إيتل عدنان مجدداً في مجموعة شعرية بالفرنسية عنوانها "27 تشرين الاول 2003" (*) ترجمها الشاعر التونسي خالد النجار الى العربية بلغة جميلة وشفافة لا تحمل ثقلا لغوياً طناناً، مجنّداً طاقته كلها، وهو في أي حال غير بعيد عن هذا الميل الى التحرر اللغوي، يضع معرفته وثقافته في خدمة قصائد إيتل عدنان، الأقرب الى الهايكو بحسب ما يصفها المترجم، وتتميز باقتضابها غير المكثف حيث الصورة وميض يعبر في خفة وليونة، فلا تتوقف ولا تتأخر عما تبغي الإشارة اليه، بل تمضي سريعاً لتترك أثرها الهادئ إنما المليء بالمعاني والأفكار. كما يرى خالد النجار ان الشاعرة تحرر نصها من أي ارث، سواء أكان استعمارياً أو تراثياً عربياً، وتجعله بلا قوالب في ناحية، وخارج هيمنة الأدب اللغوي من ناحية ثانية.
نقرأ في المقدمة مما قاله الشاعر والمترجم التونسي: "ايتل عدنان الشاعرة العربية، المفردة، والأكثر حداثة في الثلاثين سنة الأخيرة، اجل الأكثر حداثة. والمحاطة بالصمت. هذه الشاعرة عندما كتبت حرّرت النص، وحررت المتخيل، وخرجت على كل المرجعيات الثقافية. فقد تحررت من لغة الأب العربية، فأنت لا تجد لها قوالب، ولا تراكيب، ولا صيغ تراثية كابحة وما يستتبع ذلك من حالات فكرية شبه شيزوفرينية نجدها مستشرية لدى بعض الكتاب المغاربة واللبنانيين. (...) وهكذا صبت إيتل تجاربها في جغرافيا لغوية متباعدة وحيادية فكتبت بالانكليزية، وكأنها أرادت ان تقول من خلال هذا الخيار اللغوي إنها خارج التراث ورموزه (...)".
واذكر عندما قرأتها للمرة الاولى وكتبت عنها ان تواصلي معها كان آنذاك بالانكليزية، وقبل سنين عديدة. لكن مهما تعددت لغة التعبير لدى إيتل عدنان فإنها دوماً نفسها، ولا غرابة في ذلك. فهذه الشاعرة الصامتة والمتفردة، الانكلوفونية والفرنكوفونية في آن واحد، والحرة عيشاً وشعراً، نقع في نصها على التمرد والتفلّت من القيود أيا تكن. تقول في إحدى قصائدها: "في مياه بعض الأنهار ثمة سعادة وحشية"، وهي شبيهة بتلك المياه الجارية في حرية كبيرة ودون تردد، وذلك في شعور من السعادة التي لا يعرفها سوى اولئك الذين يعصون كل شيء. عصيان نجده في قصيدة أخرى شديدة التعبير عن الفرح غير المقيّد لدى الشاعرة: "في وادي يوسيميت، وأنا ما أزال احمل في عينيّ ألوان المحيط الهادئ، دفنت الجوهري وغير الجوهري. هذه السعادة ستستمر بعد موتي". إنها "السعادة الوحشية" التي تحبّذها الشاعرة وتسعى إليها. هي لا تهاب الموت: "أقول لا ارهب الموت لأنني اختبره بعد". تعبير جريء لشاعرة لا تخشى المغامرة ولا ترى الى نهاية الحياة بعين قلقة، بل تهرول في كل اتجاه في حرية مطلقة، كالأنهار في الطبيعة، وبها رغبة هائلة وميلاً عارماً الى التماهي مع "وحشية" العناصر الأربعة، فالموت هنا بلا معنى أو تأثير. لكن ذلك لا يعني من ناحية ثانية ان عدنان لا تواجه العبث واللا-جدوى في حياتها: "وإذ نكتب لا نستطيع ان نغني، وننام لأننا عاجزون عن العيش"، أو: "أكثر الأحيان لا تفيد الذاكرة شيئاً: والفنادق التي انتظرتُ فيها قد اختفت". النوم والتخلي عن الذاكرة سيّان، ففي الحالتين نقع على معاني العبث والعجز واللا جدوى. فالماضي ذهب هدراً وليس في الحاضر سوى الفقدان والتواري والنوم. وإذ تطرّقت الى الكتابة والكلمات، فلأنها عالمها الوحيد المتبقي لها: "الكلمات، لتكون فاعلة تكتسي بأرجوان فينيقيا، وفي الفراغات التي تفصلها عن بعض، تكون المغامرات الكبرى". مغامرة إيتل عدنان الكبرى اختبار عالم الكلمات والشعر وألوانها الفاتنة، تملأ فراغاتها بما يخالجها فن وجرأة وعبث، وبذلك فقط يكون للكلمة فعلها وأثرها. وأثر آخر في جودة الترجمة التي أنجزها خالد على حدّ سواء. صباح زوين
(*) صدرت في منشورات "دار التوباد"، تونس، .2004
النهار - الثلاثاء 17 آب 2004