مقدمات جيل التسعينات الشعري في الإمارات كانت تتشكل خلال العشرين عاماً الماضية على أيدي عدد من الشعراء والشاعرات كانوا قد ولدوا قبيل أو بعيد قيام دولة الاتحاد، وبالتالي، مع ظهور المؤسسات الثقافية التي كان من أدوارها الرئيسة احتضان هذه الكوكبة من الكتّاب الشباب، وعندما نقول الشباب، فإنما نقارن بين شباب الدولة وبين شباب أبنائها المبدعين خلال ثلاثة عقود نهضت خلالها دولة الإمارات وتجاوزت الزمن وسارعت من بناها التحتية والبشرية والتنموية، ولذلك، عندما يقال ان الإمارات سجلت ازدهاراً حيوياً شاملاً في زمن قياسي، فإن مثل هذا القول لا يأتي من فراغ، فله دلائل ومؤشرات بدءاً من الاقتصاد مروراً بالسياسة وانتهاء بالثقافة.
وقد اشتغل جيل السبعينات وأواخر الستينات من القرن الماضي في الإمارات على نفسه بنوع من العصامية الأدبية والاعتماد على الذات المبدعة، ذلك بأن المحيط الذي وجد ذلك الجيل نفسه فيه كان محيطاً صعباً من حيث الاتصال بعواصم ومراكز الثقافة العربية الى حد ما. ومن أوجه تلك الصعوبة اعتبار منطقة الخليج منطقة إنتاج نفطي فحسب، وليست منطقة إنتاج ثقافي أيضاً.
طبعاً، مثل هذه النظرة كانت مغلوطة في حينها، وسيتم تصحيحها في ما بعد عندما تصبح الإمارات من أهم الأقطار العربية من حيث التنمية الثقافية. يشهد على ذلك تعدد المؤسسات الثقافية وتبني الصحافة للإبداع والمبدعين وانتشار الكتاب الإماراتي وظهور معارض الكتب إضافة الى إنشاء العديد من الجوائز الموجهة الى الطاقة الخلاقة لدى الكتاب المحليين وإخوانهم العرب.
أما جيل الثمانينات في الإمارات فهو الجيل الذي قطف "الثمرة الذهبية" ان جازت العبارة، فقد تأسس اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات وتأسست دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة والمجمع الثقافي في أبوظبي ثم تأسيس ندوة الثقافة والعلوم في دبي. هذا الجيل سيكون بمثابة منصة انطلاق للحراك الثقافي الإماراتي عبر ظهور العديد من كتاب وكاتبات القصة والشعر إضافة الى الانفتاح المتتالي على أشكال الفنون الأخرى ومن أبرزها الفنون التشكيلية والفنون المسرحية.
وكانت تلك الحصيلة هي المقدمات الموضوعية لظهور عدد من الشعراء والشاعرات في مرحلة التسعينات. ومن هذه الأسماء: إبراهيم الملا، الهنوف محمد، عبدالله السبب، مسعود أمر الله (اتجه الى السينما) وخلود المعلا، وغير هؤلاء من شعراء وشاعرات.
نقف هنا عند الشاعرة خلود المعلا لمناسبة صدور ديوانها الثالث قبل أقل من شهر عن "دار الفارابي" في بيروت وبالتعاون مع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. الديوان حمل اسماً لافتاً وهو "هاء الغائب"، وقبل ذلك أصدرت خلود المعلا: "هنا ضيعت الزمن" (1997)، و"وحدك" (1999)، والشاعرة المعلا تحمل بكالوريوس الهندسة المعمارية من جامعة الإمارات، وماجستير في إدارة المشروعات من جامعة ريدنج (بريطانيا) إضافة الى ليسانس لغة عربية من جامعة بيروت.
ومن المفيد ان نذكر التخصصات الجامعية لهذه الشاعرة ذات العقلية العلمية كما يبدو من دراساتها، فعندما يجتمع الشعر والعلم نجد أنفسنا أمام نصوص شديدة التكثيف والإيجاز والاختصار هي أشبه بالإشارات وربما "المعادلات" المضغوطة في عدد قليل من الكلمات ويسمي بعض النقاد هذه الخصيصة "الاقتصاد في اللغة"، وسيظهر ذلك في مجموعة "هاء الغائب" للشاعرة خلود المعلا.
ومع المرور على "تضاريس" هذا الديوان، ربما أمكننا الاستعانة بالعنوان "هاء الغائب" للدخول في مناخات هذه الشاعرة الشابة التي تختار قصيدة النثر بلغة قليلة ووجع كثير.
فالشاعرة، كذات، غائبة تماماً، وصحيح أنها تستخدم ضمير المتكلم كثيراً في هذه النصوص، ولكنها مع ذلك تختفي وتغيب خلف هذا الضمير، أما الشخصية التي تخاطبها المعلا في هذه القصائد. ولنقل "بطل القصائد"، فهو أيضاً "بطل" غائب، ولا يحضر منه إلا "الهاء"، إشارة الى اسم غامض تذوب ملامحه في الشعر، وهذا الغائب قد لا يكون "شخصاً" بعينه، وقد لا يكون "بطلاً" بقدر ما هو فكرة بطل. إنما هناك "معنى" تلمح اليه الشاعرة، وسيظل "الغياب" هو الطابع العام لمجموعة هذه القصائد التي تحول الحب الى زمن، كما ان الشعر هنا إدراك للفراق يصبح فيه الليل ظمأ:
"أنا لليلة للبكاء.. وله
كلانا واحد
والحب فينا زمان مقيم".
ولن تذهب خلود المعلا الى الثرثرة، كما لا يعنيها الركض وراء تداعيات الصورة الشعرية مكتفية بكل هذا الهدوء والقدرة عليه في زمن صاخب مملوء بالأصوات والألوان الفاقعة الحادة، وبالفعل يختفي الصوت واللون في هذه القصائد وكأن الشاعرة تختبر قدرة اللغة القليلة على تعويض ما تتطلبه الأذن والعين.
تبدو قصيدة خلود المعلا ذاهبة الى "المحو"، هي قصيدة أثر صغير معرض للريح، فكأني بها تكتب على وجه الماء أو على وجه الرمل، تكتب بخفة وأناة وتأمل، تكتب بما يباشره ويمليه عليها ضعفها الإنساني الى مجاورة قوتها أيضاً، هذه القوة "الضعيفة" الصغيرة النائية في شعر بالغ الغياب، ومحمل بالأسى الشفيف:
"لم أملك من الوقت ما مضى
لن أملك أساي
موته قابض فجري
والعين جمرة".
لكن "هاء الغائب" ليست هي وحدها خيطنا الذي يدل على "الكائن" الذي يعيش في رحم هذه القصائد. ستعمد الشاعرة الى بعثرة أجزاء اسم هذا الكائن في فضاء شعرها الهادئ الموزون على بحرها هي كشاعرة تستخدم اللغة كما يستخدم الطفل الألوان المائية المنسربة بين أصابعه الناعمة، فالطفل يرسم ولا يعرف المعنى العفوي خلف هذه الرسوم، كذلك، خلود المعلا، ثمة طفولة في هذا الشعر الذي يهرب من الخبرة والاحتراف ولا يريد ان يقدم معرفة كاملة.
وفي هذا الشعر تنفتح الذاكرة أيضاً، تبدو ذاكرة طفولية مداها الزمني ليس طويلاً، ومع ذلك "تستمتع" الشاعرة بجزيرة ذاكرتها، يقول "انريكو ماريوسانتي" في عبارة جميلة له وهو يعلق على شعر "نيرودا" الشعبي الطفولي: "قد لا يكون الانسان جزيرة، لكن ذاكرته هي جزيرة قائمة بذاتها". وفي جزيرة نفسها تتكلم خلود المعلا، تخاطب نفسها وتخاطب غائبها، تحول الكون الى مدينة، وتختبئ في ليلها.
الى ذلك، تحمل هذه القصائد "الخفيفة" ثقلها الخاص، وهو ثقل الشاعرة ذاتها، انه ثقل العاطفة المتأججة، عاطفة الشعر وعاطفة الشاعرة معاً في بوح لا تنقصه جرأة من دون ان تكبّل لغتها بالرمز:
"روحي نصفها نأي وكلها عشق.. فمتى
يدخلُ دياري، ويستقر؟".
هذه العاطفة لا تنكشف في المباشرة والابتذال. تظل تتطهر بما يشبه الطيف الذي يشي بصوفية ناعمة تغلفها مشاعر الغربة ووحشة اللجوء الى الكتابة.
لاجئة، خلود المعلا الى الشعر، هاربة اليه ولائذة به، تجترح من الشعر ليلاً لهدأتها وكتاب مخاطباتها الى الغائب، وربما، كتاب مخاطباتها الى غيابها.
ان مثل هذا الشعر إنما يتعب صاحبه لأنه يبحث عن خصوصية إبداعية، هكذا تريد هذه الشاعرة. إرادة الضعف وإرادة القوة أيضاً، فهي كما تقتصد في اللغة وتصفيها تماماً بطرف عباءتها أو بمنديل أبيض، فهي كذلك، تسعى الى ان تتخلص من أي تأثير خارجي على قصيدتها. تهرب خلود المعلا من المرجعيات ومن الأصوات العالية ومن "اللغة الكبيرة". تهرب الى ذاتها والى غيابه وغيابها في ما يشبه "الترانيم" أو "السونيتات" العابرة والوامضة مثل النجوم البعيدة.
بأقل ما يمكن من الشعر تقول الشعر، لا تبعات كثيرة ولا أعباء، وبالنسبة إليها القصيدة بحيرة في حجم خاتم، فإذا فاضت، أمست قلادة. والى جانب الذاكرة تحافظ على الطفولة، طفولتها التي تكبر مع الزمن، وكأنها خائفة من الزمن وخائفة من غياب هذه الطفولة:
"في الطفولة
والعمر كان، بعده البلاد تهاوت
ضاقت على ساكنيها
قمراً أسود صار ليلي
والحزن أزرق
فهل تهجرني ذاكرتي؟".
وبكلام قليل وخفيف أيضاً تماهياً مع روح هذا الشعر، سنقرأ في "هاء الغائب" رغبة شاعرة تحب ما تكتب. الثقة، أيضاً، ملمح آخر للكتابة، تكتب خلود المعلا بلا اندفاع ولا مبالغة كما لو تصوغ شعرها بالحياء محافظة على روح اللغة التي تتمثلها على أنها "أنثى" أخرى. والقصيدة هنا، امرأة في امرأة، ومكان الشعر هو الغياب. أما الحضور فهو للغياب ذاته. الحضور للذاكرة والطفولة، ولهذه الابتهالات الصوفية من دون إثقال على الشعر الذي يموت بموت خصوصيته.
ثلاث مجموعات شعرية لخلود المعلا في ست سنوات. خبرة متأنية، دقيقة، وخطوات حذرة ولكنها واثقة. وجع الانسان يعتقه ويدفع به الى الثقة بإنسانيته، بإنسانية الشعر وعالميته وشموليته إذا كان هذا الشعر يحكي عن حياة الكائن الغائب والحاضر معاً في مثل هذه الصياغة الإبداعية الهادئة.
جريدة (الخليج- الشارقة- 2003-11-05