تفاجئ جمانة مصطفى القارئ بلغة واثقة تخالف توقعاته الجاهزة والمسبقة عن المستوى الذي يمكن أن تكون عليه مجموعة شعرية أولى. ما تكتبه الشاعرة الأردنية في مجموعتها «غبطة برية» (دار الفارابي)، أنضج من البواكير الاعتيادية. لا يجد القارئ صوتاً ذا نبرة خاصة، لكنّه يلمس نضجاً قد يكون متأتياً من قدرة الشاعرة على فرز ما هو جيد والتقاطه بذكاء، ثم استثماره في منجز شعري شخصي يدين في نضجه لموهبة ذاتية ورغبة في مزج التجربة مع المعجم اللغوي.
لعل السمة الواثقة في هذه الكتابة مصنوعة من هذا المزيج: معجم لغوي قوي، وذات فخور بتجربتها الحياتية. والنتيجة قصائد ومقاطع يميل معظمها إلى القصر والكثافة. الاقتضاب، على أي حال، هو الإستراتيجية الأهم في كتابة هذا النوع من القصائد القصيرة التي تكتفي أحياناً بصورة شعرية واحدة، مثلما هي الحال حين تقول: «كلما بيَّضتُ قصيدةً/ احمرّ وجهي». الصورة الواحدة تصبح، بدورها، إستراتيجية أخرى، بحيث تتألف القصائد الأطول من مجموعة صور مكثفة ومتتالية. القصد أن ثمة نزوعاً إلى التشكيل المشهدي سواء المحسوس أو المجرد. لغة الشاعرة تجد نفسها أكثر في هذا السلوك الشعري القائم على الإيجاز والحذف. هناك تجنب شبه هوسي لكل ما يؤدي إلى الاستطراد والشرح والثرثرة. القارئ يجد المزيد من الصور التي تحاول قول الكثير بأقل ما يمكن من الكلمات. لكن هذه الممارسة تتضمن أيضاً الحفاظ على سوية مقبولة وأحياناً لافتة لهذا الكلام القليل.
الواقع أن الفاعلية الأبرز للشاعرة موجودة في قلب هذه الممارسة. ما يبدو متيناً وذاهباً إلى معناه ومقاصده بدقة ومهارة هو الملعب الذي تبرع فيه مصطفى أكثر من غيره. ولذلك يلاحظ القارئ أن النضج الذي تشيعه قصائدها نابع من هذا الإصرار الشعري على ضغط العبارة وشحنها وتحميلها بأعباء التجربة الذاتية وأعباء المعجم معاً. صحيح أن جزءاً كبيراً من عمل الاقتضاب والمحو يؤدي إلى إنتاج ما يشبه الأقوال الشعرية المأثورة، وصحيح أن متانة عبارتها الشعرية تجرفها أحياناً نحو إنشاءات شحيحة بالشعر، إلا أن ذلك سيكون بمثابة احتياطي ضروري لممارسة شعرية مستقبلية. كذلك فإن كل هذه الملاحظات لا تخفي قدرة الشاعرة على إنجاز مقاطع وصور من الشعر المدهش، فنقرأ: «الفجر/ لأولئك الذين يقفلون الحانات مثلكَ/ أو يصدقون أن الصلاة خير من النوم مثل أمي/ أنصاف البشر مثلي/ يكتفون بالظهيرة». المهم في هذه اللغة أنها تكشف عن سعي مبكر إلى صنع بصمة ما. وإذا كانت جمانة مصطفى مكترثة إلى هذا الحد بتأريخ تجربتها وتوسيع معجمها اللغوي واستثمار تقنيات أسلوبية متعددة، فالأرجح أنها لن تتأخر في العثور على هذه البصمة.
عن الأخبار
الجمعة ١٠ آب- 2007