هرمان هيسّيه (1877 1962)، الكاتب الألماني السويسري الحائز جائزة نوبل سنة ,1946 عرفناه أكثر ما عرفناه روائيا، وخصوصا من خلال كتابيه الشهيرين <زيدارتا> و<بيتر كمنتزيند>، دون أن ننسى كتابا آخر مهماً <ديميان> هذا إذا اقتصرنا على هذه الثلاثة دون تعداد العشرات من مؤلفاته. إضافة إلى الرواية، كتب هيسّيه أيضا القصة القصيرة والشعر، حيث نقرأ <عزلة الإنسان، وزوال الجمال، ونداء الحياة الدائم لنا في لغة رقيقة وهادئة كالأنشودة> كما يقول الناقد كارستنس.
وفي كل ما يكتبه هيسّيه، يعود تقريبا دائما بنا إلى جوهر فكره، وهذا الجوهر نجده في <زيدارتا> خصوصا، وفي <ديميان> أحيانا. ألم يقل في <زيدارتا> الطبعة الألمانية سنة ,2002 صفحة 21: <أما الجوهري، طريق الطرقات، الطريق الأساسي، فلا نجده>؟ وفي الصفحة 34: <لذلك لا أبحث في ترحالي الدائم عن أي تعليم آخر، أو عن أي عقيدة أخرى، إذ أنا على يقين أن ليس ثمة في الحياة من تعليم أو من درس أو عقيدة. فكل ما أحاوله، هو أن أهجر كل المعلمين وكل العقائد، وأن أبلغ هدفي بمفردي وإلا فلأمت>.
تجدر الإشارة إلى أن هرمان هيسّيه أيضا رسام وباحث.
مراحل الحياة
كما تذبل كل زهرة
وكما كل فتوّة
من فتوّات العمر تخفت،
هكذا تزهر كل مرحلة من مراحل الحياة،
وهكذا تزهر في المقابل كل حكمة،
وكل فضيلة،
ولكل واحدة وقتها، ولا يمكنها أن تدوم إلى الأبد.
على القلب أن يكون مستعداً
لكل نداء تناديه به الحياة،
أن يكون مستعداً للرحيل وللوداع
وأن يذهب في كل مرة إلى بداية أخرى،
وبشجاعة، ومن دون أسى،
أن يقيم روابط جديدة.
لكل بداية سحرها الداخلي،
ذلك السحر الذي يحمينا ويساعدنا على الاستمرار في الحياة
يجب أن نتنقل من مكان إلى آخر
بفرح،
فلا نتعلق بأي من الأمكنة وكأنه موطننا،
إذ روح الكون لا يحب أن يقيّدنا
أو أن يضيّق آفاقنا،
بل يريد أن يرفعنا، درجة درجة،
إلى أعلى، إلى أبعد.
بالكاد نكون قد انتمينا إلى أرض ما
أثناء إحدى دورات الحياة،
حتى نتأقلم ونشعر بألفة إزاء المكان،
وصولاً إلى الشعور بتلك الرخاوة المؤذية.
لذا فقط مَن هو مستعد للرحيل والسفر،
يفضّل أن يتخلى عن أي عادة مقيِّدة له.
وقد تأتي ساعتنا الأخيرة،
وتجلب لنا معها، في المقابل، فتوّة أخرى،
إذ ان الحياة لن تكف عن مناداتنا، أبداً،
فماذا تنتظر أيها القلب،
ودّع ما حولك وليرافقك الرشاد.
عن موت طفلٍ
لقد ذهبتَ الآن، أيها الطفل،
ومن الحياة لم تكن قد اختبرتَ شيئاً بعد،
في حين أننا لا نزال نحن ولو في سنيننا الذابلة،
نحن العجزة، لا نزال متعلقين بها.
ونفثة من هنا، ولمحة عين من هناك،
والتمتع بهواء الأرض ونورها،
كان كل هذا ربما كافياً لك، بل كثيراً عليك،
فغرقتَ في نوم عميق، ولم تستفق منه.
ربما عبر هذا الأثر الطفيف وهذه النظرة السريعة،
تراءت لك كل لعبة الحياة
وكل مظاهرها ووجوهها،
ومن هوْلِك لم تلبث أن تراجعت.
وربما، ما إن ستنطفئ عيوننا أيها الطفل،
ما إن ستغيب، سيتبيّن لنا أن عيوننا هذه،
لن تكون قد رأت من الحياة، أيها الطفل،
أكثر مما رأت عيونك أنت.
عند المساء
مساءً، عندما يهدهدني البحر
والنجوم بنورها الشاحب
تمتد على طول الأمواج البعيدة،
أتحرّر كلياً،
أتخلص من كل أفعالي وعواطفي،
وأقف هادئاً بلا حركة،
وبكل بساطة أتنفس فحسب،
وحيداً، وحيداً والبحر يهدهدني،
هذا البحر البارد والمتمدد،
في سكونه وصمته مع آلاف الأضواء
المتلألئة فوقه
ثم أراني أفكّر بأصدقائي
فأُغرق نظرتي في نظراتهم
وأسأل كلاً على حدة:
<هل لا تزال أنت لي؟
هل حزني وألمي بالنسبة لك حزن وألم،
وهل موتي بالنسبة لك موت؟>
وهل لا يبلغك من حبي وشدتي
سوى نفس طفيف وصدى؟
وبكل هدوء ينظر البحر ويصمت،
ثم يبتسم: لا
ولكن لا يأتي لا سلام ولا جواب من أي مكان
إلى الكآبة
إلى النبيذ هربتُ منك وإلى الأصدقاء،
إذ عيناك القائمتان تخيفانني،
فحاولتُ أن أنساك في أحضان الحب وعلى أنغام العود،
أنساك أنا ابنك غير الوفي.
إلا أنك تتبعتني وتعقبتني سراً،
فكنتِ في النبيذ الذي شربتُ منه بكثرة
وأنا في يأسي،
وكنتِ في قيظ لياليّ، ليالي الحب،
وكنتِ حتى في سخريتي، تلك التي توجهتُ بها إليك.
وها أنتِ الآن تبرّدين جوارحي المنهوكة وتأخذين رأسي في حضنك،
وها أنا قد عدتُ من ترحالي إلى موطني:
فكل تيهي لم يكن سوى الطريق إليك.
السفير
2006/10/20