يفاجئ الشاعر المغربي محمد الأشعري قراءه ليس بقدرته على مواصلة الكتابة فحسب بل بقدرته على تجاوز نفسه ومقاربة الشعر من زوايا جديدة ومختلفة، على رغم ما يحمله على عاتقه من مسؤوليات سياسية واجتماعــية وثقافية. فالأشعري الذي اختير قبل أكــثر من عقد من الزمن ليكون وزيراً للثقــافة في الممــلكة المغربية كان واحداً من أبرز شعراء جيله وأكثرهم انهماماً بتطوير قصيدته وأغـنائها على المستويين المعرفي والجمالي. لكنّ انخراطه في شؤون الحكم، ولو من الـباب الــــثقافي، جعلنا نخشى على تجربته الابداعية من النضوب أو التراجع حيث أن الشعر لا يحتمل انصرفاً الى شؤون وظيفية وادارية بل يتطلب نفاذاً الى الداخل واصغاء بالغ الرهافة الى الكائنات التي تهوم في سمائه.
تستحق مجموعة محمد الأشعري الجديدة «أجنحة بيضاء.. في قدميها» اذاً أن يحتفل بصدورها، ذلك أن صاحبها لا يكتفي باثبات أهليته الشعرية على رغم جسامة المسؤوليات التي يحملها على عاتقه بل يذهب أبعد من ذلك الى تجاوز تجربته السابقة على ما تحمله من ثراء وتميز. وهذا التجاوز لا ينحصر في الاطار الشكلي الذي يتمثل في مغادرة قصيدة الوزن التفعيلي باتجاه قصيدة النثر، بل يتعدى هذا النطاق ليدخل في البنية والماهية وجوهر الكتابة. واذا كانت بذور الكتاب الجديد متواجدة في شكل أو في آخر في أعمال الشعر السابقة الا أن ما نعثر عليه هنا يبدو على رغم ذلك جديداً وطازجاً على جميع المستويات. إذ ثمة في المجموعة الأخيرة نزوع الى الشعر الصافي الذي يخلو من النتوءات والافاضة غير المبررة بقدر ما يجانب التعسف التأليفي واللغة المجانية. قد يكون لفقدان الأم، التي يهديها الشاعر عمله الأخير الأثر الأوفر في جنوح الشاعر الى الرقة والهمس والرؤية الشفافة الى العالم ومع ذلك فإن شعراء آخرين تعرضوا للمحنة نفسها من دون أن تحملهم الى العوالم التي ارتادها الأشعري. لا بل ان ما يستحق التقدير في هذه المجموعة هو أن الشاعر لم يحول الحدث الى مناسبة للتفجع الصارخ والاسترسال الانشائي بل الى مناسبة للوقوف العميق والصامت أمام وحدته المستجدة وأمام انقطاع حبل السرة بين الانسان ودفء المكان الأصلي الذي تمثله الأمومة «وحتى لو كان المكان شاسعاً/ شسوع بحيرة/ أو غابة/ أو مدينة نائمة/ فإنني لم أكن لأشغل/ سوى هذا الحيز الصغير/ الذي يشبه رحماً/ ليس لأني أحب الزحام/ ولكن فقط لأن الشساعة ترعبني/ والحيز الوحيد الذي يلائم مزاجي/ هو هذا الركن القصي/ حيث تقبع تفاصيلي كلها مثل كلاب ميتة».
تــــبدو القــصائد في مجموعة «أجنحة بيضاء في قدميها» استمراراً للعنوان نفسه أو ترجمة لتلك العلاقة الجدلية بيــن الاقــدام والأجنحة أو بين الأرضي والسماوي. فالأجـــنحة هـــنا ليـــست سوى انحراف بسيط عن فكرة الجنة التي هي بحسب الحديث الشريف، موجودة تحت أقدام الأمهات. كما أن غياب الأم يسحق تحت وطأته كل ما يمكن أن يكون قد لحق بالحياة من أعراض القسوة أو التعقيد أو الاعتداد بالنفس ويمحو بجرّة جثمان كل ما سبقه من خطايا الشاعر وأخطائه. وهو من ناحية أخرى يضع في شكل مباغت حداً نهائياً لذلك الاحساس بالطفولة الذي ينتابنا في حضور الأمهات، أو الجدات قبلهن. حتى اذا فقدناهن أحسسنا فجأة بأعمارنا الحقيقية التي طعنت في الكهولة «لماذا مر العمر مأخوذاً في هذه الزوبعة/ لماذا جعلت طفولتي تتمدد حتى موتك/ وماذا أفعل الآن بهذه الكهولة الطارئة؟». ثمة عالم طيفي يرشح من قصائد محمد الأشعري في هذه المجموعة. فالألفاظ تشف الى مداها الأبعد بقدر ما تشف العبارات نائية بنفسها عن التعقيد والحذلقة. أما الصور الشعرية فتبدو منتزعة من ألبوم أثيري لا مكان فيه سوى للضوء والماء والعشب ونبض القلوب ورفيف الأعين. ثمة أيضاً مجانبة للجمل الاسمية التي تنحو باتجاه التعريفات النهائية أو التوصيف الجامد للأشياء والظواهر. واذا ما حدث أن وجدت فهي تأتي ملحقة بالجمل الفعلية التي تشيع في القصائد مناخاً من التواشيح العاطفي والحركة الدائبة وتبادل الضمائر والأصوات. كما أن الانتقال الدائم بين ضمير المتكلم (الابن) وضمير المخاطب (الأم) يحول الكتابة الى مناجاة بالغة التأثير تتراوح بين الابتهال والعتاب والتضرع والاعتراف والتأبين. أما ما يزيد من شاعرية النصوص فهو ذلك التواتر الايقاعي الذي يضع أمام العبارات فرصاً متساوية للتداعي بحيث تكاد تنعدم الفوارق بين الوزن واللاوزن وتتدفق الكتابة من تلقائها كما لو أنها بلا مؤلف.
لا بد من الاشارة أخيراً الى نسب غامض يربط قصيدة محمد الأشعري بالقصيدة المشرقية وبخاصة في وجهها اللبناني المتصل بتجارب بعض الذين كتبوا بالفرنسية من أمثال جورج شحادة وناديا تويني وصلاح ستيتية. وقد يتمثل القاسم المشترك في ما سميته البحث عن الشعر الصافي ونقاء السريرة الاسلوبية. كما أن هذا النسب يتصل من جهة ثانية بالعالم الرحباني وصوت فيروز المترع بالأصداء والظلال. وهو ما لا يبتعد كثيراً عن قول الأشعري: «لا يفصلني عن باحة الأشجار/ سوى ذئب يعوي/ بعيداً كأنه في طفولة أخرى/ أو في مكان لم يوجد بعد/ بينما الناس يفتحون مظلاتهم/ وهم يمرون تحت الأشجار».
الحياة
28/08/07