ينحسر الشتات العراقي، مهزوما أو مختارا، من المشهد الصراعي، الذي قد يطول، في اتساعه، الفاصلة الأخيرة من وجود بلاد ما بين النهرين، وقد انعكس هذا الانحسار على الفعل الثقافي العراقي الذي انكفأ الى خارج المشهد الصراعي وترك المسائل الوطنية الحية، ملتبسة، وعارية من لبوسها المعرفي وقوتها الأخلاقية، وهي تواجه قوى العولمة الامبريالية النيوليبرالية العاملة على إطفاء آخر شعاع مصارع في حلكة الضياع، وهو العراق. قد لا نأتي بجديد إن أشرنا الى أننا في زمن ثقافي تعدو نهاياته خلف بداياته. والواقع ان التدهور في لغة الثقافة العراقية في الشتات، جاء كنتيجة حتمية لتدهور السياسي، ولتراكم الأحداث التي شتتت وعي هذا الشتات، حتى بدا وكأنهم بالكاد يلتقطون مشهد الانهيار من حولهم أو التعبير عنه دون التحرر من نظرتهم الملتبسة تجاه (استبداد السلطة)، وهو ما قد يخيل للقارئ ان هذه السلطة المستبدة تعبر عن ذاتها في رموز الشتات المعارض الذي يلهث بتعدد اتجاهاته، وفي أماكن تواجده، للاستحواذ على رضى السلطات التي تستضيفه، من لندن الى أنقرة، مرورا بواشنطن وطهران. بوجيز العبارة، ان كثيرا من الأسئلة السيو ثقافية التي يطرحها الشتات العراقي، هي في معظمها من هذا الصنف الذي أدت أفعولاته الى الأوضاع المتردية التي هم عليها اليوم. وكنموذج هو ما يطرحه الباحث كريم عبد في كتابه الموسوم (الدولة المأزومة والعنف الثقافي عراق ما بعد الحقبة الثورية وأسئلة المستقبل)، الذي يشير فيه الى ان الخلل الحقوقي في بنية الدولة العراقية هو الذي رجح ثقافة العنف، يتابع الباحث قوله، على ان طبيعة نظام الدولة وطريقة أدائها تتأثران بنسبة ملحوظة بنوعية الثقافة الاجتماعية السائدة ومستواها. وهو ما نؤيده فيه، ولكن ما يجب التأكيد عليه ان الوقائع تتغير والمستجدات الحياتية والوجودية تتطلب، ونحن على أبواب الألفية الثالثة، مراجعات فكرية موصولة وشاملة للمصطلحات والمفردات والعبارات السائدة.. بل وحتى للقناعات والمسلمات الثابتة لكي يكون الحوار العراقي العراقي، مجديا ما أمكن، ومستبعدا أية قراءات نقدية مكرورة لا تغني العراقيين بشيء. لا شك بأن هذا الخلل الحقوقي في بنية الدولة العراقية، استولد الظواهر الطائفية والمذهبية والاثنية التي يشير إليها الباحث في كتابه، ولكن هذه الظواهر جاءت أيضا كحصيلة انكسار في التصورات والوجدان والمفاهيم لماهية الانتماء الوطني، كما بحكم التفتت الاجتماعي وفقدان سيادة القانون الشرعي واستمرار لوجود سلطة استبداد مغتصبة. هذه الظواهر لمّحت الى مشروعية مستندة الى مسوغات لا تثير الاطمئنان لناحية مشروعها السياسي وجدارته، وقد أحسن الباحث في إشارته الى مأزق هذه المشاريع التفتيتية، بأن هزيمتها تزيدها انكسارا وانتصارها يعني وضع الآخرين في حالة دفاع، وهو ما يفتح الباب أمام انفجارات لاحقة تؤدي الى تقسيم البلد الى كانتونات مذهبية واثنية، الأمر الذي يطرح المأزق الذي تعانيه مسألة الهوية في العراق، وضرورة إعادة النظر بهذه الهوية، كمسألة الانتماء الى العروبة بوصفها منظومة قيم روحية عليا، وسلطة سياسية قدوة قائدة تجسدها ليس إلا. في ضوء ذلك، وجب الانتباه الى ان سؤال الهوية كما يطرح اليوم، هو ترجمة فعلية للصراع الإقليمي والدولي على العراق لتفتيته وشرذمته والتحكم في النتيجة بمقدراته. لذا كان المطلوب من الباحث ان يساوي في قراءته النقدية هذه في عدائه لسلطة الاستبداد كما لمشاريع التفتيت والوقوف في مواجهة طواغيت الإقطاع السياسي والطائفي والاثني، ولكن ليس على أساس (أخذ ورد) كما يشير الباحث، بل على اعتبار ان الأهداف الكبيرة تحتاج لأعمال كبيرة، ولكي لا نكون (طوباويين)، دعني أقل ان استعمال العنف من قبل مشروع سياسي تغييري مواجه لسلطة الإقطاع السياسي والطائفي والمذهبي والاثني، هو أرقى أشكال الفكر هنا. فأين هو المشروع السياسي التغييري عند الباحث كريم عبد؟ وهل عليه ان يكون أسير التنظير كما أصحاب المشاريع الوهمية للشتات العراقي الذين ينظرون في الوطنية الفيدرالية (تقسيم العراق على أساس مذهبي إثني)، أو في المصالحة مع (إسرائيل)؟ هل قرأ الباحث تصريح أحمد الجلبي العميل بامتياز واستعداده لمصالحة دولة الاغتصاب، وهو الذي قال سابقا: ان يهود العراق هم (جواهر التاج العراقي)؟!. وإذ يقرأ الباحث أزمة العراق الداخلية، إلا انه يحيل أسباب هذه الأزمة الى سلطة الطوارئ التي يعيد أصولها الى طبيعة حزب البعث بصفته حزبا انقلابيا. وهو ما نختلف معه فيه، وذلك لسببين: أولا، ان كل الأحزاب في عالمنا العربي هي ذات طبيعة انقلابية بما فيها أحزاب المعارضة العراقية. ثانيا، يجب النظر الى حزب البعث من خلال رؤيته للمجتمع، وسلوكه في المجتمع باعتباره حزبا قوميا عربيا اسلامويا، وهو ما يتعارض وواقع المتحد العراقي المكوّن من مذاهب وطوائف واثنيات، كان قد دفعها هذا الحزب الى الاصطدام بين بعضها البعض، وبينها والسلطة الحاكمة التي سعت لحماية نفسها، لا بالحوار مع فئات المجتمع، بل باستصدار قانون طوارئ و(تحويل الإرهاب الرسمي الى لغة وحيدة للتعامل مع المجتمع). وقد أشار الباحث الى (عنصرية العرب) تجاه الأقليات العراقية، ومنها الكردية، وتأييده لهذه الجماعة العراقية بحق تقرير مصيرها، إلا أننا لم نلاحظ تأييده لحق تقرير مصير: الآشوريين، والتركمان، والكلدان، واليزيديين... الخ؟! يجب قراءة أي مصطلح نتعامل معه وفق مصالح بلادنا، لذلك أراني لا أتفق مع الباحث في رؤيته لمصطلح حق تقرير المصير. إذ لا يحق لكل جماعة عراقية تخاصمت مع السلطة المطالبة بحق تقرير مصيرها، وإلا أصبح العراق مجموع دويلات مذهبية وإثنية، وما أكثرها. هذا مع اعترافنا بأن الدستور العراقي الوحيد في المنطقة الذي اعترف بوجود (قومية كردية) حتى صح القول في ذلك، ان في العراق: عنصرية كبرى تعترف بعنصرية صغرى. كدلالة على اعتراف حزب البعث العربي بالحكم الذاتي للأكراد. ويشير الباحث في سياق متابعته للأزمة العراقية، الى الأحزاب الدينية التي يُعوّل عليها في حكم البلاد، دون ان يعطينا مثالا واحدا لهذه الأحزاب التي تعيش مآزقها منذ بدايات نشوئها، لا سيما انها تحمل نفس الطبيعة الشمولية الواحدة للحكم، بل ولا تختلف في توجهها هذا عن حكم الحزب الواحد. لذلك كنا نتمنى ان يعطينا الباحث مثالا واحدا لهذه الأحزاب أو لقياداتها بدور ما في صياغة دستور سياسي حقوقي واحد للعراق، ولا ندري اذا كان السيد محمد باقر الحكيم حليف أحمد الجلبي، هو نموذجه المحتذى لحكم العراق، وهو الذي حالف الشاه الإيراني المخلوع منذ فترة الخمسينيات ضد العراق وتخرج من تحت إبط الرجعيات في تلك الفترة. في الختام: نقول للباحث كريم عبد، عندما يحتدم الصراع في أي مجتمع، لا بد لمفكريه ومثقفيه من استنباط حلول تزيح عن كاهل الشعب العراقي الانقسامات المذهبية والطائفية والاثنية، على ان يتم ذلك بقيام دولة مدنية علمانية، لا سيما ان الدولة هي مظهر حقوقي من مظاهر الاجتماع البشري. ومن حق العراقيين ان يستنبطوا شكل هذه الدولة عبر فتح حوار ديموقراطي هادئ بين أشكال المعارضة، وبين الحكم العراقي. وهذا لا يعني التنازل لصالح (السلطة المستبدة)، خصوصا ان في داخل كل معارض مستبدا صغيرا، بل لان هذه الأشكال من المعارضة التي رضيت لنفسها محاورة أعداء العراق من بريطانيين وأميركيين وأتراك وإيرانيين..، وحتى (إسرائيليين)، أما كان الأجدى لها محاورة السلطة حتى لو كانت مستبدة؟ صحيح ان الاستبداد متراكم من الجهتين (السلطة والمعارضة)، إلا ان إزالة هذا الاستبداد لا يتم ألا عبر فتح كوة لإدخال حس الحوار حول قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية باعتبارها قضايا موضوعية ومحقة، ولان قيام نظام وطني يحترم هذه العوامل، ويطلق الحريات المسؤولة، هو وحده القادر على معالجة المسألة العراقية الداخلية والخارجية، وذلك قبل ان يفوت الأوان ويصبح العراق الواحد (أعراقا) متصارعة أين منها الحرب اللبنانية الداخلية. إذا كان للفعل الثقافي وجود حي، فإن الحوار معرفة، وعلى المثقف العراقي اعتماد هذا الحوار منطلقا له، ومؤشرا لاتجاهه، ودليلا لمسيرته لمصلحة العراق وشعب العراق. المصدر- السفير - 2003/01/27 |