في ناصرة الجليل التي أقيم فيها الآن، لا أستطيع أن أستلقي على سطح بيت قرميدي، بل من على سرير خشبي في غرفة صغيرة تناجي وحدتي، وعبر شباكي المفتوح تتسلل بقايا نجوم صيفية أخالها هجرت "مدينة الضباب"، وسكنت آمنة ليل مدينتي، فالجدة واحدة ومعتقدات الثآليل راسخة، والنجوم يا صاحبي تدري إنما تخجل أن تبوح .
وتداعب خلجات رياح الصحراء المتوثبة والحاضرة في شخصية البدوي الساكن في لندن ،تداعب مناخ السرد اليومي المتقطع لترصد فصول حكاية داخل حكاية في صفحات جديدة نقلبها في ثنايا الزمن ...
فالريح يا صاحبي لما تزل تتنقل "تحت أكثر من سماء"...
والريح لا تلبث أن تدوّي في فضاء النجوم، لتهزّ السماء الطلساء ولا تخجل أن تبوح، فالثقافة أينما حطت رحالها متينة راسخة وعميقة.
"أمجد ناصر" يدغدغ كعادته الحواس وما خلف الحواس ويحكي "حياة كسرد متقطع". يجدد في الذهن خلايا ويشحذ في الذاكرة أنسجة ويربط في الأطراف خيوطاً . يجمع الصور والملامح والنتف واللقطات الصغيرة في تقنية مثيرة ليجسد التفاصيل العادية في تجربة شيقة وراقية فتصير أشياء كبيرة في شكل سرد أو شبه قصة غير مكتملة أو أسلوب نثر أو قصيدة!
لن أناقش دقة التسمية الجديدة ولتكن ما شئتم وشئنا ،فكله أدب مصفى وفكرة مستحدثة، ومتعة هي اللعبة التي تجمع الحياة اليومية والهوامش المتقطعة في آلية سرد يصل إلى الشعر عن طريق النثر.
وتستيقظ من رقادها لحظات دفينة كادت فينا أن تموت...
وإن كانت الأشياء جميعها ليست سوى تجليات لمظهر واحد أوحد، فقد أدرت في حجرة النسيان الخلفية إبرة المذياع القديم نفسه ماركة "الفيليبس" عله يبعث صمتا مضاعفا يقوي عندي إيقاع الرقص الفردي. فأنا أقرأ حافية ومتيقظة مع كل دويّ وخيال منبثق من هذا السرد المتقطع ليتصل وينسجم عندي في بوتقة الحياة ويتكامل مع ما تاقت إليه نفس القارئ المعاصر.
أوليست "القصيدة التي فكّرت بقصيدة أخرى" في مقهى "كوستا"هي ذاتها التي ولدّت قصيدة أخرى عند شاعر الوطن الآخر.
"ثم أنظر نحو عينيه،
ولكن لا أراه...
فأترك المقهى على عجل.
أفكر:ربما هو قاتل،أو ربما
هو عابر قد ظنّ أني قاتل
هو خائف،وأنا كذلك!
وهل يكون صاحب الكيان الرخوي، اّكل الشوكولاتة في المكتبة العامة والذي أوحى لأمجد ناصر" انه صار كيس شوكولاتة يمدّ إليه يده ويأكله حبة حبة"
هل يكون هو ذاته ذاك الذي أوحى لماركيز في رسالة وداع لأصدقائه أن يتلذذ بالتهام شوكولاتة مثلجة، لو في لحظة عابرة تكرم الله عليه ونسي انه ليس سوى دمية من قش ووهبه المزيد من العمر.
والأم اليوم أين تكون من عالم الشوكولاتة هذا وخصوصيته وظروفه؟!
أخالها اختبأت داخل علبة "ماكنتوش" حديدية مستوردة فأدخلها الأبناء إلى داخل خزانة مقفلة بينما احتفظ الأب بالمفتاح!
"كل شيء على حاله
إلا تلك اليد التي يخضرّ لها التراب."
وبما أن خيري منصور ليس بالكاتب التقليدي أهديته "القمصان الواسعة"، فهل جاء تكريمه الأخير على حدّ قول درويش تهمة في محكمة الحاقدين على الوردة! "وهذه أيضا لا تضيّع وقتك معها".
وإن جلست على حافة "السبعة جسور" وخفت أن يفضح تدلي القدم المسافة
بين الذاكرة والأرض،فقد حملت لي "الرياح التي تسنّ تحته زعانفها" كل عنفوان الجسور التي مجدتها الأقلام على مر العصور، أخص منها "أحلام مستغانمي" وقد تنكرت لها الجسور التي عشقتها وتخلت عنها الأوطان.
وخلف الجسور وفي ما وراء السطور مستعمرات شعرية لا تطلب منا تصريح دخول أو بطاقة هوية.
بدون جواز سفر يدخل العربي نيويورك على شراع القصيدة المؤجلة - قصيدة العبر، فليس شاعرا من لم يجرب حظه من نيويورك.
وأبكي راشد حسين الشاعر الذي مات غريبا وقد تنبأ كبعض الشعراء عن طريقة موته التي جاءت في مهب حريق في أتون نيويورك قبل ما يقارب الثلاثين عاما.
ومن على جسر بروكلين أترحم على "الريحاني" الخالد في "الريحانيات".
"أحبك يا نيويورك على ما فيك من حركة وضجيج وازدحام.
أحبك على ما فيك من غريب الخزعبلات والأوهام.
أحبك وإن كنت لا تحفلين بما يحلمه شعراؤك من جميل الأحلام....
متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ ومتى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟"
وتستفزني الذاكرة في الموعد المضروب مع الثلاثات الثلاث المتراصفة ...
فأخوض معركة عاطفية صامتة ،وأقاوم عادتي في الكلام والابتسام،وأصمت.
فالصمت حالة لغوية وأحيانا جوية تتحكم فيها غيمة مفاجئة للذكرى.
وللقبلة تحليل وأبعاد تؤدي إلى ما هو أبعد من أي شيء عداها.
لقد حان الوقت لنحلل بالمعنى المنطقي أمر القبلة،خصوصيتها جدواها وقيمتها.
"كيف يمكن أن يتوقف الأمر عند هذا الحد عندما تطبق الشفتان على الشفتين ويندفع اللسانان لإيصال بريد الدم الحامي إلى أقصى الثغور ولا يتكلل المسعى بتلك الشهقات،الانتفاضات، تقطع الأنفاس الذي يشبه مفارقة الحياة؟"
ويبقى الأخطل الصغير مرجعاً أولياً لنا في أمور "الهوى والشباب"
"ما كان أحلى قبلات الهوى | إن كنت لا تذكر فاسأل فمك |
إن مرّ سيف بيننا لم نكن | نعلم هل أجرى دمي أو دمك" |
وأصحو من وهلة القبل لتصدمني المفارقة المؤلمة حين كنت تخشى أن تفقد الميزة التي فرضتها عليك الجارة الانكليزية في كونك هنديا لا أردنيا على اعتبار الحياة في الهند أقل فداحة مما هي عليه في الغرب ، فما بالك إذن في الجارة اليهودية وسؤالها في كوني هندية لا فلسطينية .
وهل ستصدم الجارتان من وهلة قول شاعر القطرين مطران:-
"ما الهند إلا روضة كانت لأرقى الخلق مهدا"
على كل حال وما دمنا في نظر سائر الشعوب هنودا لا عربا فلنقطع إذن هذا الحلم المزدوج "وتصبحون على وطن".
Rana_hellou@hotmail.com