ثلاثون عاماً، بين قصيدته الأولى وقصيدته الأخيرة، كتب خلالها الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريش نيتشه ديوانه، الصادر لدى "منشورات الجمل" في ألمانيا (ترجمة وتقديم محمد بن صالح)، واطئاً أرض الشعر بقَدَم الفلسفة.
"مرآة هي الحياة"، قال في قصيدته الأولى، و"يركض... كالمجنون لا يعلم أين"، قال في القصيدة الأخيرة: المرآة مبتدأً، والجنون خبراً. هذا الأخير الذي "ختم" به نيتشه آخر أيامه، لا يسعنا في خصوصه سوى ملاحظة بصماته الكبيرة في مجمل هذا الديوان.
طبعاً، في وصف الجنون صفة شعرية. الصحيح أن تلازماً، أو تقابلاً "حرص" نيتشه على إقامته ما بين الشعر والجنون. ويشهد على ذلك عشرات القصائد والنتف الشعرية في هذا الكتاب: "مجرد شاعر مجرد مجنون"، "مجنون في قنوط"، "القوافي كعلاج أو كيف يتعزّى الشعراء العليلون"، "الكتابة بالرِجْل"... في وسعنا الاستطراد في ذلك بالقول إن الشعر، في عرف نيتشه، نوع من "الضلال السعيد".
"عاشق للحقيقة؟ كذا تحسّرتُ/ لا! مجرد شاعر/ ظامئ للأقنعة، عن ذاته يتخفى/ قناع ذاته الممزق! حامل الأقنعة الإلهية". هذا الضلال – الجنون، الذي جعل نيتشه يصرخ: "مجّدوا فيّ أمة المجانين"، هو من جسّد الأنا في حالاتها القصوى: الأنا النيتشوية الساخطة. الغاضبة والراغبة في الضحك. بكلام أقلّ، إنها مزيج من الضحك والتعالي: "من منكم قادر، في الوقت نفسه، على الضحك وعلى التعالي".
هاتان الصفتان هما اللتان قرّبتا هذه الأنا من دعوى ألوهة ما. ولنا أن نخمّن، بعد ذلك، معنى عدم قدرة نيتشه على الإيمان " بإله يعرف الرقص"، وتأكيده، في ما بعد، وجود إله راقص في داخله. الرقص في هذا السياق يشير إلى الاستهزاء، أكثر من المرح. الإله النيتشوي الراقص والضاحك، هو إله مستهزأ لا مَرِح. إله مكابر يحتقر ويزدري: "حتى لو أردتُ السير فوق عيوبي، فسأظل فوقهم وفوق رؤوسهم. لأن الناس غير متساوين: هكذا تقول العدالة".
إذ يتنوع "استخدام" نيتشه للأنا في أشعاره، كما في فلسفته، فلأنها ثابت كل ما كتب وأسُّه: أنا اليائس الأبدي، أنا مثلما النسر حرّ، أنا الذي يهب الأجنحة حتى للحمير، أنا للأذى متعطش، أنا غبار على كل السطوح... إلى آخر الأمثلة التي لا يمكن وقفة نقدية محدودة حصرُها.
مع ذلك، لا يمكننا أن نفوّت تسجيل الملاحظة التالية: شرط الأنا هو شرط الآخر. لكن "آخر" نيتشه هو وجه من وجوه أناه الشديدة المركزية، بل مرآته: "لا أحب أن يكون الآخر بالقرب مني/ ليمضِ إلى الأقاصي والمرتفعات/ بغير ذلك، أنّى له أن يصبح نجمي؟". وفي مكان آخر يقول: "أعرف فكر العديد من الناس/ وأجهل من أكون/ عيني منّي أقرب مما يجب/ لستُ أنا مَن أتأمل".
"لا أستطيع القراءة! لا أستطيع الكتابة إلا نادراً جداً، لا أعاشر أحداً. لا أستطيع سماع الموسيقى. ألمٌ متواصل، وعلى مدى ساعات شعور قريب جداً إلى دوار البحر، شلل نصفي يجعل النطق صعباً بالنسبة إليّ، وعلى سبيل الإلهاء نوبات حادة. آه لو كان في وسعي أن أصف لكم ما هو متواصل في كل ذلك، ألم الرأس المبرّح الذي لا يتوقف، وألم العينين، وهذا الشعور العام بالشلل من الرأس حتى القدمين".
في مطلع العام 1889 يصاب نيتشه بالجنون. قبل ذلك، في وسعنا التأريخ للأمراض التي ألمّت بجسده الهزيل. فقد ورث قصر النظر عن والده، فكانت عيناه، بحسب تعبيره، تغوصان حتى ثلاثة أرباعهما في ليل مظلم، وتتورّمان لأقل مجهود تبذلانه. حتى أنه اضطر منذ شبابه الباكر أن يلجأ إلى من يقرأ له، ويكتب تحت إملائه.
وخلال تأديته الخدمة العسكرية، تحديداً في عامه الثالث والعشرين، يقع من فوق ظهر جواده، فيصاب في صدره. ولدى تطوّعه في حرب السبعين ضد فرنسا ممرّضاً، يصاب بمرض الدوسنتريا. هذا المرض، الذي لازمه طوال حياته، جعله يعتقد أن رسالته انقضت، وأن مغادرته الحياة قد حانت، فكتب إلى أخته: "أعتقد أني أدّيتُ مهمتي في الحياة، كما يؤديها رجل لم يُمنح ما يكفيه من الوقت". بعد ذلك، يصاب نيتشه باليوفوريا، وهي حالة مرضيّة يشعر فيها المرء بالابتهاج من دون سبب ظاهر، وهي عادة ما تسبق الساعات الأخيرة قبل الموت.
من بين مقتلة الآلام هذه، اخترع نيتشه ما يمكن تسميته "فلسفة المرض". في هذه الفلسفة، التي تتجسد في أشعاره أكثر مما في كتاباته النثرية، يرى نيتشه أن المرض هو أول شيء هداه سواء السبيل، لأنه أخلى بينه وبين نفسه، فأمكنه بذلك تعرّفها وفهمها. وأنه، أي المرض، هو مَن أشعره بالصحة: "أنا أعرف الحياة معرفة جيدة، لأني كنت على وشك فقدانها". أيضاً: "كان تمثُّل الصحة وسيلتي إلى الشفاء". لذا كان بدهياً هذا الحضور المرموق للجسد في أشعاره. حتى إن تبدلت أحواله لديه:
"أجمل الأجساد، إن هي إلا حجاب، حيث بحشمة تحجب ما هو أجمل". أولُ هو الجسد، في مفهوم نيتشه. واقفاً على الضد من الفهم الديكارتي لأولية الروح. لذلك لا يتوانى نيتشه عن تمجيد الجسد، وتقديمه على كل ما هو سواه، لأنه صانع الأنا وخبيرها: "أداة لجسدك، هو ذا، يا أخي، عقلك الصغير الذي تسميه روحاً. أداة صغيرة ولعبة لعقلك الكبير. أنا تقول معتزّاً بهذه الكلمة. لكن ما هو أعظم - ما لا تريد اعتقاده - إنما هو جسدك: إنه لا يقول أنا، لكنه يصنع الأنا".
كتب نيتشه القصيدة، والنثر الشعري، والعديد من المقطوعات، أو الشذرات التي لا يمكن تصنيفها.
وفي وسعنا معاينة مراحل ثلاث في هذه المعاناة التي تجاوزت الأربعين عاماً:
الأولى، مرحلة الشباب، التي تقترب القصائد فيها من الرومنسية. لكنها جاءت تقليدية من حيث شكلها، متكئة على المبالغات اللفظية والعاطفية.
الثانية، وهي الممتدة من "ولادة المأساة" إلى "هكذا تكلم زرادشت"، والتي أنجزت قطيعتها مع القصيدة التقليدية، منحازة إلى فن السخرية المرّة، قرأها البعض على أنها رسوم تحضيرية للمقاطع الكبرى التي تؤلف "ديونيزوس الأناشيد"، أثر نيتشه الأخير.
الثالثة، تمتد من "ديونيزوس الأناشيد" إلى آخر سنة في إنتاج نيتشه. وهي مرحلة الشذرات، التي جاءت في معظمها موجزة تعرض أفكاراً سريعة ومكثّفة.
شعر عالٍ ومتكبّر، وهذا سرّه، شعر نيتشه. شعر ذو أنف معقوف، يحتفي بالقوة، ويسطع في صمت. مَن لا يصدّق فليراجع نيتشه نفسه.
قنطرة