أمس كأنه اليوم.
أراه يحرث الأرض بخطواته الواسعة، وظله الطويل يركض خلفه لاهثاً، ومن صدره المشرع تخرج طرائد حلمه لتسرد على الأمكنة، التي يمر أمامها، جحيمه العذب.
في العام 1970 قال لي صديق مشترك: " تعال معنا هذا المساء لتتعرف على قاسم حداد.. سيعجبك كثيراً ".
لكنه لم يعجبني كثيراً. في الواقع ، لم يحب أحدنا الآخر.
كنت كاتباً مبتدئاً .. خجولاً، متردداً، ولا يحسن التصرف (كما أنا الآن).
وكان هو معروفاً في الوسط الثقافي. كان يعطي ذلك الانطباع بالغرور، بالخشونة، بالصرامة. لكن وحدهم، أصدقاءه المقربين، كانوا يعرفون خطأ هذا الانطباع.
ذات ليلة، كنا جمعاً من الأصدقاء نسهر في بيته، الفقير إلا من رائحة الريحان وأنفاس صديقة. وفي غمرة الضحك والأحاديث الجانبية،انخرط قاسم في بكاء مفاجئ وغامض. صمتنا احتراماً وحيرة، وكل منا يكبح سؤالاً يختلج في داخله.
لم أحاول أبداً أن أعرف لماذا بكى تلك الليلة. لم استفسر. لم يدفعني الفضول، حتى هذه اللحظة، لأن أعرف.
آنذاك فقط شعرت نحوه بالحب. فقد رأيت العذوبة والرهافة خلف مظهره الصارم، ومع بكائه الحلو انكسر السور.
كنت أحتاج إلى وقت لاختراق قناعه، وكان يحتاج إلى وقت لاختراق قناعي. ولم ننتظر طويلاً حتى تغطينا الصداقة بوميضها وبراعمها، حتى تقترن الروح بالروح، حتى يصير أحدنا للآخر ذاتاً أخرى.
***
الحياة خذلته كثيراً ، و ما كان يطلب إلا القليل.
و مَنْ تقاسم معهم الخبز و البوح، انفضوا من حوله بعد أن شبعوا من خبزه وضجروا من بوحه.
في عينيه تترقرق الطعنات التي تأتيه من كل حدب، غير أنه يذرفها مع كل حلم، ومع كل قصيدة.
يمتشق الدعابة وقت اشتداد المحن، جذرها الألم وملحها الخيبة. وبالسخرية اللاذعة يخيط خلواتنا أو سهراتنا. وعندما ترفو الغبطة قلبه، يدغدغ المساءات بدعاباته التي لا تنضب. وتحت مظلة المرح يحنو على أوجاعنا.
كم مرة جاء إليه صديق جريح ليضمد بأهدابه الشفيفة جرحه. و ما من مرة ضمد أحدٌ جراحه. ربما لأنه كتوم. ربما لأن اليأس يحصّن روحه الرهيفة كي يستفرد به في كل هبوب.
***
لن يمسّ الحنانُ روحكَ ما لم تمسّ أصابعه صدغك.
من يعرف قاسم يعرف أنه يمضي كل ضحى إلى المياه، ويعطي ظهره إلى المدينة الشائخة، راضياً أن ترميه بالاغتياب والنميمة، فيضم يديه على حفيف المدّ، ثم يرنو إلى ثلاث أراجيح تتدلى من الأفق.
أخطاؤه؟ لا تحصى .
شوائبه ؟ أيضا لا تحصى.
لكنه أبدا لا يخطئ في الحب.
حسبه أن يكون نديم الكتابة، ودليل الحرف إلى جهة الشعر.
***
أمس كأنه اليوم.
أراه يموّج الصور مستعيناً بمخيلة سخية، ويطحن اللغة لينثرها كالندى. يسرد لهاث القلب وهذيان اليأس الذي لا يأس فيه، ثم يرمي كل هذا أمامي مثلما يرمي المدى جهاته غير المفتوحة، قائلاً :
" هذه جواشني، فماذا لديك؟ ".
هكذا كان كل منا يحرض الآخر، يغويه، ويهيب به أن يفتح باباً للغامض الدليل.
وكلما عبرنا معاً إقليم الكتابة، أضرمنا المرايا، وتبادلنا الحبر والرغيف. وعندما انتهينا من (الجواشن) مسّنا الالتباس ولم نعد نعرف من منا كتب هذا أو ذاك، من منا نصب الفخاخ لجذور المساء أو صاغ لكائنات الغيب لغتها ومآزقها ومصائرها ..كأن ذاتاً واحدة كتبتْ ذلك النص.
كل مبدع، يريد أن ينتج نصه الخاص، يستعين بمخيلته الثرية، برؤاه الفنية و السياسية، بحساسيته الفنية العالية، بروحه الشعرية، بلغته المكتنزة، بالايحاءات و الدلالات، بقدرته المدهشة على توظيف الذاكرة و الحلم ..لكن عندما يقرر أن يتقاسم مع آخر الوقت و الأفكار و الأحلام في كتابة مشتركة، فهو يحتاج الى قدرات ومواهب أخرى .. إذ لابد أن يكون محباً لهذا الآخر، أن يكون مرناً ومنفتحاً، أن يكون مخلصاً للمشروع ومكرساً وقته ودمه لإنجاز ذلك، وأن يكون قادراً على تنقية النفس من الأنانية و النزوع النرجسي.
مع قاسم لا أتقاسم الكتابة وحدها، بل الرغيف و الهواء و الحم.
***
اليوم، يميل أحدنا نحو الآخر قليلاً، نتهامس.. ثم نطلق ضحكة صاخبة يستعصي على الآخرين تأويلها.
(*) نص الشهادة التي قدمها الكاتب في ندوة تكريم قاسم حداد في أصيلة_ 2004