يحفرُ الشاعر العماني محمد الحارثي في أرض بكر، تسعفه موهبة أصيلة، وتجربة لغوية ثرّة، في ديوانه (لعبة لا تُمل) الصادر عن دار الجمل في ألمانيا (2005)، باحثاً عن أسلوب جديد في الكتابة الشعرية، يقوم على فتح قصيدة النثر على تقنيات فنية لا حصر لها، كأن يستفيد من فن التوزيع الموسيقي، وترتيب العلامات اللغوية على الصفحة البيض وفق تسلسل هارموني، وإقصاء علامات الترقيم، ما عدا النقطة، بين جملة وأخرى، ليعمل الصمت كإيقاع خفي عاكساً ترجيعَ العاطفة. يستعير الشاعر من الرسم حيل التجريد في توزيع الظل والضوء فوق قماش اللوحة، ويجعل من السرد نسيجاً داخلياً للقصيدة، لكنه النسيج المتشظي، المنفلت من عقال التراتبية، حيث القصةُ المقترحة "تنتظرُ عصا الرّاوي/ بين النبع والمصبّ" ص (71). ويلجأ الحارثي إلى التخييل في استحضار أمكنة مجازية، وأحياناً واقعية، يقرنها بزمان السّرد، ثمّ يسوق حوارات على أفواه شخصيات تتحرك كأشباح، لا يبقى من حضورها سوى مزق أحاديث نسمعها في بار أو مقهى أو صحراء شاسعة. وقد تتحول القصيدة إلى بؤرة فياضة، قوامها حركية داخلية من كلمات متسارعة، تجد ضالتها في بلاغتها، كأنما في اقتراب مريب من فن الإيماء، واندماج الراقص بالرقصة، أو الدال بالمدلول.
ومهما يكن من أمر، فإن الحارثي يريد أن يجعل من الشعر مرآةً للكينونة: يحفر بئراً في عبارة ويشرب الرّمز، أو يبني جبلاً في حكاية ويصطاد الترقّب، أو يتحدّث عن حجرٍ يهذي في قصيدة: "هذا حجرٌ/ حجرٌ هذا/ في جبلِ الكلمات" ص (94). أحياناً يغرزُ شمساً في استعارة ويطعن الليل، أو يسمع "عواء ذئبٍ بين لغتين" ص (63)، ثم يباغتنا بطائر غريب، كالصفرد في قصيدة "الصفرد"، الذي ينقضّ على الدلالة، حاملاً بمنقاره المعنى، محلقاً إلى أعالي الدهشة: "لنشويه على شجرةِ المخيلة/ وهو يرفرفُ فوقها بجناح الحياة" ص (10). وقد يخرج منظر طبيعي من لوحة لماتيس أو فان غوغ أو غوغان ويأخذ مكانَ أفق قريب، يعرفه الشاعر عن كثب، كجبل قرب مدينة مسقط أو كثبان متحرك في الربع الخالي، كما في قصيدة (سلحفاة غوغان) حيث "الطبيعة معلّقةً على مخلب" ص (67)، مخلب اللون الذي يظفر به الشاعر تحت "إفريز اللوحة"، غانماً طيف لغز "كان يرعى عشبةً مهجورةً على الضفاف" ص (68). وقد تصبح صخرة سيزيف الشهيرة بالية من كثرة الدحرجة في الكتب، والثعلب ملولاً من كثرة الاستشهاد به في الأحاديث، و"الحبكةُ واضحة/ كلمعة المديةِ في شمس الضحى" ص (64)، وقد يقفزُ نمرٌ ورقي "ويتبخترُ على الطاولةِ" ص (72). ولا بأس أن نطالع معلقةً لامرئ القيس "في نهارٍ تطاردنا فيه كافُ التشبيه..." ص (86) أو نصغي لموسيقى بعيدة "كخرير مياهٍ آسن/ في قصائد كيبلنغ" ص (108). هذه الصور، التي تمزج العادي بالخارق، والسوريالي بالواقعي، تشكل جوهر المخيلة الشعرية لدى محمد الحارثي، حيث تتلاقى المتناقضات، وتتقاطع الحياة مع الكتابة في درجة الصفر القصوى، فنعيش ما نكتب أو نكتبُ ما نعيش، في بحث عن مخرج لمعادلة طرحها مرة الكاتب الأميركي ديفيد ثورو، وبنى عليها فلسفة جديدة، في إحدى قصائده الشهيرة إذ يقول: "حياتي قصيدةٌ وددتُ لو أكتبها/ لكنني لم أستطع أن أحياها وأتكلّمها في الآن عينه". هذا المأزق يغيب الحدود بين الواقع واللغة، حيث تتحول الكائنات في الطبيعة إلى رموز حية في النصوص، نزخرفها وننحتها، وننقح شموسها وأقمارها: "كقصائد شللي الطافية/ أمام عينِ الطائر المحلّق/ نحو صباح لا جدوى/ من تنقيحِ شمسِهِ..." ص (22). من هنا، فإن للمحسوس حيزاً محورياً في نص الشاعر، كما في قصيدة "أرجوحة القط الأسود" حيث الرغبة في دمج الحياتي بالكتابي، والمحسوس بالمجرد تصل ذروتها، عندما يقنص الشاعر بريقاً عابراً في بؤبؤ قط يتأمّل زهرةً صينيةً، مستخلصاً حبكةً من البريق. هذا التلاحم بين المتخيل والحياتي يعبر عنه الشاعر بوضوح في قصيدة أخرى في عنوان "كما في الحياة، كما في الأفلام" معززاً علاقة الصورة بالواقع، والشاشة البيضاء بمصائر تتناسل إلى ما لا نهاية، حيث القصيدة "شيءٌ" نلمسه بأصابعنا ونتذوقه كقهوة الألم: "ولن أدّعي أنّ هذه قصيدةً/ لن أدّعي ذلك حتى.../ بل فنجان قهوة مرّةٍ في الحلق" ص (86).
لكن الحارثي لا يستقرّ على نمط بعينه، وفاءً لفكرة اللعب الشعري التي تؤسس لنظامه الرمزي. وهذا ما تشيرُ إليه قصيدة "لعبة لا تُمَلّ" التي أعطت الديوان اسمه، حيث من بين كل الألعاب المدهشة الأخرى، كالشطرنج أو كرة القدم، كما يقول، لم تناسبه "سوى لعبة واحدة: كتابة هذه القصيدة" ص (31). ولأنّ اللعب الشعري شكل من أشكال الحرية، يختار الحارثي قصيدة النثر نمطاً للكتابة، ولكن بشروطه هو، حيث ينفتح البيت الشعري على مكونات القصة فتأتي القصيدة من بدايتها حتى نهايتها لوحة واحدة متكاملة لا يمكن اقتباس جملة منها بسهولة، فالشاعر يُعنى ظاهرياً بوحدة النص (وليس القصيدة) من حيث تركيزه على النسق العام وليس المقطع الواحد كما في قصيدة "اعتذار للفجر" مثلاً التي يصعب إغفال سطر فيها، فكناية الفجر مبثوثة في كل تضاعيف القصيدة، ولكي ندرك معنى النداء الرائع للفجر، علينا أولاً أن نسمع نداء العصافير يترجّع في قلب الصخرة، بعدما أعياها النسيانُ، والنداء. هنا تكتسب الدلالة أهميتها من سياقها العام، ويتبلور المغزى من النظر إلى ما قبله وما يليه، متشكلاً من هذا التدرج البطيء بأناة وحذر شديدين إلى مآل الموسيقى في نهاية القفلة التي تختمُ القصيدةَ "التي لا تنتهي في الخاتمة" ص (56). هذا الأسلوب هو أقرب إلى بناء القصيدة - الحكاية، من حيث اعتماده حبكة مضمرة تسوق الخطاب الشعري إلى لحظة توتر، وتعزّز الترقبَ إلى أقصاه. لكن الحارثي لا يكتفي بالتشويق، أو "تفخيخ" القصيدة بالترقّب، بل يكسر منطق الجريان الأفقي للنثر، ويحدث صدوعاً في سياق الحبكة، كأن يتذكر حادثة على حين غرة، أو يصف لوحةً تشكيلية، أو يعيد تشكيل نص داخل النص. ولعل الدمج بين أكثر من شخصية، وبعثرة الزمن في أكثر من سياق، يستنهضان فكرة الحداثة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالآني والعابر، وبخلخلة العلاقة بين الدال والمدلول، في نص متعدد الطبقات، تتقاطع في محرقه أزمنة عددية، شعرية وشخصية ورمزية. هذه البنية الموشورية أو الفسيفسائية يعززها استنهاض شخصيات كثيرة، في معظم قصائد المجموعة، حيث ترد أسماء شكسبير، وويتمان، وهمنغواي، وشللي، وزهير بن أبي سلمى، وامرئ القيس، والمتنبي، موظفة في سياقات مختلفة، للتدليل على حقيقة أنّ العالم مصنوع من كلمات نتداولها، أو نكتبها، ومن شخصيات تتكرّر فينا إلى ما لا نهاية.
وتصل البنية الموشورية أوجها في القصيدة الأخيرة تحت عنوان "فسيفساء حواء"، حيث يمثل الأسلوب هنا ذروة التكثيف والدمج، واعتماد تقنيات القطع والحذف والتضمين، مضاءةً بحسّ التجريب العالي، واللجوء، مثلاً، إلى خطوط هندسية ودوائر ومربعات، هي بمثابة رموز، وإلى اعتماد هامش أفقي فعمودي فمائل، لتعزيز ثيمة التكرار والتنويع داخل الخطاب، والكشف عن الطبيعة الأروسية لهاجس العشق، وارتباط الأنثى بدورة الطبيعة وتنوعها الأبدي، في كتابة ما يمكن تسميته "القصيدة - الفسيفساء". من هذا الرنين يبتكر الحارثي أسلوباً حداثياً بامتياز، يجمع بين التلقائية والصعوبة، ويقوم في حقيقته على لا مركزية النص الشعري، من حيث انفتاح هذا النص على أساليب فنية متعددة، تخرجه من بوتقة التعبير الذاتي، وترمي به في أتون اللغة، التي ترى العالم مقروءاً كنصّ في لعبة المجاز التي لا تُمَلّ.
الحياة- يونيو 2005