قصائد بشير البكر، الشاعر السوري المقيم في باريس، هي ذكرى مغلقة داخل لغته. يكتفي الشاعر البكر في إصداره "أرض الآخرين" بالحزن التلميحي، مع ذلك ما لا يقال يظل كثيفاً، وإن نائياً في الكلمات، مستقيماً وعميقا ومجموعا بقسوة أو بحنان في القصائد.
أسلوب البكر في "أرض الآخرين" عن "دار الجديد" هو سحر علاقته بالماضي، لا بالتاريخ. وهو سجنه وعزلته في لغة تبدو من حياديتها الشكلية وكأنها تعمل ضد الحنين، أو كأنها الحد البدئي للنسيان، سوى ان القصائد تُفصح سريعاً، عن ألفة استحضار الوقت البعيد، في عملية ربط وثيق بين مزاج الشاعر ولغته.
عند البكر ما يعزز علائق اللغة بموضوعها، ويُرجع الكلام إلى محطات للذكرى تستلزم انقلابا في صياغة الجملة لتحمل ببأس مكامن الوجع. الشاعر البكر في إضاءات متقطعة، يُنير في قصائد أكثر من سواها "وطن"، مثلا حزنا مقيما ووحدة رهيبة تتبدى في أسفار الشاعر وأماكن إقامته الأوتيلات، الإغماء مكان النوم، المتروات والباصات والبرد والوقت المتأخر والبارات ونسائها، ودائما في الروابط التقديرية لعواطف مكبوتة حيال نساء غريبات، من دون اختزالها إلى فعل غرام كامل.
المنفى، الأمكنة الغريبة، أو "أرض الآخرين" كما شاء البكر عنوانا لمجموعته، يفرض على القصائد دلالات لوعة لا تُشفى، وتتابعا من تراكم الفقد والخسارات، فيما تنتصب أرض الطفولة في الذاكرة، ممتلئة بكل إمكاناتها، ذلك ان البكر في قصائده، لا يملك إلا أن يرصّع طفولة غير ممتلئة، وعمر مهدور بالبرد.
يقول البكر في قصيدة "أسفار":
رجل في الزاوية
يكسره الوقت
في منتصف الطريق.
يذهب في ما تبقى
من رائحة الليل الصحراوي
الآتي بأطياف الفرسان
من بعيد
الذي يشمّر عن أحزانه
لحظة إقفال الحانات.
الشقاء كحيوان ثمل
يطل برأسه من جدار الهزيمة. (ص 38)
كتمرين روحي، يأخذ البكر قصائده إلى نهاية مقاصدها باعتبار موطنه الأول ("الجزيرة" بلده في سوريا) الطراوة الوحيدة. بنية القصيدة بالكامل، متأثرة بذلك المكان الأول، من دون اللجوء إلى محتوى البوح. الدلالات هي السيدة وهي التي تقود قصيدة البكر من دون التوقف عند أيديولوجيات رتيبة ونواح علني.
غاية الكتابة عند البكر، هي قلب اللحظة المفزعة والخاوية، وردّها بعبارة بسيطة، إلى ألفة محلومة:
"حين يتحدث الألم إلى الألم منفردا/ بعيدا عن سكان القرى/ قريبا من ضواحي التاريخ/ وسط أرواح المفردات التي تتنفس عبير المنفى/ بين جاليات تشتعل حزناً/ لمستقبل الإنسان الأليف/ الذي سيموت ذات صيف ممسكاً بهدير البحر وبقايا الحنان/".
بوسع قصائد بشير البكر، ان تأتي نصوصا نثرية مُشبعة وغير مقطعة، فتلتم أكثر على مناخها ومعناها من دون اللجوء إلى التقطيع الذي عمد إليه الشاعر، ذلك التقطيع الذي بدا في بعض المواضع كما لو يبتر السطور، رغبة في هندسة قصيدة نثر في شكلها المعروف. هذا ينطبق بالطبع على بعض القصائد في "أرض الآخرين" سوى ان بعضها الآخر كقصيدة: "تحت ظلال التاج" المهداة إلى صموئيل شمعون، وقصيدة "آلام بلاي بوي" و"وطن" وسواها، امتلكت إيقاعها وحساسيتها الخاصة، وفرضت على القارئ طواعيتها وانسجامها وموسيقاها المضبوطة والتي تتنفس جيدا، كامل حساسيتها اللازمة.
اللغة إذاً عند البكر، صافية ومنداة، والأسلوب يكاد يكون أبعد منها، فهو صور ودفق وسيل من الملاحظات الحساسة تتولد في قلوب المستوحدين وفي أقلامهم: "وحده البعيد عن الوهم، يُرسل إشارة خالية من الأسف". أو يقول البكر: "على وشك الأمل، تاركين سماء البيكادللي تتخبط كعربة محطمة في مطب وعر".
قاموس الوحدة يتولد من جسم الشاعر وقلبه وماضيه، ثم يصير ميكانيزم فنه أو شعرِهِ، أو مناجاته السرية و"التيمة" التي ترددت باستمرار داعمة وجوده.. المترنح.
الكتاب: "أرض الآخرين"
الكاتب: بشير البكر
الناشر: "دار الجديد"
السفير
2006/07/11