هذا الشخص الذي ترونه الآن، الذي تقرأونه هنا،
ليس أنا. هو شيء آخر، مركب من كلمات قديمة
رصفت خطأ بعضها فوق بعض. وصل إلي هنا،
هكذا بالصدفة، علي حمالة لغة مريضة. وصل
إلي المرض، إلي المستشفي والمختبرات، وكان
ذاهبا إلي مكان آخر، إلي الحقول، إلي الشواطئ،
إلي المقاهي كي يشرب نبيذا ويغني .
(ص.46. نص الغياب)
إن الذي استرعي اهتمامي أكثر لدي وديع سعادة هو، في حقيقة الأمر، مبدأ الكتابة لديه؛ أبعد من هلامية مضامينه التأملية. فهو، في كتابته، ينـزع منـزع التدميرية الخلاقة، إذ يصدر عن رؤية مؤلمة لمعني الكتابة والوجود، ذلك أنه يلامس في كل التفاتة فكرية جرح الوقوف منتصبا في مهب الحياة التي تهدر في هدوء بلا انقطاع.
لا يكتب من أجل استيفاء حق نغز نرجسي ولكن لأنه قد استطلع بالوجع الأوّلي معرفة مزعجة باستحالة أي ارتياح كلي في هذا العالم.
صحيح أن كتابته لا تصدر عن إتباع أية رؤية نسقية بالمعني الفلسفي أو السياسي. فهي تتمركز خارج الحدود الضيقة للنظرة النقدية الصارمة. وانكتاب فكرته هو أيضا معاناة خاصة لعدم احتمال الخروج من دائرة اللغة لفضح تركيبة الوجود المعوّق، فحاجته إلي اللغة، مع إدراكه التام لعدم جدواها، إضافة عبثية أخرى، دون أن نقترب، بتاتا من فلسفة برغسون في الإندفاع المثالي الخلاق للأشياء.
بهذا المعني يتقاطع إذن لدي وديع سعادة هاجس فلسفي مرهق بانفجارية أفق شعري موغل في قرارة البحث عن معني النفي؛ نفي المسلمات وثوابت المواضعات الإنسانية.
كتب إذن، ضمن كل ما كتب، نص الغياب هذا الذي نقرأه اليوم، وإن أكد هو نفسه أنه ليس صحيحا إمكان استحضار غياب بنص . يتعلق الأمر إذن بكتيب لطيف، تمكن قراءته وإعادة قراءته في زمن وجيز، نص أو لنقل جسد عار من كل بهرجة وألوان فاقعة. إن الشحوب الذي تكتسيه سحنة غلاف هذا النص دليل علي ذائقة خاصة وعلي اختيار وسيلة مثلي للظهور كرغبة جامحة في التلاشي والإمّحاء!
لم يكترث وديع سعادة في مفتتح كتابه بإبرام عهدة أنواعية مع القارئ، فهدفه لا يكمن في الغناء كي يبدي في تقاسيم البدء قوام لحنه الآتي. إن الأمر، كما يضعنا مكره في العتبة رهن الإحتراز، يتعلق بنص وغياب، إذ يكتب في شاهدة المفتتح: إنها الكلمات الأخيرة ... وها أنا أهجرها .
نص الغياب إذن قصيدة مستهزئة بكل الخلافات الإيقاعية وبكل مقاييس قامة الكلمات في السطر، لتسجل شعرية أعمق من كل سفسطة الضوابط التي، ينام حتى المتنبي، في وعيه، ملء عيونه عن شواردها!
لم يتلذذ الشاعر بهجو الكلمات كما لا يستمرئ الملعون وصم لعنته، لذا يتخذ وديع سعادة ذم الكتابة في النص مدخلا للغياب، فهل حقا يقصد ذلك إذ يقول : هل أقول الوداع للكتابة؟ . فهل يقوله؟
ليست أسئلته مجرد اكتواء رومانسي بقلق أثقل من قدرة الوعي الناضج علي مجارتها، بينما هي اختيارات أخري صادرة من حس أعمق بالخسارة ، سواء لدي إدراك لافعالية الكلمات أو سواء تمادي العارف في الهبوط إلي درك شقاوة تأمله القصيّ وتحدي، من أجل شفاء مستحيل، جموح الحرف وفراغ الكهوف المتافيزيقية السفلي.
تلك حال وديع سعادة وهو يسترق لحظة استطلاع حادة إلي حياة الكلمات تحت الجلد، ولصق الظّفر، بمرارة وألم التقصيّ، ودم انجذاب الشوكة من حدود اللحم والروح المتبخّرة.
فـلا حياة بالكلمات إذن
ثمة دائما سؤال يلح كثيرا علي المشتغلين بالأدب ونقاده، يستطلع جدوى الأدب وفائدته وحاجة الناس إليه في حياتهم، ثمة أيضا بالمقابل كثير من الإجابات في هذا الصدد، كل منها ورؤاها في الموضوع، بين من تكبر فائدة الأدب في منظورهم وبين من يشك في مصداقية هذا الفن المتوسط من بين غيره من الفنون!
لكن وديع سعادة لا يصدر مع ذلك من نفس الرؤية للفن واللغة والكتابة، فهو في تأمله يخضع لتألم مفاده تمفصل الكتابة والحياة. ذلك أن الكتابة ـ كما يقول ـ غياب الحياة ، فما الحاجة إليها إذن، ما دامت كما يقول أيضا: دخول في غرفة الموت فيما الحياة تلعب علي الطرقات .
إن وضع تقابل سلبي بهذا الشكل ليس مجرد اعتباطية شعرية مفرطة في المحو والتدمير، بل هو انقياد أساسي إلي لحظة فكرية يعتورها فراغ هائل وارتطام بتفاهة مبدأ الوجود أولا وبخسارة مجد الإنسان علي الأرض. لا الثقافة تستطيع أن تقيم محورا متوازنا لاندفاع الطبيعة ولا السياسة تعي في معظمها هذا الانكسار الوجودي الحاد في عمق مبدأ تأسيس الحضارة وإنشاء أقانيم أخري للسلطة.
فالحياة مهما قلنا أسبق من الكتابة و قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس تحت شجرة أو علي رصيف. ربما تأتي سهوا، بقبلة أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة، لهذا الأمر إذن خطورته في رؤية وديع سعادة، إن الاشتغال بإعادة خلق الكلمات هو نوع من الاختفاء السلبي خلف الحياة.
إن الرسو الآمن علي مشارف الحياة لابد أن يتأتي من التضحية برونق الكلمات، لابد من خنق الكلمات كي تبدأ الحياة. فهل يمكن إطفاؤها إلا بقولها؟ أوليس قولها سبيل إلي إحيائها؟
غير أن وديع سعادة يمضي هو إذ يقول:
أرشّ علي هذا الثوب الذي أرتديه سمّا للكلمات وأركض مجنونا باحثا عن الحياة . فهو بهذا الشكل يري أن تسميم الكلمات هو الطريق القويم. موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولي. لثغها الأول .
ليخيل، هنا، للقارئ أنه بصدد قراءة كرّاس هجاء لاذع للكلمات، للّغة والكتابة والكتّاب. إذ تتهيأ مشروعيته من خلال إسنادها للغياب، للوهم وللموت، إذ الكتابة توجد في العدم، ولا تؤدي إلا إلي العدم. فهي كما يعلن أيما مرة:
لا تسكن في الحياة. مسكنها في مكان آخر. علي الحافة. في المتوهم .
فعن أية كتابة يتحدث الشاعر إذن ؟
عن معني أن يلجأ الإنسان إلي الكلمات كي يؤسس حيّزا للحياة، عن معني الهبوط إلي جحيم الإبداع، وعن عمق المعاناة الخاصة المكتنفة لكل فعل كتابة يشوبه غموض العبث واللاجدوى. لربما لن نستشف ثمة عدمية هنا، إذ يذهب وديع سعادة أبعد في عمق الأشياء، بغض النظر عن نوع الكتابة ومقصديتها وحمولتها الفكرية أو السياسية أو الفلسفية. إن السقوط في فخ التلطخ بالحبر قد يصل بالمعني إلي أقاصي مؤلمة إلي حائط أصم، قبل أن نتحدث عن المثقف العضوي أو عن تقدمية الفكر وحداثة الرؤية.
فالكتابة لديه إذن : بحث متوهم عن حياة متوهمة، (...) . أو هي بالأحرى (...) مرادف للموت .
ثمة إذن مساحة كبري يحتلها الغياب، إن لم يك ثمة تناقض في الأمر، ولربما تمكنا من تلافيه وقلنا : ليس ثمة في عالم الشاعر والكتابة سوي سراب الغياب، فــ الكلام هو خيانة المكان . غير أن الأدهى هو أن المكان هو خيانة الكلام أيضا . لذا يتشبث الشاعر ملء فكيه بفلسفة الغياب: فلأمض إذن . لا كلام ولا مكان لي . ويستشعر حرقة كون الوجود مجرد ظلال باهتة لخيانة ما. يقول: كنت ظلا، كنت كلاما خائنا، فلأمض .
لذا يكتب نص الغياب، فلماذا يكتب بعد أن أدرك أنه يخون؟
ومادمت عرفت، لماذا عليّ أنا النحيل أن أبقي معلقا بهذه الحبال، لا ميتا ولا حيا ؟ نحيل لا يميتني الحبل، ومعلق أبعد قليلا من يد الحياة ! .
إن الشاعر ليس فقط بصدد تفلسف مثالي يسعي فيه إلي سرد لاتوازنات الأشياء ولا منطق الحياة، ولكنه يهدف أيضا من خلال تأمله الخاص إلي القول بفساد مّا وهرم يأتي قبل الآوان، ويدب دبيبه في هيكل اللغة وفي طرائق قول الأشياء وفي قول الأشياء وفي الأشياء !
يعترف إذ يقول: أنا الكاتب أعترف: بحثت في الكتابة طويلا عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟ بديهي أن لا حرية.
تقترن الكتابة إذن لدي وديع سعادة بقيم مّا، فغياب هذه القيم الكبرى هو غياب الحياة وحضورها هو إشراق مرغوب في ديمومته. لكن غياب الحرية والحياة قد يتأتي أيضا بالكتابة، فكيف تحظى بهما معا، أو لماذا ـ مثلما يقول هو نفسه ـ أكتب إذن ؟ مادمت عرفت، ما دمت اكتشفت هذا الوهم ؟ هذه الكذبة ؟ لماذا أكتب ؟ .
إن الانخراط في الكتابة يستدعي الدخول في غياب ممتد لانهائي؛ غياب عن الممتلكات التي تصير منهوبات وعن الدرب الأولي، غبارها. (عن) (...) نجمة الوعود إذ يأتي الغروب (...) .
إن مبدأ النظر إلي الأشياء قد يتجدد، قد تزول طفولته ويكبر حجمها سريعا. فالشاعر لم يكن يدرك في الماضي أوجه أخري للحقيقة، قد يكتشفها لاحقا وقد تفجّر بوصلة تفكيره، يقول : لم أكن في الماضي أعرف كل هذا. كانت الأرض مستديرة، لا أرى مقلبها. الآن الأرض مستطيلة، صحراء شاسعة، وقوافل طويلة من البشر والشجر والبغال، موتي فوقها .
أمام واقع يحضّ علي الغياب ولغة تفضي مباشرة إلي الموت، أمام كل هذا العدم والوهم، لابد من البحث عن باب خلفي، ليس للمساومة بل للنجاة، للتسلح بالموت نفسه مخافة الموت والانطفاء.
فأن نظل هكذا علي قامة المألوف، نرعى وداَّ لعاديات اليومي، نتسرّى بأمان علي ضفة السهل العادي في متناول الآني وثقل المتوارث قد يؤدي بنا إلي العدم، لذلك لابد من إحداث ثورة ما، إذ هي وحدها الجديرة بتماسك ما، وحدها التي تمكن من مراوغة سلطة التلاشي، واقتياد الغياب، إلي حضور مسجل بغياب فزيائي وفلسفي.
فحين يتكلم الكتّاب ويلون عنق اللغة فهم، كما يقول وديع سعادة، يبتلعون الزجاج !
إن أهم آلام الكتابة علي الإطلاق هو الغياب ! فماذا علينا أن نعمل وقد-كما يقول وديع سعادة ـ رأينا في طريقنا مجانين سعداء وحيوانات هانئة. ما دمنا نرغب في تواجد أكيد في تحدّ لغطرسة الغياب، فالكتابة، مهما قال الشاعر وتمادي في ذلك، فهي رغبة في معادة الغياب، في ليّ رقبته وإردائه أرضا. لذا، يلزم أكثر من كان يمكن ، كما يقول: كان يمكن قتل الذاكرة ومرافقة الطيور، تطواف الأرض معها من دون ذاكرة الوصول . أي حلم هذا؟ أية رغبة جامحة من الانفلات من كل الخسارات؛ من كل الرغبات التافهة في عبادة الأوثان التي تلازم حياة الإنسان المعاصر.
كان يمكن التراجع عن كل الرغبات بالغياب، بالإنطواء، بالذهاب عميقا خلف العدم، هناك حيث لا شيء يحدث ولا شيء يمكن أن يجد تعلّة لإعلان انتماء إلي فكرة أو رغبة ما في مطاردة معنيي الوجود والعدم.
كان يمكن ـ كما يقول الشاعر ـ قتل ذاكرة الرغبة، ذاكرة المكان، ذاكرة الخلاص، ذاكرة السعادة، ذاكرة التاريخ... وذاكرة الحياة !!! هكذا يمكن فعل شيء في مواجهة عبثية العدم إن لم نقل عبثية الوجود.
ماذا يمكن أن نعمل، حسب وديع سعادة، كي ننتصر ضد الغياب؛ ضد انزواء الحياة ؟ ماذا يمكن للمرء في هذا العصر الحالي أن يعمل كي يحيا ؛ كي تصير اللغة ملجأ لقول تفاهة العالم دون الإحساس بتعاسة الغياب؟
هل لايحيا سوي الذين نسوا لغة أجدادهم، الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر. الذين نسفوا الملاجئ المقدسة وساروا في المتاهة .
هل لايحيا سوي الذين رموا آباءهم في الآبار؟ .
قد يصدق ذلك، فثمة فكرة أخري عن الغياب، جديرة للتو بالإهتمام، في غياب الآخر وحضور الفرد بالصمت، حياته وتمتعه بها في دفء الوهم وهجر رماد الكلمات. يقول: أليس علي الكتّاب والناس أن يتدفأوا بصمتهم؟ أن يعرفوا أن الصمت هو غرفتهم الوحيدة، وراءها لا حديقة ولا طريق؟ لماذا إذن يهدمون هذا الهيكل، هذا الصمت المقدس، وينامون عراة في الكلام، مرتجفين من البرد وخائبين وخجولين؟ .
إن شقاء الإرتجاف من البرد آوان كل اجتراح تواصل ما هو في الواقع شاهد حي علي اندحار انتظام منطق طبيعي واجتماعي متعارف عليه، إذ يتعلق الأمر في الأحوال العادية، نوعا، بالدفء وليس بالبرد، بالحياة وليس بالموت، فتكون إذن ثمة أخطاء قد حصلت بالصدفة في نواميس الوجود أو هي نتائج أخطاء سالفة تؤكد فداحة مضاعفة لاختراقها ثقل الزمان والمكان.
إن وديع سعادة في تأكيده علي وصول الفرد إلي أماكن لم يقصدها أبدا وانكسار رحلته وتوقفها في معابر غير مرجوة أبدا يوحي بأن ثمة خللا آخر أقوي من الغياب، قدر أن يكتنف فكرة الوجود شغاف هلامي من التيه ومعني الخسارة، لا نقصد بهذا شيئا شبيها بالخطيئة الأولي وتبعاتها علي الجنس البشري حسب المنطق الأسطوري الذي يحفظ بداخله مع ذلك تألق حقائق كبري أهم من سطحية المصرح به في الخطاب، ولكن، شيئا أعمق، أطلق عليه، الوجود بالخطأ كنوع من التسلق غير الحذر للمصطلحات الأرسطية.
لما جاء الشاعر إلي هذا العالم فكان يبتغي أن يرتاح أي: من أجل أن يقعد لا من أجل أن يمشي.
لماذا إذن يجيء؟ مثلما يقول إن كان عليه أن يمشي كل الوقت ويتعب قدميه هكذا بلا جدوى؟ . إن لأمرا جديرا بإبرازه لدي وديع سعادة، وهو استطراده التأملي الحر، فهو لم يذهب عميقا في إرادة التحليل ولم يسقط كذلك في مستنقع التبسيطية أو اللامعنى. فهو يتجاهل أعمدة الفكر الفلسفي ويبدأ من جديد في طرح نفس الأسئلة الأولي، ما يمكن أن يبدو كجهل أو تهافت من غير موقع، لكن بنظرة شعرية أخري، ما يهم فيها، أكثر من غيره، هو طرح السؤال والتأكيد علي ديمومة نتوء عبثي ما ، ينكسر حوله كل الجد النظري وكل التصنع النسقي الممكن.
فتشكيكيته إذن ليست حاجة في النفس أو ألعوبة يلهو بها كي يثير اهتمام الغير.
فوديع سعادة شاعر قبل كل شيء، قد تحرر من أثقال كبيرة بعد إعمال فكري شديد.
إن الكارثة الأكثر لبسا لديه هي فطنته إلي كون الخطأ هو أصل الوجود، لقد جاءت الحياة عبر زوبعة كان يمكن لها أن تنتج شيئا آخر غير هذا الكون، فمجيء الإنسان إلي العالم من أجل أن يمشي علي الأرض إلي الأبد كمحكوم ليس مبررا كافيا لهذا المجيء. فهو يعلن هكذا أن المشيء ليس مبررا كافيا للولادة. ثمة خطأ ما حدث بلا شك وولّد سلسلة طويلة من الأحداث الخطأ. في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ. والخطأ ولّد أخطاء، كان منها الكون .
إن التأكيد هكذا علي جذور الخطأ المضروبة عميقا ما خلف النطفة وحتى ما قبل بذرة الإنفجار الأول للعنصر الحي أو للعناصر المعروفة كأساس الخلق، بهذا يصل وديع سعادة إلي استحالة كتابة نص الغياب، إذ استحال حتى الغياب بالنسبة له، فقد ولد الملوك فهدموا بيوتنا وبنوا منها حيطانا كحلوها بالدم، ولد الأنبياء فأقفلوا ساحتنا مالئينها بردم الأرواح، وداهسين زهرة كفرنا، أجمل زهرة في الأرض .
إن وديع سعادة يتشبث بخاصيته الجميلة في الكتابة ويسمو خفيفا علي كل التفاهات التي صارت هي أيضا الأخطاء الملازمة للإنسان والتي تولدت عن الخطأ الأصل.
يكتب نصه في آخر المطاف ويحرض علي الغياب، علي الطيران بعيدا عن شريعة التكوين، عن أسباب جديدة لأخطاء جديدة كذلك.
إن الشاعر في نصه المنكتب رغما عن محدودية قوة المكتوب، أو حتى عن لامعقولية إرادة إصلاح بدائية العالم بالغياب بالموت وبالنسيان.
أري أن الشاعر قد تمكن هكذا من فك أسر الشعرية الجديدة، وساهم بنص جميل في خلخلة ماء البحيرات الراكدة، إذ أضاف إلي التراكم الحالي زهرة كفره أو فقط ذكراها إذ دهسها الذين لا يحتملون حدائقها.
لأدع إذن وديع سعادة يبدد يأسنا بيأس آخر في مقاطع أجمل إذ يقول:
لتكن لنا نعمة اليأس، نعمة رضي الطيور المخذولة، العالية والبعيدة، النائية عن التطلع إلي الوليمة. ليكن لنا جمال الفريسة، رضي العجز عن الإفتراس، مسحة الجمال الأخيرة للضحية، بسمة قبول الدم.
لنقلب المقاييس، فلنقم للنصر ندبا وللهزيمة زغاريد. لنستهجن العادة التاريخية السمجة، افترار الثغر عن بسمة وقت الفرح، جاعلين النقاط الساقطة من العيون علامة للغبطة، شعارا لمهرجان الإنقلاب العظيم علي التكوين.
نغير كيمياء الروح، هذه التركيبة السيئة التي أثبتت علي مدي التاريخ أخطاء تكوينها.
نجعل الفشل هدفا، الكسل انجازا، العمل مضيعة للوقت، العذابات صديقات، ورفض الحياة قمة عيش الحياة.
نقلب كيمياء الروح، فيتقلص عدد الأعداء.(...) .
إن الألم هو الذي يشكل نسغ شعرية وديع سعادة، إذ ينفتح أكثر فأكثر جرح الحس بالتيه والخطأ كلما انطلت انفجارية المعرفة علي الذهن وصار اكتشاف الوخز الأكبر اكتشاف أخر أن أقسي القسوة ديمومة القلق وانبطاح الرغبات اللانهائي:
رغبات كنت أظنها مجرد أشياء صغيرة في القلب، وإذا بها مجرات .
لذا يصل وديع سعادة في آخر كلمات كتابه، كي يهجرها، إلي:
استحالة أن ينزل الطائر بعد.
أطير أطير، وابتعد.
أصير نقطة ممحوة ... وأختفي .
القدس العربي- 2005/02/22