فاجأني ديوان فواز القادري "لم تأت الطيور كما وعدتك" (عن "الغاوون") بهذه الشرائح الشعرية، المتواكبة، والمتجاورة والمتواترة بإيقاعات ثرية تجمع بين الصورة الحية والبنية المحكومة. قصائد على علو من الفرادة ومن الخصب بغنائية تتنوع بين الحنين إلى الأمكنة والأشياء وحطامها وأطلالها وزُهُوِّها ذات زمن وبين هذه الإشراقات التي على صفائها لا تتناثر في التجريد ولا تيبس في الملموس ولا تتجمد في المباشرة لحظات تتداخل فيها اللعبة الشعرية (وأسرارها) ومعاناة الشاعر في غرباته (العراقية) من دون خلل في السياق أو الإجتراح أو تقليب الجمل على طبقات متصادمة متشظية، متفجرة، لكن في فضاء ملموس هو فضاء البنية الممتصة اختلاف الحالات والمقادير في ضربات متتابعة توحي تملكاً في الأدوات الشعرية، وخروجاً على كليشيات الغربة والحنين والانتظارات السائدة.
فواز قادري (لا أعرفه شخصياً) امتعني بشعر مشتول، ممسوك، أسراره علنية مضيئة وداخلية حية. عرف كيف يستفيد من إمكاناته وثقافته الشعرية العربية (قديمها وحديثها) والأجنبية من هنا هذا الاتساع في مساحة التجربة ومن هنا هذه الإضافات المتجددة، لا سيما عندما ترفدها تجارب داخلية (عاطفية وإنسانية مرتبطة بتواريخ الشاعر) معيشة. والمعيش هنا مرصد اللغة. واللغة كشاف المعيش. وهذا مهم، لأنه يجرد تعابير قادري من عنصر "المثاقفة" الطاغي، كما نجد عند شعراء آخرين يتراجع عندهم المعيش (بألوانه الشتى) لتتقدم الثقافة في أعمالهم من اقتباس على فراغ أو تأثر بلا طائل. تماماً كهؤلاء الذين كتبوا معيش غيرهم بلغة غيرهم، سواء من "أهل" الريادة أو من الأجيال التالية الذين طلعوا علينا "بنظريات" عشرينية تدعو إلى السهولة باسم مجافاة البلاغة! وعليه وبحسب شعرهم وأفكارهم "المبلوعة" يكون المهلهل أكبر شاعر جاهلي، وأبو العتاهية أكبر شاعر عباسي، والأراجيز أعظم من كل القصائد العربية من المتنبي إلى أبي نواس انسحاباً إلى ابي تمام ولبيد!
قصائد فواز قادري اختراق لهذا النوع من الشعر (الذي لم يصمد بضع سنوات) والقابع في تقليد نفسه وتكرارها وتعزيز للعلاقة الإبداعية مع "اللغة" في الشعر ولا كانت "لا لغة" أي تلك العلاقة التفاعلية بين الشاعر وذاك المخزون الشعري بكل تنويعات وتناقضاته وتناكراته.
فواز قادري استمر في "اللعبة الصعبة" في الشعر.
فالشعر فن الصعب، لا فن الركاكة والاستسهال والإستنماط والإسهال!
الشعر هاوية، فاستمر أيها الشاعر في التوغل فيها بدلاً من أن تختار الطرق المعبدة والمسبوقة.. والأفقية.
المستقبل
السبت 17 تموز 2010