في مثل أميركا الكبيرة، أميركا الشاسعة والقاسية والفاتنة، بمقدور شاعر سوري شاب، أو مطلق شاعر، إضافة عبارتين جديدتين إلى قصيدته. عبارتين واسعتين بالضرورة، حالمتين على وجه الخصوص، تُضمنّان السطور نكهة المسافة، وطعم العالم (الآخر) وعذوبة التدبير الحرّ الذي تُمليه حياة حرة حدّ الإرباك. يقول قطريب:
(دون أن يكون وحيداً
الهدسون مثل مخطوط سرّي
ينتحب من ثقل الغرقى
زنجي أعمى يدور حول نفسه
كما لو أنه على حافة هاوية
منفردا بحاشية جسده المائل فوق آلته
الموسيقية،
مُغمض العينين،
هائماً كملاك من البرونز) (ص81).
كما يقول الشاعر في موضع وقصيدة أخرى من مشاهداته الأميركية:
(نيويورك ابنة النهر
عربة تجرّها أربعة بغال من الشمع
مقبرة الدموع والسيارات
والأحذية المطاطية
تشهق، كثور مجنّح من الآجر،
قرب صارية
كانت رمح أحد الفرسان القدامى) (ص 82).
هدوء فائض
مجموعة أكرم قطريب الشعرية الأولى صدرت عام 1995 (أكان، أحرث صوتك بناي) و(أقليات الرغبة) صدرت عام 1998، وجديده عن (المؤسسة العربية للدراسات) والذي بين أيدينا الآن هو (مسمّراً إلى النوم كإبن وحيد) كتب معظم قصائده قبل أن يستقر الشاعر في إقامته الحالية الأميركية نيوجرسي. أعني أن انعكاسات تلك الإقامة بانت في قصائد قليلة في إصداره هذا، وهي ذات دلالات تقنية واضحة، وإن شعورية أقلّ.
الذي يقول:
(خطوتك تمتمة خفيفة
ملقية فوق الأرض
خطوتك، حفيدة ضوء القمر/
تحاول أن تنحف.
يبدو أن أميركا هذّبت عبارته، نقّتها من التلميح وذهبت بها إلى المباشرة، الحلوة والمشغولة.
ما تقوله (مسمّرا إلى النوم كإبن وحيد) وما يقوله الشعر فيها، هو تحول الشباب إلى الحكمة، أي تحوّل ابن الثلاثين إلى ثمانيني ذي نظر ثاقب، وقلب مكلوم متعدد الخيبات. إذ لا يلبث الشاعر منذ القصيدة الأولى، يعزل نفسه عن الحياة، ويكتفي بإنشادها. الشعر عنده هو النهارات والليالي بمعانيها المضنية، والحب واللهفة والجسد باختلاف أيضا. العيش عند الشاعر يرفل بعبارات (كبيرة) لا تلتئم فيها غبطة ما، بل تسترسل في مراراتها والقلق سيّد السطور، وليس نحو مكان البهجة يذهب شعر أكرم قطريب بل يجافيها بكل شبابه.
(أبلينا الثلاثين
ونحن نتكئ على الثياب
التي رشحنا منها
أحفادا ضالين بالأنفاس
مخذولين بالجدران
والصرخات المرسومة في زوايا التلف).
يدرج أكرم قطريب نفسه، عباراته وروحه في رغبة الاضطراب الذي يقتلع الوقت العادي والمتخيل لصالح الوقت الموحش والكالح. في قصائده ذلك النزوع المتأصل إلى الحزن بعيدا عن لذة الضحك الذي يجعل الحياة مرئية ومُتفكرة ومقبولة. لا يصنع قطريب قصيدته من عمره، بل من أعمار أجداده ويأخذه في القصيدة هدوء فائض عن حاجة الشعر وسكون باعث على الدهشة من وفرته بين السطور. ينفخ قطريب قصيدته بالأثقال التي تسحقه فعلا، فلا يُنكرها أو يُلطفها بل يذهب بها إلى حزنها الأقصى في قران وثيق مع الصدق كيفما أتى.
مدينة
يتعقّب شاعر (مسمرا إلى النوم كإبن وحيد) الصور والمشاهد غير الصاخبة لكي يُضمنّها قصائده. وهي تأتيه مروّضة هادئة ذات جاذبية وأناقة، تُفصح عن الحياة التي اعتادها الشاعر من دون الرضى بها، ذلك الرضى الذي هو عدوّ الشعر ومقتله.
يكتب قطريب في مدينته دمشق، مقاهيها وشخوصها وفي الحب والأصدقاء وفي الوحدة التي أودعته ملفاتها وأرقامها السرية. وسوف نرى مدينة متخيلة خلف المدينة، ومقاهي أيضا، وأصدقاء غير أولئك الحقيقيين. بمعنى أن جاذبية قصائد قطريب تُكمن في ما يُدخله الشاعر من شقاق على الأشياء والأشخاص والرؤى والحركات والأفكار. ذلك أن نوازعه إلى التمدد والتوسع في حياته الضيقة، هي نوازع عنيدة، حية قادرة على ترتيب حياة أكثر سعة، وبالتالي قصيدة واسعة لا تدّعي القوة بقدر ما تدّعي التماسك بين العبارة والصورة.
يعلّق أكرم قطريب مجموعته الجديدة، الثالثة، على نداء مُلح على الحياة الهاربة منه، على خرسها لكي تخرج من محالها، ويخرج معها بدوره من ضيق يثقل أيامه وقلبه. وقد تصحّ الفتنة على بعض القصائد فيما تعصى على بعضها الآخر، بيد أن حضور الشعر مما لا يمكن إنكاره، بل هو مدعاة انتباه أقصى، ومراهنة أكيدة.
الكتاب: (مسمرا إلى النوم كإبن وحيد)
الكاتب: أكرم قطريب
الناشر: (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)
السفير- 2003/09/02
أقرأ أيضاً: