مثل هذا الشاعر الكذاب
لم تشهد عيوني
يرسم الكلب... حمامة
ويوازي بين مقهور... وقاهر
فإذا جاء زمان كالأظافر
قال إن العين لا تعلو علي الحاجب...
إن شئت السلامة
من قصيدة وقال في مديح التجربة ، وهي قصيدة تتكوّن من عدّة مقاطع أتوقف في هذه المقالة مع قصيدة الشاعر عزالدين المناصرة لا قناديل فيها ولا أسئلة من ديوانه لا أثق بطائر الوقواق .
هذا الديوان قرأته عدّة مرّات، فغنائيته الريفية الرعوية الجبلية ـ عز الدين من بلدة بني نعيم قضاء الخليل، أو جبل الخليل ـ والذاكرة الطفلية التي تنشد ببراءة في الهواء الطلق، والتي تنطنط وتتقافز في الخلاء بين أشجار الخرّوب ودوالي العنب وحقول الميرمية والبابونغ والزعتر، والولدنة مع البنات ذوات الدلال الخفر، كلّها أعادتني إلي زمن البساطة والألفة مع الطبيعة بكّل عناصرها.
حقّاً : أين الطبيعة، والحب، واحتدام المشاعر وتفلّتها في الكثير ممّا نقرأه من شعر في هذه الأيّام ؟
يعيد المناصرة في هذا الديوان إلي الحياة مفردات طواها النسيان، ويفصّح مفردات عامية، وينعش مفردات هي بين العّامية والفصحى، وهو لا يتقصّد ذلك افتعالاً وادعّاءً، واستعراضاً، ولكن تجربته الطفولية لا يعبّر عنها بغير مفردات هي منها، من زمانها ومكانها وبيئتها.
مفردة (وله) مثلاً تكتنز دلالاً من البنت التي تقولها للولد المحبوب، فيها تحذير غير حازم وإغواء واستدراج لمتابعة الغزل.
ومفردة (كمّست) أي أخذت قبضة في يدي ودحبرتها.. نسيت، وهذا راجع إلي أن طريقة تناول الطعام في زمننا اختلفت، ولكنها ماثلة في ذاكرة الطفل ـ الشاعر عز الدين المناصرة.
يستخدم المناصرة المثل بسلاسة، ينسجه في القصيدة، ويسخّره ليكون مبتدأً للدخول إلي عالمها، أو لتطويرها وتعميق الصلة بينها وبين المتلقّي.
صيّفوا في أريحا وشتّيت في غيمة من دم المذبحة .
من قصيدة: (شكوى خليلي)...
المثل يقول : مثل مصيّفة الغور، لكن المناصرة يفرد المثل، يطوّره بالاتكاء علي خبراته وتجربته ومعايشته للمذابح التي ألمّت بالفلسطينيين.
المفارقة بين تصييفهم الخائب في أريحا التي صيفها صعب لا يطاق، وبين شتائه في دم المذبحة، تذكّر بالخيبة، وتضمر قولاً سياسياً كثيراً.
المناصرة شاعر هجّاء، وحتى يتضّح ما أقوله ولا يساء فهمه، فإن شعر الهجاء يعتبر عند بعض النقاد امتحان الشاعر الكبير الأصيل، ذلك أن شعر الهجاء هو الشعر.
شعر الهجاء ليس شعر شتائم مقذعة، ولكنه الشعر الذي يفضح، يعرّي، يكشف، يري ويري، يغوص في أسباب الخراب والانحطاط.
في قصيدته الأولي التي هي مدخل الديوان لا قناديل فيها ولا أسئلة هجاء مر، سخرية ـ والسخرية والهجاء يتداخلان دائماً، تماماً كما هو الشأن في فن الكاريكاتور. ألم يكن فنّاننا الكبير ناجي العلي هجّاءً كبيراً؟ ألم يدفع ثمن هجائه للقبح والفساد والسفالة؟! ـ من الشعراء الكذبة، ومن الشعر الفارغ من أي معني؟!
المناصرة معني بالشعر لأن الشعر حياته، ولذا عني بقصيدة النثر وأنتج عنها كتاباً ضخماً ضمّ شهادات لكبار النقّاد والشعراء العرب، إلي جانب ذلك فقد عني بالشعر الشعبي اللهجي وكتبه باللهجة اللبنانية والفلسطينية. المناصر شاعر لا يغلق علي نفسه النوافذ، فهو يكتب قصيدة النثر منذ نهاية الستينات، ولأنه مخلص للشعر، حريص عليه فهو يهجو القصيدة الناشفة، والشعر الفارغ، والشعراء الكذب.
فاعلن فعلن.. وفعولن سأحشرها
في المحيط الذي طوّق الدائرة
ثمّ لو شئت أن أتبع الخيط والخّط في رحلة القافلة
لوجدت الخليل يعّض نواجذه ندماً أيها الشعراء
لا يخفي علي القارئ أن الخليل هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع أوزان وبحور الشعر العربي .
ما القصيدة كما يراها المناصرة؟
القصيدة رقص علي صهوة الخيل في الليل قرب جرار النبيذ
القصيدة بوح لرمانها الناضج الوجنتين
القصيدة وحشية القطّة الغامضة
تتعربش في ذيل فستانها
وتخرمش سور المناديل في مرمر الساعدين
القصيدة أرملة فارقت بعلها في ذري بهجة الاحتفال
القصيدة هذا الفراق الذي في دموع المطار
أو لقاء صديق عتيق
فجأة في مقاهي المطار
القصيدة تفّاحتان تنامان في خجل في ثنايا القميص
القصيدة قدس تراها العيون من الغور مثل العروس
نشتهي أن نبوس ولكنها لا تبوس
القصيدة زعلانة مثل أسوارها الناطرة
القصيدة مفترق ومفارقة ساحرة
تشعل الحرب في الدائرة
ما كنت لأغفر لنفسي لو أنني نثرت هذا الشعر الذي ينشد رؤيته للقصيدة بخصوصيتها ،والشعر بعّامة، ولست أعتذر عن طول المقطع لأنه لو اجتزئ لاختّل.
المناصرة لم يكتف بما قاله في القصيدة وعنها، ولذا يعود لينشد:
القصيدة مارقة بكشاكشها وخلاخيلها، فتنة البلبلة
صاحت امرأة الملح: إحذر وله!!!
القصيدة ناشفة لا قناديل فيها ولا أسئلة القصيدة جارحة كانت البارحة
القصيدة صارت بلا كهرباء
ما الذي يشعل الشعراء سوي سفر في المحيطات،
في قاع قاع الزمان
ما الذي يقتل الشعراء سوي حاجز من أقاويل أجدادنا
الراسخة
ينتقل الشاعر الرعوي إلي شعر المدينة الذي نقرأه هذه الأيّام:
المدينة لا صبر فيها سوي الشوك والنرفزة
الحداثة فيها رخام
ضجيج يقول، ولكنه قزقزة
والقزقزة هنا هي قزقزة لب وفشّار كما وصف نجيب محفوظ في أحد أحاديثه السينما المصرية، تعني كلاما فارغا، كلام تزجية وقت، كلام إدّعاء وتنطّع، فذلكة وانشغال بالذات الجوفاء الهاربة من كل ما يحيط بها، وبنا، دون وعي بالحداثة كمنجزات في حياة البشر المعاصرين، منجزات بيننا وبينها بون شاسع.
ولكن، لماذا القصيدة ناشفة؟!
يتساءل المناصرة:
ما الذي يزعج الشعراء سوي أنهم لم يذوقوا
نبيذ الخليل
ولم يرضعوا الماء والعشب والنافذة
القصيدة ناشفة أيها المهرجان!!!
هذه المجموعة الشعرية تثير أسئلة شتّي حول الشعر، ورسالة الشاعر الذي لا يرسم الكلب حمامة، الشاعر الذي يطّل عبر النوافذ علي الحقول بأشجارها وكرومها، علي السماء الفسيحة والأفق الذي بلا حدود، علي احتدام الحياة بالصراع الوجودي مّما يدفعه للانحياز ورفض مقولة أن العين لا تلاطم المخرز لتبرير الخنوع والسقوط والتضحية بالحرية، حرية الوطن والأمّة، ونيل السلامة الشخصية.
في هذه المجموعة المكتنزة الغنيّة شعر تفعيلة، وشعر منثور، وشعر شعبي، وفي كل هذا الشعر أسئلة حياة.
لا أثق بطائر الوقواق، صدرت عن دار مجدلاوي في العام 2004
القدس العربي
2004/12/16
إقرأ أيضاً: