كأن الحزن والشعر صنوان، حين تكون الذات الشاعرة مهيضة، ومجروحة بأوجاع قد لا تبوح بها الذات العارفة أو لا تقولها أمام الآخرين، فيصبح القول، والحالة كذلك، كشفا لحياة سرية، لكنها عمومية ومعلنة في الآن نفسه. انها صورة الذات الصحيحة في المرايا المخدوشة والمتكسرة.
في ديوانه الجديد، "شمس قليلة"، والصادر حديثاً لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، يواصل الشاعر الأردني زياد العناني الدوران في دوائر ثيماته التي أطل بها في دواوينه السابقة وأهمها "خزانة الأسف" و"تسمية الدموع"، حيث الكائن مقذوف من عدم إلى آخر، وحيث الذات هي الخط الأحمر الوحيد الذي تقف عند حدوده الكائنات والعالم والأشياء.
دوائر العناني مرسومة بالتذكر والأسى والتبرم والاحتجاج، بدءا من هواء النافذة، مرورا بالوجود وخرافة الأوطان والقادة الميامين، وانتهاء بما وراء الطبيعة والسماء. الشعر هنا صرخة يائسة في ليل العالم، لكنها غاضبة أيضا، وتتوالى بمزيد من الرفض والعناد.
منذ ما قبل النص، أي في الإهداء، يتورط قارئ العناني بالنيران التي أشعلت روح الشاعر: "إلى غزيّل السواعير أمي، في جيدها حبل من مسد"، فمن جهة تطل الأم التي رافقت سيرة الشاعر وشجونه في دواوينه السابقة، حتى أصبحت عمودا من أعمدة الوجود الشعري لديه، فيما تبرز، من جهة أخرى، خصيصة أسلوبية في شعرية العناني تتمثل في الاتكاء على ذاكرة النص القرآني، الأمر الذي كان في ديوانه الأسبق، "خزانة الأسف"، قد هزّ قلم الرقيب الأحمر، فمنعه من التداول. مع أن إعادة توظيف النص القرآني في الديوان الجديد، وفي سابقه أيضا، لا تعدو كونها رؤية جمالية، لكنها انقلابية أيضا، من حيث فهم النص بوصفه حالة شعورية يستثمرها الشاعر في بناء مفارقة نصية جديدة تكسب ثيماته بعدا تراجيديا يراد به صرف الاهتمام إلى قداسة الحياة الإنسانية وفردية شاعرها، بوصفها مستوى موازياً ونقيضاً أيضا للسيرة الجماعية السائدة بكل وعيها وقيمها ومحدداتها التي تصادر حرية الفرد. وتظهر تلك المفارقات النصية بأشكال وتوظيفات عدة، منها ما يأخذ شكل القلق الوجودي والاشتباك مع الأفكار الكلية القدرة، كما في قصيدة "لماذا" التي تصوغ عجمتها المعرفية والشعورية بشكل رافض: "عين لكل حادثة/ دمع قليل يمط السماء بسخرية/ ثم يهبط/ يا المختبئ عن كل رؤية/ لماذا يهبط الدمع إلى التراب دائما/ من غير أن يصعد بملحه اللاذع إليك".
وقد تظهر توظيفات أخرى لهوامش النص الديني بما يتلاءم مع رؤية الشاعر في بناء سيرة مضادة تأتي غالبا على نحو ساخر مجروح، وممعن في اتخاذ الخطيئة هوية مكابرة: "بذنوب فاخرة/ اترك كل مجاعاتي تلعب/ بين الشبهات/ فيما الحراس هناك على كتفي/ يبكون من الصوم/ يبكون من القسوة".
الشعر في تجربة العناني عموما سيرة متعددة المستوى، فخلف الوجع الإنساني الشفيف اقانيم متباينة تبدأ برسم بورتريه أولي للشخص، فيما تتعمق حفرياته لتطاول جميع ترسباته المعرفية والسياسية والشعورية، وتغدو الكتابة هنا نوعا من رسم الكائن البشري بكامل مآزقه ومحدداته الوجودية والوجدانية.
الذات الشاعرة حاضرة دائما، حتى ليكاد الشعر هنا لا يكون سوى أغنية فردية تتناول جميع المعاني التي تقلق صاحبها، وذلك ضمن التجوال في الذكريات والهزائم والخيبات الشخصية والعامة على حد سواء، فلا نرى العالم والتاريخ والسيرة الشعورية والحوادث الكبرى إلا من خلال بؤرة غنائية حزينة. عينا الشاعر هما دليل التجربة وحاكمها وجلادها معا. الرفض والمشاكسة هما معيار استنطاق الأشياء، فيما تغلف الرؤية العامة سخرية يائسة مستجلبة من خيبة المعرفة وفجيعة الوقوف على كنه الجوهر وملامسته. وهذا ينسحب في مقايسته من ابسط القضايا إلى أعقد الإشكاليات، فنقرأ في قصيدة "الطاغية" التي تشي بحوادث سياسية درامية دون أن تقولها صراحة: "لم يسقط من فرح/ لم يسقط من سكر./ هي ريح مرت على فزاعته القديمة/ فسقط./ من غير أن تكون له مهابة الصقر/ أو القطة./ كنا في حناجره/ كنا قلوب الطير/ ياه/ كل ذاك الذي كان يؤلمنا/ مجرد ثوب من قماش يوجه مهنة القتل/ بلا أسف ولا دموع./ ياه/ سقط.../ سقط مغشيا على الدولة./ ومضى".
التأريخ للذات سيقود قطعا إلى استحضار المرأة بكامل تجلياتها، والى كتابة الأصدقاء بأسمائهم الصريحة أحيانا، وإغفال ذكرها أحيانا أخرى، انها "ملحمة" الذات اليومية والصغيرة، سيرة الشمس القليلة التي لا تكفي وطنا، وكذا "أسطورة" المرأة والأصدقاء الذين طمرهم الحب والموت معا.
التفكك واندياح الصور القديمة، هما جديد العناني في نظرته إلى الحياة والوجود، فلم تعد الذات ومتعلقاتها، كما في دواوين سابقة، بهيجة تتطلب مزيدا من الانقضاض على الحياة بكل ما في النفس من احتفال وافتراس أيضا، بل هدأت واستقرت تمشي على الأرض شائخة إلى حد العمى أحيانا، والى حد الاكتفاء من الدنيا بتأمل غروبها وتسربها من بين اليدين: "جالسا وأرقب أمي وهي تغسل قلبها بالوضوء كما تقول كل يوم/ أقلب رأسي وأسعى إلى انتحار علني/ يكون على مرأى من حياة الناس الآمنة/ جالسا وأسأل: لماذا يا زياد بقيت عرباتك ناقصة/ لا بلاد في بلادك ولا صلاة في معابدك/ ولا نوم ولا حياة قد تقترحها/ لماذا يا صاحب الدمعة المالحة تعيش/ وبأي عين ستنظر إلى الدنيا/ وقد خسرت كل شيء".
يشار أخيرا إلى أن زياد العناني يعدّ واحدا من ممثلي جيل قصيدة النثر التسعينية في الأردن، وكان اصدر سابقا: "خزانة الأسف"، "في الماء دائما وأرسم الصور"، "كمائن طويلة الأجل"، "مرضى بطول البال"، و"تسمية الدموع".
النهار
الاثنين 10 تموز 2006