زهير كاظم عبود

زهير كاظم عبود سنوات الجمر التي جيشت روح الشاعر علي الحازمي تمتد رمالا وبحرا وجنوبا لم تفارق الشمس بين ثلاث سنوات ، سنوات يرعى الحازمي قطيع كلماته المنتشرة بين شمس آب ومحطات الذاكرة صاعداً فوق هديل الحمام مرة ، ومرات بين كفوف السنابل غير أنه يكتب اسمه ومن يعشق فوق ريش أجنحة الحمام ترتيلة من هديله الأخير .

لا تولد الجملة الشعرية عند الحازمي إلا بعد أن تمر بمخاض عسير يطلقها بين تلافيف روحه الهائمة بين رمال الجزيرة المشبعة بالشمس ولهيب الكلمات، لذا يعتصر روحه ويكابد قبل أن يطلقها مع الريح منفلتة من بين أصابعه أو شفاهه المتيبسة ، لكنه لم يزل متمسكاً بأحلامه التي يرويها لعائشة .

ففي قصيدته الأولى التي زين بها مجموعته الشعرية ( الغزالة تشرب صورتها)، الصادرة عن المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء بالمغرب 2004، يطلب الحازمي من حبيبته أن تمر على الغيم فيقول لها :

يا حبيبة مري على الغيم
خذيني إلى شجر الوقت تلويحة
للمنافي البعيدة في ظلك
دعيني أجرب حظي مع الريح
حين تهبّ على عشبنا الحر
لعلي انتزعت السماء الأخيرة
من ريشها
وأتممت سيري لقبلة روحك
فكل الدروب التي سوف تحملني
باتجاه هوانا الجنوبي ...تبدأ من هاهنا

وفي قصيدة عائشة يقول :

حين تغفو سنابل أرواحنا
في هزيع سريرتها القروي
يجيء هواك الجنوبي مزدحما
بالمواويل والأغنيات القريبة
من تعبي

وسيمضي في دروب تكللها الشمس ويكبر مع الحب ويتغرب معه ويعبر الجسور منشدا ماضيا إلى الروح ولو بعد ألف عام ... لكنه مع عائشة ، التي كتب اسمها مع اسمه فوق ريش الحمام وفوق صفحات السنابل مع الهواء الجنوبي الممتلئ مواويل وأغنيات قريبة من التعب .
وفي قصيدة (نبلل أقدامنا .. بالحديث) يقول :

جنوبية ..كانت الريح تحملنا في الشراع
مذ ركبنا على زرقة البحر
والموج معتدل في خطاه

وللجنوب أهميته في جهات روح الحازمي وهو أقربها إلى شغاف القلب ، إذ ليس اعتباطاً أن ترد الجهة الجنوبية ضمن تلافيف القصائد دون أن يدري ، فجهة الجنوب تغفو كما القطة في مخيلة الشاعر ، لا تلبث أن تقفز حال انطلاق القصيدة وازدحامها في الشفاه ، وإذ نربط مقدمته الرائعة حينما يختزل كل معاني الحب وقصائد العشاق المبللة بالندى وجميع الجهات يجمعها في كلمة واحدة لا تتسع لها كل قصائد العمر تلك هي أمه ( حشيمة ) والتي يمنحها سطوة كل جهات العمر وهي التي نذرت روحها لتعطي وهي التي تستحق ذلك .
يكتب الحازمي أشعاره من حافات الروح فيلتقط همومه منها ويوظف أنفاسه وأحاسيسه ،كما أنه يحاول أن يشركنا سوية معه في أسفاره واغترابه غير أنه يتسم بانتقاء الكلمات الشفافة التي تفر من وجعها يتركنا ويعود إلى شمسه الجنوبية

أختار من قلق الفراشة
حول نومك موسماً لقصيدتي
لأظل مشدوداً إلى رؤياك

والحازمي حين يمد شراع القصيدة ويبحر في كلماتها يعتصر الأحاسيس الإنسانية في ابتسامة أو العيون التي يبحر بها أو الجهات التي تغريه دائما ومن أهمها الجنوب ، وللحازمي القدرة في اختزال القصيدة .

لا تتركيني أمام قافيتين
تقتسمان شال قصيدتي
مازال ليلك ممكناً
وفي قصيدة ( لم يكن حظها كافياً ) يقول :
حين مال الخريف على ليلها
وهي تصغي إلى وردتين
تنامان في خدها انطفأت روحه
في هديل المكان
ونام على دفء زهر تخبئه
في صقيع الجسد
كان أقرب من جيدها المرمري
إلى مهبط الصدر
لكنه ظل في نومه صالحا
لم يحاول تحريك أمواجها الراكدة
وإذ نقرر أن نبحر مع الحازمي في مركبة سنمضي مع الريح نردد معا أناشيده الساحلية ونبلل أقدامنا بالحديث نكتب أشعارنا فوق صفحة الشراع دون أن نتلمسها فقد أكد لنا أن الشراع يشرب الكلمات مثلما الغزالة تشرب صورتها ، وجفف أشعاره المبللة برذاذ البحر بالغياب ومضى بعد أن نثر لنا عبقاً من الكلمات المتبرعمة والتي أزهرت بعد أن لامستها الشمس جنوباً .
يفتح أحلامنا ويدخلها دون أن ندري يبحث عن الذاكرة يلف مناديله فوق جرح الزمان ونتوزع معه بين الشواطئ وشمس آب والنخل والفصول العصية وخريف بعيد وغزالة شربت صورتها وعائشة وجناح المخيلة والنساء والفراشات وقوافي القصيدة .

وعلي الحازمي الذي ينثر كل هذا علينا مستمتعاً في ألقه بين كلمات القصيدة شاعر جديرة قصائده بالقراءة وأن ندقق مابين الكلمات ، فهو يكتب حقاً كلمات ممتلئة بالأحاسيس والمشاعر نابعة من دفء الشعر المتوهج في أعماقه ، يدسها حيناً بين مفردات الكلام ، وأخرى بين بوحه وعباراته التي تتضمنها القصائد ، وهو يريد أن يبوح لنا بقصص وحكايا ويرتل لنا ترانيم وأناشيد غاية في العذوبة والرقة غير أنه يدلقها فوق سطح البحر عائمة يلتقطها الطير لكنه والطير والكلمات الطافية متجهين جنوباً مع البحر ، يبدو أنه بدأ يتألق بعد إنجازات شعرية في مجموعته الأولى بوابة الجسد التي نثرها في العام 1993 في مدينة جدة ، وفي مجموعته الثانية التي نثرها عام 2000 في القاهرة بعنوان ( خُسران ) ، مستفيداً من تجربته السابقة ومتطوراً بخطوات ثابتة محرضاً على الجمال والحب بكلمات منتقاة بدقة متناهية تدخل الروح بكل تبجيل .


إقرأ أيضاُ