتهم. ومما لا شك فيه أن أهمية هذه المقدمة، الاستقصائية والتجريبية في آن واحد، تكمن بخاصة في جرأتها النظرية، بل في "التجرؤ" على اليقيني والراسخ والأبوي أكثر منها في مادة هذا التجرؤ، إذ قد تشكل هذه الدراسة التي تحمل توقيع كاتب شاب أفضل رد على قول احد شعراء الحداثة السوريين الكبار أن "الشعراء الجدد غابة أصداء". إما حين تعمد إلى التركيز على القصائد بذاتها، فهي تكتفي منها بالنذر القليل مما يحول دون خروج القارىء بنتائج مقنعة وراسخة. كيف لا والآغا يشمل في دراسته ثلاثين اسماً شعرياً في عدد محدود نسبياً من الصفحات؟ ثمة اذن حاجة إلى أكثر من برهان ورابط بين البياض النظري الذي يتحدث عنه الكاتب والبياض المهدور في الدواوين موضع التحليل. وهذا ليس إنقاصا من قيمة المقدمة، ولا من قيمة الشعراء الذين تحتضنهم، بل لنقول أن الشعر لا يحتاج أحيانا إلى عناء كهذا. عليه أن يكون وان يطير فحسب، إما إذا خانته النيران في طيرانه فلن يذكره احد بخير أو بشر. وهل ثمة نقد ابلغ من ذلك؟
النهار" - الأربعاء 23 نيسان 2003