في "رصيف القيامة" الذي صدر للشاعر ياسين عدنان عن دار المدى بدمشق, يبدو أن الشاعر المغربي قد حسم مع موضوعات ديوانه الأول "مانيكان" وأصرّ أن يقتلها، حيث تحوّلت نساء "مانيكان" إلى جثث. والذي يظن أن للديوان الجديد علاقة بالديوان الأول سيُصاب بخيبة أمل، علماً أن بعض خلايا السأم في "مانيكان" هي التي تفجّرت في "رصيف القيامة" لتُهيمن على أجواء هذا الإصدار الجديد.
فإذا كان ديوان "مانيكان" تجربة شعرية مرحة تشتغل على المرأة وتراهن عليها كموضوع، فإن "رصيف القيامة" يطرد آخر المانيكانات منذ قصيدته الأولى "بحيرة العميان"، فيما تبقى بقية النصوص جافة لا وجود للمرأة فيها على الإطلاق. بل الأكثر من ذلك أن الطرد تجاوز المرأة إلى الحب كشعور إنساني كما في قصيدة "زهرة عبّاد اليأس" حيث يقول الشاعر:
سئمتك أيها العالم
سئمت العيش بالتقسيط
سئمت مصافحة الآخرين
سئمت صباح الخير والبرد
والثرثرات الجرداء
سئمت المشي في هذي الجنازة
الفادحة
التي تُسمّى ,عزاءً, الحياة
سئمت الثامنة مساء
والوردة
والكهرباء
ولم أعد قادراً على الحب.
هذا المسار يربط "رصيف القيامة" مع "مانيكان" لتمتد العلاقة بين الديوانين عبر القطيعة. تغيب المرأة والحب من "رصيف القيامة" ويبقى السأم. يحضر في مقاطع عديدة. السأم الشديد. حيث وطأة المكان كفضاء متصحّر. جاف. قاس. وخال من العلاقات العميقة والحقيقية. وبالتالي فقصائد "رصيف القيامة" مرهونة للمكان والزمان. وإذا كانت هذه القصائد في حالة خصام مع المكان فإنها بالمقابل تنخرط في تأمل عميق في أسئلة الزمن. مما يحقق عبور تجربة ياسين عدنان في ديوانه الجديد من منطقة شعرية إلى أخرى.
فخفة العالم الشعري في قصائد "مانيكان" القصيرة التي كُتبت ربما في فترة "خفة" وتجريب و"مزايدة" تغيب في "رصيف القيامة" حيث أصبحت قصائده طويلة أكثر ومتماسكة أكثر. أما غياب الروح اللعبية المرحة فتعود بالأساس إلى وطأة المكان والزمان كما سبقت الإشارة.
فقصيدة "الطريق إلى عام ألفين" حيث يحضر الزمن كتيمة مركزية ويقول فيها الشاعر على لسان طفل كبر وسافر وفي باله دائماً حديث المعلمة التي نبّهته في طفولته إلى أن العالم سيعرف نهايته في عام ألفين الذي كان ينتظره:
في عام ألفين
ستحدث أشياء كثيرة لهذا العالم
قالت لنا المعلمة
ذات الحجاب الأبيض المطرّز
والعينين المؤمنتين
لكن وبعد سفر في الأمكنة والأزمنة سيكتشف الشاعر الآتي:
لقد قطعت براري العمر لاهثاً
في الطريق إلى
عام ألفين
والآن
بعد كل هذه الأخاديد التي
حفرتها الأيام داخلي
لم يحدث شيء. لم يحدث شيء.
كان الشاعر يترقب نهاية العالم في عام ألفين, ويتوقع تحقق نبوءة المعلمة. لكن هذه النهاية التي لم تحدث تأجّلت فقط إلى النص الموالي "رصيف القيامة" الذي رصد فيه الشاعر قيامة 11 سبتمبر 2001. في هذه القصيدة ربط الشاعر انهيار برجي نيويورك بأسطورة برج بابل. واستحضر ذلك كله في سياق شعري جحيمي مخيف يحيل قارءه مباشرة على "رسالة الغفران" و"الكوميديا الإلهية" وغيرها من النصوص القيامية الكبرى.
يقول الشاعر:
... وكان العازفون ينفخون على النايات أيضا
من مكانهم على غرة التل
كان بعضهم ينزف وهو يعزف على
أوتار مجندلة في نوتاتها
وكان الآخرون يراقبون الكهرباء
وهي تطعن ضوءها الأخير
بشمع القيامة الفتاك.
فعمّ الظلام قلوب الرضّع والغرقى
وحلّقت طيور عظيمة الأجنحة
على علوّ عشرة أقدام.
وعمّ الظلام.
صحيفة "الأيام" المغربية