ورقة مقدمة الى ندوة تكريم قاسم حداد
مهرجان أصيلة، المغرب آب (أغسطس) 2004
(1)
تردد مصطلح (المخيلة) عند قاسم حداد على نحو لافت، وفي هذا التردد لم يأت المصطلح مضبوطا بالشكل، وكأنه أتاح له أن يحتمل ضبطين معا، الأول: ( المخيلة ) بفتح الياء واللام، والآخر: ( المخيلة ) بكسرهما ، وعلى هذا وذاك فإن المصطلح ينتمي - اشتقاقيا - إلى مادة (خيل وخيّل)، ومع الفتح تكون الصيغة (أسم مفعول)، أي أنها: مستودع الصور الحسية التي تأتيها من مناطق الحس المحفوظة، كما أنها مستودع المعرفة التي تتأتى من الملاحظة العقلية، ومن ثم تنتمي المخيلة إلى (المنتج) لتمده بما يحتاجه من مفرداتها المادية والمعنوية.
ومع الكسر، تكون الصيغة (اسم فاعل)، ومن ثم تكون فاعليتها إخراجية، أي تخرج ما اختزنته من الصور لتتوجه بها إلى المستقبل، والصيغتان محتملتان في كلام قاسم حداد عن هذا المصطلح.
وأهمية المصطلح في انتمائه إلى المادة المركزية (خال)، وما تفيده من الظن أو الوهم، وما تنتجه من ( التوقع ) الذي قد يصيب، وقد يخيب، وكل ذلك يتيح للدال أن يتدخل تدخلا مباشرا في تشكيل (المخيلة)، فهناك (الخيال) ومنتجاته من التشابهات الحادثة في النوم أو اليقظة، والتي لا تبدأ مهمتها التنفيذية إلا بعد غياب المادة، مع الاحتفاظ بصورها، ومن ثم تصبح المخيلة (خزانة) المعرفة الحسية (1).
وتنتج المادة المركزية - أيضا - (التخيل) و (التخييل)، حيث ينتمي الدال الأول إلى المبدع واتكائه على المخيلة، أما الدال الثاني، فينتمي إلى المتلقي وقدراته على الاستقبال، وليس هناك من أداة للربط بين الطرفين (المبدع والمتلقي) سوى اللغة بوصفها جسر العبور إلى المراجع الواقعية والفنية.
ويبدو أن الفارابي كان سابقا في ربط دال (التخيل) بالقول الشعري، حيث يقول: "ويبتدئ مع نشوء ( الصناعات القياسية ) أو بعد نشأتها، استعمال مثالات المعاني وخيالاتها مفهمة لها، أو بدلا منها، فتحدث المعاني الشعرية، ولا يزال ينمو ذلك قليلا قليلا إلى أن يحدث الشعر ... لما في فطرة الإنسان من تحري الترتيب والنظام في كل شيء" (2).
أما ابن سينا، فقد عرف الكلام المخيل بأنه: "هو الكلام الذي تذعن له النفس، فتنبسط عن أمور، وتنقبض عن أمور، من غير رؤية وفكر واختيار، وهذا الكلام المخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية" (3).
وقد أفاد جمهور النقاد والبلاغيين العرب من هذا المدخل في ربط الشعر بالتخيل والخيال، وفي مقدمتهم عبد القاهر الجرجاني، ومن ثم صار (التخيل) هو الفارق المركزي بين الشعر والنثر.
ويلاحظ أن أبا هلال العسكري قد أهتم بالتفريق بين التصور والتخيل، فالتصور يعمل على مواجهة الصور حال ثباتها، أما التخيل، فإنه يعمل على نقل الصور من الثبات إلى التغير، أو التعديل في الصور بالزيادة والحذف، ذلك أن التخيل _ عنده _ "تصور الشيء على بعض من أوصافه دون بعض، والتخيل والتوهم ينافيان العلم" (4).
أما الزمخشرى، فإنه يربط التخيل بعالم (المرآة)، فالمرآة لا تتعلق بحقائق الأشياء، وإنما بصورها المتوهمة، فلا أقول: ظهرت الصورة في المرآة، وإنما ظهر خيالها في المرآة (5) .
وفي بدايات الحداثة، ارتبط (التخيل) برفض الواقعية، على معنى أن الإبداع لم يعد معنيا بتحقيق التماثل بين (المقول) ومرجعيته الواقعية، إذ الإبداع له استقلاله الذي يعلو به على الواقع ذاته، وتبع ذلك تعديل مفهوم (المحاكاة)، فلم تعد تمثيلا للواقع الخارجي، وإنما رصد وقعه على المخيلة بوصف المخيلة مخزنا للصور والأخيلة التي تراكمت ومثّلت سجلا (للأنا) بكل تجاربها وخبراتها ومواقفها.
(2)
وبرغم أن ارتباط الشعرية بالمخيلة موغل في القدم منذ أن قال امرؤ القيس:
لعمرك ما إن ضرنى وسط حمير وأقوالها إلا المخيَلَة والسّكر
صحيح أن المادة هنا تستدعي مرجعيتها من (الخيلاء)، لكن مصاحبتها (للسكر) يمكن أن يربطها بالقول التخييلى.
برغم ذلك فإن مادة (الخيال) تكاد تكون حاضرة في المدونة الشعرية العربية منذ بواكيرها حتى اليوم، لكن قاسم حداد هو الذي رفع لواء المصطلح (المخيلة)، وجعله الباب الشرعي لمدونته الشعرية، ومن توابع هذا المصطلح، أو من مقدماته مفردة (الخيال) التي جاء ترددها الأول في ديوانه (البشارة)، في نص (قولي لنا يا شهرزاد) المؤرخ في مارس سنة 1967:
نهر الدموع على خدود الليل سال
وشهرزاد عباءتها الممزقة السواد
لتقول في عين النهار
قصص الحقيقة حين ينتحر الخيال (6)
وانتحار الخيال - هنا - لحساب الحقيقة المأساوية، ترتب عليه إسقاط هذا الخيال لمواجهة الواقع الدامى في الديوان نفسه في نص (عن الصليب والقمر):
فنفضت الذل عن رأسي وأسقط الخيال
ثم عانقت صليبي (7)
وتغيب المادة اللغوية في الدواوين التالية (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة) سنة 1972، و (الدم الثاني) سنة 1975، و (قلب الحب) سنة 1980، و (القيامة) سنة 1980، و (شظايا) سنة 1981، لتعود مفردة (الخيال) للحضور في (انتماءات) سنة 1982، لكن الحضور كان تمهيدا لإعطاء هذا الخيال قدرة رؤية الواقع خلال استدعاء الصور المخزونة بعد تحريفها عن صورتها المادية:
كأن الجبال
تماثيل ممسوخة، والنجوم
عصافير مرسومة في الخيال (8)
ومع مباعدة الصورة المستدعاة عن أصلها الواقعي، يتحول (الخيال) أداة لتوحد الذات بمخزونها التراكمي:
لبست المدينة
وهيأتها للجمال
وذوبتها في الخيال (9)
وتغيب المفردة (الخيال) وتوابعها عن ديوان (النهروان) سنة 1988، لتعود إلى التردد في (الجواشن) سنة 1989، ومعها ظهر مصطلح (المخيلة) على نحو لافت، ثم تعاود التردد في (عزلة الملكات) سنة 1992، ثلاث مرات، ثم يرتفع التردد إلى أربع مرات في (قبر قاسم) سنة 1997، ويعود للهبوط إلى مرتين في (علاج المسافة) سنة 2000.
وحضور مصطلح المخيلة، ضيق منافذ التردد أمام مفردة (الخيال)، فترددت في ديوان (يمشي مخفورا بالوعول) سنة 1988 مرة واحدة، وفي ديوان (أخبار مجنون ليلى) سنة 1996 مرتين.
ومحدودية التردد لمصطلح (المخيلة) في النص الشعري، يقابلها ارتفاع التردد في النص النثري، سواء أكان النص كتابا محددا، أم كان النص حديثا صحفيا، فقد تردد المصطلح في نص (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) سنة 1997 أربع عشرة مرة، وفي (ورشة الأمل) سنة 2004 عشر مرات، أما الأحاديث الصحفية فلا يكاد يخلو حديث منها من استحضار (المخيلة).
(3)
وقد حصرت هذه القراءة نفسها في مفردة (المخيلة)، دون متابعة اشتقاقات (خال وخيل)، كما أن القراءة توجهت - أولا-إلى النص الشعري، ثم ثنت بالنص النثري، ذلك أن النص النثري يمثل - من وجهة نظرنا - حاشية على النص الشعري، والمتن يسبق الحاشية ضرورة.
وبرغم أن تردد المصطلح على نحو لافت كان في نص (الجواشن)، فإننا سوف نتجاوزه بوصفه إنتاجا مشتركا بين قاسم حداد وأمين صالح، ولم تتحدد فيه - رسميا - انتماءات دفقاته لهذا أو ذاك، وإن كانت القراءة المتأملة يمكن أن ترد كل دفقة إلى منتجها.
بداية التردد إذن كانت مع ديوان (عزلة الملكات) أي بعد مرور أكثر من عشرين عاما على البدايات الشعرية لقاسم حداد، وجاء التردد الأول في نص (لغة) ليربط المصطلح بها، قريبا مما قرره ابن سينا فيما سبق أن ذكرناه في أن عماد (التخييل) الشعري يحتوي (مقاطع الألفاظ المفردة والمركبة)، يقول نص قاسم:
جعلت هذه اللغة ملكة تخدم العبيد
جعلت البريق الباقي بوابات ليس لها عد
مفتوحة على كل الطرق
وأرخيت لخيول أحلامي دهشة السهول
وعشب المخيلة (10)
ثم تردد المصطلح مصطحبا مفاهيم ابن سينا - أيضا - في قدرة المخيلة على استحضار ما تلتذ به الذات، كما في نص (البحارة)، حيث يقول:
كان لنا أن نعبئ الحرب في المستنقعات
وننساب في جرأة الموج
ونحشو مدفأة الكوخ بالمبتكرات
ومحظيات المخيلة (11)
ثم استحضار ما تتألم منه، كما في نص (ابتهال):
أرغب في حمى تلهب أعضائي دون هوادة
وليس لمدخرات اليقظة أن تحرمني
من جحيم المخيلة (12)
ويتردد المصطلح في (قبر قاسم) أربع مرات، بوصف (المخيلة) خزينة لو أرادت الحس على وجه العموم، ما كان مقدسا، وما خرج من دائرة القداسة، وهذه الخزينة كنز النائم التي يستمد منها ما يحتاجه من تصورات:
هذا هو الصهيل
جنة تمزج ثلجة المحراب بحجارة أكثر جمالاً وقدسية
تدل النائم على ذخيرة المخيلة (13)
وأهمية المخيلة أنها قاسم مشترك لجموع الناس:
تظاهري بالغفلة،
لكن لا تغفلي عن كنزك، جنة تمرح في مخيلة الناس (14)
بل إنها قاسم مشترك للكائن الحيواني أيضا:
أقبية خفرتها يقظة الحيوان،
مخلوقات مشحوذة بالمخيلة (15)
وتحضر المخيلة إلى عالم الطفولة بممتلكاته السحرية:
والأطفال يعتقدون بالجنية الزرقاء
والباقي لنا من جنة الأخطاء
كي نبكي
مخيلة وقنديل ومحتملان (16)
وينتقل التردد الشعري (للمخيلة) إلى (علاج المسافة)، حيث تشتبك المخلة بكائن نباتي له حضوره الطاغي في خطاب قاسم حداد على وجه العموم، هو (الزعفران):
آخينا زعفرانة البحر
وهي تخرج عن خبيئة الجبل
تزخرف مخيلة الغابة
وتمنح الغريب وردة الليل (17)
ويبدو أن المخيلة لم تكن دائما في حالة نشاط وتجدد، بل تنتابها - أحيانا - لحظات كسل وخمول، وكأنها تسعى للخلاص من أحوالها الدامية:
تنحدر بك حشود الشارع في ليل واضح
في ذبائح مهدورة
في ماء قديم يأسن
في ذخيرة مبتلة بزفير التجربة
في غفلة البصيرة وكسل المخيلة (18)
(4)
وتردد المصطلح في النص الشعري، تردد محدود بالنسبة لتردده في النص النثري عموماً، ففي مدونة قاسم حداد (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) تردد مصطلح (المخيلة) أربع عشرة مرة مشحوناً بمفاهيم متعددة، لكنها متآزرة، ومتابعتها تقودنا إلى تحديد الوظيفة الإنتاجية للمصطلح.
ويمكن النظر في هذه المفاهيم خلال ثلاثة محاور.
المحور الأول: خصوصية المخيلة:
ذلك أنها تتمايز من شخص لآخر، فهي شبيهة بالبصمة التي لا تتشابه مع غيرها من البصمات، يقول قاسم: "واختلاف عمل المخيلة ومعطياتها تكاد تكون بنفس درجة اختلاف البصمات عند البشر" (19) وتمايز المخيلة. يتبعه تمايز إدراك الحقيقة من شخص لآخر، ومن مبدع لآخر، وبمعنى أدق، يكون التمايز في صدى وقع الحقائق على الخيلة، وهنا نتذكر مقول المزمخشري عن أهمية التمييز بين أصل المعنى وصورته، فالمخيلة تحصر وظيفتها في صورة الشيء، لا في أصله الواقعي أو الحقيقي، على نحو ما نلحظ في وظيفة المرآة (20) . وإذا كان التمايز السابق قد تعلق بالخارج، أي بالشخوص الممتلكة للمخيلة، فإن هناك تمايزا داخليا لاحظه قاسم حداد، هو التمايز بين المخيلة والذاكرة من ناحية، وبينها وبين التأمل من ناحية أخرى، ذلك أن (الذاكرة) تمثل خزينة للحقائق وما يتصل بها من التجارب، فمهمتها تخزينية، أما (التأمل) فإن وظيفتها النظر في هذا المخزون، وهذا يعني أن وظيفتها سلبية، بعكس المخيلة التي تتحرك من السلب إلى الإيجاب، حيث تعمل على إنتاج المخزون السابق في أبنية تخييلية.
لم يقل قاسم حداد - مباشرة - بالتمايز بين المخيلة والذاكرة والتأمل، وإنما قادنا إلى إدراك ذلك أمران، السياق العام الذي احتضن هذه الدوال من ناحية، والعلاقة التركيبية بينهما من ناحية أخرى، من حيث عطف (الذاكرة)، و(التأمل) على (المخيلة)، والعطف يقتضي المغايرة، كما يقول النحاة، لأنه لا يجوز عطف الشيء على نفسه. (21)
وهذه الوظيفة الإيجابية للمخيلة تجمع بين طرفي الاتصال (المبدع والمتلقي) في نوع من العلاقة الجدلية بين داخل النص وخارجه، مع تمايز العلاقة في كل منهما، حيث تكون حركة المبدع من داخل النص إلى خارجه، بينما تكون حركة المتلقي من خارج النص إلى داخله. (22)
وهذا الذي أشار إليه قاسم يكاد يوافق الوارد الحداثي في مقولاته النقدية واللغوية، حيث تكون مهمة المنتج تحويل الفكر الداخلي إلى صياغة خارجية، ثم تكون مهمة المتلقي رد هذه الصياغة إلى أفكار مرة أخرى.
المحور الثاني: مغامرة المخيلة:
يشير قاسم حداد إلى أن المخيلة هي التي تهيئ للنصية دخول المغامرة للابتعاد عن إنتاج ما تم إنتاجه، والخلاص من الراكد الآسن (23)، ومن أفق هذه المغامرة، تحقق الكتابة شيئاً مغايرا للواقع برغم انتمائه له، فبين الواقع والنص علاقة جامعة فيها التماثل والتخالف على صعيد واحد.
والمخيلة هي التي تسمح برؤية الجانبين معاً، لأن من قدراتها أن تجمع بين المتضادات والمتنافرات، فلا فارق - عندها - بين الموت والحياة، ولا تنافر - عندها - بين الماضي والآتي، وكل ذلك يتيح للكتابة مساحة هائلة من الحركة الحرة الطليقة من قيود الزمان والمكان والأحداث (24).
المحور الثالث: وظائف المخيلة:
لا شك أن المحورين السابقين قد تضمنا - بالضرورة - بعض هذه الوظائف وبخاصة (توليد اللذة والألم) و (الحرية المطلقة)، وهو ما أشرنا إلى توافقه مع مقول ابن سينا في أن (التخييل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول)، وهو ما يوثقه قاسم حداد بقوله:
إنه لا متعة بدون خيال (25).
لكن الإضافة الوظيفية - في هذا المحور - أن المخيلة أداة بالغة الأهمية في اكتشاف الجديد، والوسيلة الفاعلة في إنتاج الشكل (26).
(5)
ومن الملحوظ أن مصطلح (المخيلة) قد تردد في (ورشة الأمل) محافظا على قدر كبير من حدوده المعرفية السابقة، لكن المفارقة بين النص الأول (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) و (ورشة الأمل)، أن المفهوم الذي استخلصناه من النص الأول يكاد يكون مفهوما تجريدياً، بينما مال المفهوم في النص الثاني إلى نوع من التجسيد.
فإذا كان نص (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) قد رصد قدرة المخيلة على الحركة الزمنية الحرة، وأن هذه الحركة تسمح لها بالذهاب إلى الماضي - وهو محال - فإن (ورشة الأمل) تجعل الذهاب للماضي أمراً تنفيذياً في العودة لزمن الطفولة مرة، واللقاء مع (الجبل الأخضر) مرة أخرى:
" الغريب أن شعورا بالوحدة كان يستحوذ على طول الوقت، كنت متوحدا بصورة غير مرئية بفعل اتصالي بالطفولة والذاكرة والمخيلة في آن واحد" (27).
وكما تساعد المخيلة صاحبها على الذهاب إلى الماضي، فإنها تتيح له نقل هذا الماضي إلى الحاضر مباشرة، أي أنها تستحوذ على ممتلكات الذاكرة وتعيد إنتاجها في لحظة الكتابة، فالذاكرة تختزن وقائع الأب مع قشور الكستناء وشروش المحار، وكلها " تنتقل من الذاكرة إلى المخيلة كأنها الآن " (28) ، وليس الماضي - وحده - هو الحاضر في المخيلة، بل إن الزمن بكل أبعاده فاعل مركزي في المخيلة (30) "
ويستمر نص (ورشة الأمل) في نقل التجريدات التي طرحها نص (ليس بهذا الشكل) إلى بنيات مجسدة، فقدرة المخيلة على الابتكار في نص (ليس بهذا الشكل) تتحول في (الورشة) إلى مقارنة بين صفة (المدرس) وصفة (الأستاذ)، إذ إن (الأستاذ) هو - وحده - المالك للمخيلة وطاقتها الابتكارية (31).
وهذه الطاقة الابتكارية تلاحق أستاذية (الحدادة) حيث يستحيل الحديد " إلى طقس يزخرفه الإيقاع المبتكر الذي تخلقه مخيلة العامل" (32)، وتمتد هذه الطاقة الابتكارية إلى (صناعة السفن) (33) وإذا كان قد سبق لنا القول عن دور المخيلة في رؤية العالم خلال الوعي التخييلي، فإن هذا الوعي يتجسد في رؤية قاسم حداد للجبل الأخضر في صورة: " شيخ يتقدم في التجربة من غير أن تبدو عليه علامات الشيخوخة، ترفع رأسك لتحصر حدود الحجر بعينيك، فلا تدرك ذلك تماما، فتلجأ إلى نشاط المخيلة" (34).
ومع المخيلة، تحضر مفردة (الخيال) لتؤازرها حال استعادة الماضي بكل وقائعه، وبخاصة ما غاب من سير الشخوص، كما تؤازرها في ولوج عالم الممكن والمحال، على نحو ما أخذه الخيال إلى (الإقامة في أعماق الماء)، فالخيال متسع للخفايا والأسرار، ومهيأ للحركة بين الواقع وما وراء الواقع (35).
(6)
ومن المدونتين، تنتقل المتابعة إلى مصطلح (المخيلة) وتردده في مجموع مقولات وحوارات قاسم حداد المنشورة على صفة (الإنترنت)، وقد استحضرت المتابعة منها ثمانية عشرا حوارا، تردد فيها المصطلح ثلاث عشرة مرة، ويمكن الخلوص إلى مفهوم المصطلح خلال هذه الحوارات في ثلاثة محاور.
المحور الأول: المخيلة والمبدع:
نلاحظ أن المخيلة - في هذا السياق - تتقدم بوظيفتها على مفهومها، فوظيفتها المركزية تأكيد إنسانية الإنسان في مواجهة كل السلطات العليا والدنيا، وبهذا التأكيد تنفي عن الإنسان صفة التبعية، وتعطيه بديلا هو (حق الحوار مع الآخر) ، الآخر البشري أو غير البشري.
ومن هذا المنطلق لا يصبح للواقع أي حقوق قبل المخيلة، ومن حق صاحبها أن يكون مطلق الرأي، لا تلحقه المصادرة بحال من الأحوال، حتى لو كان رأيه (إعلان يأسه من العالم).
ومعنى إلغاء سلطة الواقع، أن يكون للمخيلة إنتاج واقع آخر وفق شروطها، فتستحدث ما تشاء من كائنات ومكونات، ويكون لها أن تحيي ما مات، وأن تحضر ما غاب، وأن تنقل الأشياء من واقعها إلى واقع طارئ وفق التخيل، فترى الحجر طائرا، والجبل شيخا، فرؤيتها للعالم بلا حدود تحاصرها.
ولعل هذا الوعي بالمخيلة هو ما نقرأه في نص (قبر قاسم) وقدرة هذه المخيلة - تحديدا - على تحويل الحجر إلى طير:
كلما وضعت يدك على حجر ، انتفض ،
وأخذ طبيعة الطير وشكله.
حجر يمتلك الفضاء ،
تارة في مهارة الريح ،
تارة في رشاقة الهواء
تارة في انحدار الصقر ،
تارة في هدأة اليمام ، (36)
المحور الثاني: المخيلة والنص:
إن وظيفة المخيلة - إبداعيا - تتجلى ساعة الكتابة، حيث تضع المبدع على مدارج المواقف والأحوال، وتفتح أمامه أبواب المغامرة، وليست المغامرة هنا في إنتاج المعنى فحسب، بل إنها تتفتح على إنتاج الشكل، ثم تسمح له بالتقاطع مع غيره من الأشكال، ويصل التقاطع درجة التداخل ثم الذوبان.
إن المغامرة لم تكن معنية بإنتاج المعنى، وإنما بكيفية إنتاجه، أي باللغة، وإعطائها سلطة فردية، ومن ثم يصبح التعبير باللغة أفقا بلا حدود. والملحوظ في مجموع أحاديث وحوارات قاسم حداد أن مصطلح (المخيلة) يشد إليه مفردتي (التخيل والخيال) لمؤازرة المخيلة في تنشيط عملية التوقع لدى المتلقي، وفي تحويل (الغيبيات) إلى وقائع حضورية، فالجنة والجحيم أصبحتا من وقائع الحاضر المعاين.
ثم إن (الخيال) يمثل مخزونا من الخبرة التي تتيح للمبدع تجاوز ما سبقه من تجارب ومغامرات، وتتيح له مناقضة الواقع كليا وجزئيا.
المحور الثالث: المخيلة والآخر:
إن هذا المحور يجعل المخيلة حلقة اتصال بين الأنا والآخر، أو الكاتب والقارئ، حيث تعمل على تحفيز الحوار مع الآخر الشخصي حينا، والآخر تجربة ومغامرة حينا آخر.
ويبدو أن هذه الوظيفة للمخيلة قد تضاعفت مع ظهور وسائل الاتصال الحديثة التي تستغرق كل مجالات المعرفة، سواء أكانت معرفة إبداعية، أم غير إبداعية.
وقد تصاعدت هذه الوظيفة مع عالم (الانترنت) الذي حوّل التخيل إلى أفق مفتوح، فزالت الفواصل بين الأنا والآخر. (37)
(7)
لاشك أن متابعة مصطلح (المخيلة) على هذا النحو يظل في الإطار النظري الخالص، وكانت مهمة المتابعة أن تقودنا إلى إعادة قراءة المدونة الشعرية لقاسم حداد لفحص الممارسة التطبيقية للمصطلح، ذلك أن المستخلص النظري لا يتأتى من النظر التجريدي، بل لا بد أن تسبقه إجراءات تنفيذية تتسلط على النص الإبداعي، ومن هذا الإجراء جاءت هذه التجريدات. وربما كان من المحال المتابعة الاستغراقية لفاعلية المخيلة في المدونة الشعرية لقاسم حداد، ومن ثم فإن متابعتنا سوف تكون خالصة لتردد المصطلح في المحور الثاني من (محاوراته)، وبخاصة عندما تعمل المخيلة على نقل اللغة من العموم، أو الجماعية إلى الفردية، حيث تتسلط على المكون الصياغي تحليلا وتركيبا، تبدأ من الحرف لتصعد إلى الكلمة المفردة، وصولا إلى الجملة، أو (النص الأصغر)، لتبلغ آفاق الشكل.
ومن الواضح أن سلطة المخيلة كانت نافذة الوعي الإبداعي منذ بدايات قاسم حداد، واستحال هذا الوعي إلى مرسوم شعري يفرض لوائحه على مدونته الشعرية المترامية الأطراف، ومدخلها ديوان (البشارة) ففي هذا الديوان صدر المرسوم الأول للمخيلة دون الاحتكام إلى المصطلح على نحو مباشر.
يقول المرسوم:
يا طفل اليوم الآتي
اليوم المولود بجرح الأمس
احمل مطرقة الولد
حطم أسوار التاريخ الفاسد
ما دمت جريحا في الشارع
ما دامت أقلامك صامدة
ترفض أن تمشي في درب
تأخذها للخطو الراجع
ما دام حديدك محميا
اضرب بالمطرقة الكبرى
واصنع من قيدك سكينا
واغرسها - يا طفل الآتي -
في عين الخائف من شمسك (38)
إن هذا المرسوم الإبداعي يستمد نفوذه من سلطة المخيلة وسماحها بالحركة الحرة داخل الزمن، حيث يلتحم الغائب بالحاضر ليقتحم الآتي، وفي هذه الحركة، نلحظ احترام المخيلة للذاكرة التي تختزن مجموع الجراح الدامية، واحترامها للسابقين من الآباء الشرعيين والإبداعيين، لكنها لا تجتر تجاربهم لتعيد إنتاجها، بل إن هذا الاحترام، كان أداة استحضار لهؤلاء الآباء واصطحابهم إلى الأسوار والموانع التي اصطدموا بها يوما، لتحطيمها، وأداة التحطيم التنفيذية (القلم) الذي تكتب به المخيلة وقائعها الجديدة وفق شروطها، هذا القلم الذي يتيح لها اختراق الحواجز وكسر القيود، والدخول في أفق المغامرة والتجريب دون تردد.
وبداية الكتابة مع (الحرف)، والحرف له حقوقه المشروعة لدى المخيلة بوصفه مدخل (الكلمة)، والحرف مع المخيلة استحال إلى لهيب مشتعل:
لأن حروفنا نار
لأن جميع من وقفوا ومن ساروا
ومن قتلوا بعين الشمس
أحسوا النبض طوفانا وإعصارا
لأن حروفنا الخضراء والحمراء
ملء مخاضها ثورة (39)
وسلطة المخيلة سمحت لها بإنتاج أبجدية جديدة وفق شروطها:
ألف
الأمر يختلف
فالأبجدية التي نعيشها جديدة فنحن لا نكتب فوق الماء
لكننا نخط بالدماء
في مقاطع القصيدة (40)
ويتضخم الحرف في هذه الأبجدية حتى يأخذ كل حقوق الكلمة المفردة، بل يأخذ حقوق الجملة المستقلة، وبهذا الحق أخذ يستحوذ على السطر، وعلى الأسطر المتتابعة، يقول نص (نسل الفوضى) من ديوان (شظايا):
أدخلت الحروف في فوضاي
فوضتها أمري
وفاضت روح الحروف في روحي
من يعدل الكون ويهندس المجرة
ميم
سين
ألف ياء
صاد
لام (41)
ويزداد تضخم الحرف حتى يدخل دائرة (النبوة):
حرف نبي
له الصمت والصوت والصولجان
سيغزوا بهم في رماد التراث في يسار الكلام (42)
وهذه الحقوق التي أعطتها المخيلة للحرف، سمحت له بأن يحتل منطقة العنوان في نص (أبجدية القرن العشرين) من ديوان (البشارة) حيث تتوالى الدفقات: ألف - تاء - جيم إلخ
لكن بعد ذلك وقبله، فإن الحرف أصبح قائد الإبداع إلى مسارح اللغة لكي يستأنس توحشها نفورها الشارد:
أبدأ من تكوين الكون
وأرخي لحروفي
أتركها
تبدأ بي
تدخل بي قاعات النرجس
والسندس
حيث ابتدأ السحر الساهر
فوق سرير السين
وأستأنس وحش اللغة الشارد (43)
(8)
إن سلطة المخيلة على الحرف، كانت مقدمة لسيطرتها على الكلمة المفردة بوصفها الباب الرسمي لمملكة النص، ولجلال هذه المكانة، فإن الإبداع يستعطفها حتى تستجيب لتداعيات المخيلة، وتخرج من صمتها:
أضع جبهتي على عتبة باب الكلمة وأنتظر
منتفضا كعصفور
لعل الكلمة تخرج من صمتها
وتعطف على تضرعي (44)
لكن المخيلة عندما تستدعي الكلمة وتستعطفها، تستدعيها وفق شروطها من الجدة والبكارة والتحرر من قيود المرجعية الميتة:
أيا أمي أريد حياة
سئمت تحجر الكلمات فوق جدارنا الصخري
سئمت الموت عبر حياتنا يسري (45)
والتحرر من قيود المرجعية المحفوظة، يحتاج إلى استحداث مرجعيات طارئة لا تعرف الثبات أو الجمود، وهنا تقدم المخيلة اقتراحها التنفيذي لإنشاء معجمها خلال مفردة طاغية الحضور في اللغة عموما، واللغة الشعرية خصوصا، هي (مفردة الحب):
الحب أيضا طريق الموت
الحب أيضا زهرة للخسران
الحب أيضا جنة الفقد
الحب أيضا حديدة الغريق
الحب أيضا هندسة الخاتمة
الحب أيضا ذريعة الضغائن (46)
ويبدو أن المخيلة لم تكتف بحق استحداث المرجعية، بل أعطت لنفسها حق (المواضعة) اللغوية، ومن ثم أخذ النص الشعري لقاسم حداد يستحدث اشتقاقات جديدة لم تعرفها اللغة، فإذا كان الفعل الثلاثي اللازم على وزن (فعَل) الدال على الصوت يأتي مصدره على (فعَال) و (فعيل)، فإن المخيلة تتحدى هذه المواضعة، لتقدم مواضعة جديدة في منتجها الشعري قائلة:
وعمال المطار
أخذوا من وجع الإسفلت في المدرج درسا
وأحالوني على مستقبل الأيام
مخفورا بهتف القبرات (47)
وتقول أيضا:
أمعتذر
وصهل المهرة الشقراء يشعل في خيوط
الخرقة التاريخ نيرانا من الشهوات (48)
وإذا قالت المواضعة المحفوظة إن الثلاثي اللازم الدال على الامتناع يأتي مصدره على (فِعال)، فإن المخيلة تستولي على سلطة هذه المواضعة قائلة في (الهزم الأليف) من (قلب الحب):
وحين تنفر أفراسي في جمح بطولي
تضحك كل نوافذك هازئة مني (49)
وتوغل المخيلة في مواضعاتها الطارئة في مثل (تهودج) و(يتوحشن) و(أتمترس) و(تختجل) و(يبرزخنا)، و(الأحافير) جمع حافر. ويطول بنا الأمر لو رحنا نتابع المخيلة في مغامراتها الإفرادية، لأنها لم تكتف - في هذه المغامرات - باستحداث المواضعة، بل إنها كانت تعمد - أحيانا _ إلى إحياء مواضعات ماتت حتى نسيتها اللغة، وشحنتها بروح جديدة تخرجها من منطقة (المهجور المنسي)، إلى منطقة الحضور الحي، فقد قامت المخيلة بإعادة مفردة (الحيازيم) إلى السياق الإبداعي مرة أخرى كما في نص (نهار القراصنة):
مرة. إن مرت العربات في لحمى بهودجها، تضرجت
المنافذ بالدم المطلول، واحتفلت حيازيم السبايا
مثقلات بالمعادن. (50)
وعلى هذا النحو يتم إحياء مفردة (القندة) بمعنى (الحديث العسلي) في نص (حكمة النساء):
كانت جوقة الملائكة معها
ومعها قندة الليل تحرس السهرة
فطاب لها أن تقترن بالهواء
وكان في ذلك حكمة (51)
والظاهرة لها حضور واضح، حيث تبثها المخيلة في سياقات قادرة على الإفصاح بالدلالة، وهي بذلك تؤكد سلطتها على منطقة الإفراد، وهي منطقة شاسعة لا يمكن لأي قراءة أن تستغرقها.
(9)
إن سلطة المخيلة على الحرف، ثم الكلمة، كان مدخلا لبسط السلطة على التركيب، والتدخل المباشر في عقد العلاقة التركيبية بين المفردات، وهو ما - سمح لنا بالقول بأن هناك ما يسمى (المخيلة الإسنادية)، وهذه المخيلة تشكل مجموع العلاقات الإسنادية وفق شروطها، لا وفق المخزون اللغوي، وبما أ، العربية تميل إلى (التركيب الفعلي)، فإن ذلك يدفعنا لرصد تدخل المخيلة في عقد العلاقة الإسنادية بين الفعل والفاعل، وهو - في الغالب الأعم - يعتمد انتهاك التوافق الدلالي، ويؤثر التنافر عليه.
(هرعت السنديانة) عزلة الملكات: 63
(نهض الرماد) النهروان: 43
(استسلمت شرفات روحي) يمشي مخفورا بالوعول: 47
(يتكاسر الكلام) قبر قاسم - الأعمال الشعرية: 2/262
وتتعاظم سلطة المخيلة على الجملة الفعلية، فتلاحق (المفاعيل) فتحضر في السياق خاضعة لرؤية المخيلة لا لحقيقتها الوجودية:
- (أخلع ماء المدينة
- أغسلها بالهموم) انتماءات: 92
(دخلت المدينة - رافقت أحجارها) انتماءات: 104
(من يقرأ الرمل) يمشي مخفورا بالوعول: 24
(يسوق الحوذى أشباحه) عزلة الملكات: 61
وتتحرك سلطة المخيلة من منطقة الإسناد في الجملة الفعلية، إلى الإسناد في الجملة الاسمية، وبخاصة العلاقة بين (المبتدأ والخبر)، فتهتز هذه العلاقة دلاليا على نحو لا يمكن تقبله إلا بتدخل هذه السلطة.
(النخل يعرف أهله) يمشي مخفورا بالوعول: 38
(الشمس محايدة) انتماءات: 12
(الحب أبواب) الأعمال الشعرية: 2/238
وتمتد سلطة المخيلة إلى علاقة (الإضافة) و(الجار والمجرور):
قولوا يد سوف تمتد تطوى سرير الماء المطرز بالجوع (52)
كما تمتد إلى علاقة (التبعية):
كان الجبل في أحداقنا
ينقل أقدامه الزجاجية من حلم في هيئة البحر
إلى حلم في أبهة النخيل (53)
وفي دائرة التبعية تتعمد المخيلة كسر قانون (الفصل والوصل) بوصفه قانونا بلاغيا لا لغويا، يقول نص (خراج الجزيرة):
من فجوة البحر، وطرحوا السيف والذهب
السيف من هناك. والذهب من هنا (54)
وواضح أن السطر الأول ينفر من حضور (الواو) بوصفه جملة واحدة.
إن المخيلة - كما يبدو - لم تمتلك سلطة التشريع فحسب، بل امتلكت سلطة التشريع وسلطة التنفيذ على صعيد واحد، ومن ثم فإنها تدخلت في بناء جملة العطف، وهزتها من الأعماق، فتحذف المعطوف حينا، وتحذف المعطوف عليه حينا آخر، لكنها -على وعي- بأن السياق يسمح باستحضار الغائب من فضاء النص.
يقول نص (المدينة):
ماذا جرى للمدينة؟
سألت الطريق
قال: إن الحريق الذي
واستعر (55)
فمخيلة التلقي سوف تستحضر - بالضرورة - ما يلائم (استعر) من مثل (الاشتعال).
وتمارس سلطة المخيلة نفوذها على (أل)، فتسمح لها بالدخول في المناطق المحرمة عليها، مثلما دخلت على (هنا وهناك) عنوانا لأحد نصوص (قلب الحب): (الهنا والهناك).
أما دخولها على المنادى وعلى الفعل، فهو من الشائع في مدونة قاسم حداد، نلاحظ دخولها على الفعل الماضي في قوله:
لا تسكتوا
عرفت أن القدم الداست على أصابعي
جاءت إليكم قبل أن أجيء (56)
ودخولها على المنادى دون واسطة في قوله:
تعالى .. تعالى
فإن هذا القلب لا ينام
لا يرتاح إلا فوق وسادتك
يا المرأة الممتدة من قلبي إلى قلوب كثيرة
.................
يا الواحدة المتوزعة في كثير (57)
(10)
والملحوظ أن سلطة المخيلة على مجموع العلاقات التركيبية، لم تكن سلطة تجزيئية، أي أنها لم تتعامل مع كل بنية معزولة عن غيرها من البني، وإنما تعاملت معها خلال السياق الذي يحتويها، صعودا إلى النصية حتى يمكن القول:
إن النص هو الابن الشرعي للمخيلة.
ويمكن أن نوثق هذه البنوة بقراءة دفقة من دفقات (فهرس المكابدات) من ديوان (قبر قاسم):
لم يكن الحوذى غير شبح يذرع الغابة
مؤثثا مواقع أقدامه بانتظارات فادحة
يقود عربات الليل، عبر الحانات،
نحو أكواخ الساحل ليغوي النساء
برجال أصحاء يمنحوهن نسلا من صغار الطغاة.
يزخرفون السهرة بملهاة الحكمة، وبغتة يكبرون
قيل: إن الحوذي هو نفسه الحصان
وقيل: إنه العربة والحانة والنساء وطغاتهن الصغار
وأحيانا يكون هو الرجل الغريب،
تصادفه الأشباح والساحرات في منعطفات الغابة،
تطير في وجهه حيوانات مجنحة بالمخطوطات،
يتقمصها ويعود في هيئة حوذي،
يزعم الحكمة وبلاغة البوح.
ثمة أخبار أن الغابة لم تعرف عربة أو حوذيا
قبل أن يشرع الشاعر في رسم هذا الكتاب. (58)
في هذه الدفقة نواجه مشهدا من مشاهد (المكابدات) مكتمل العناصر من حيث الزمان والمكان والشخوص والوقائع، له استقلاليته التكوينية التي لا تنفصل عما سبقها أو لحقها من المشاهد.
والمشهد بجملته من منتجات المخيلة إجمالا وتفصيلا، حيث يبدأ من (صيغة النفي) (لم يكن)، وكما يقول اللغويون، إن النفي يبدأ فاعليته من (الإثبات)، أي أن هناك حوذيا له حضور فاعل، وهذا الحضور هو الذي يتيح للنفي أن يتسلط عليه، لكن (غير) تتدخل لتعديل المعنى، حيث تنقل (الحوذي) إلى دائرة (الشبحية)، وهنا تتدخل المخيلة لعقد العلاقة الإسنادية بين (الحوذى والشبح)، ثم يمتد هذا التدخل إلى علاقة (التبعية)، حيث وصف (الانتظارات) بأنها (فادحة)، ثم إلى علاقة (الإضافة) (عربات الليل)، لتصل إلى (المفعولية) حيث تضع (السهرة) تحت طائلة الفعل (يزخرف).
ثم تصعد المخيلة بالنص إلى أفق الأسطورية عندما توحد (الحوذي) (بالحصان)، ثم توحده (بالعربة والحانة والنساء والطغاة الصغار). وتعود المخيلة إلى العلاقة الإسنادية بين الفعل والفاعل: (تطير حيوانات). ثم تفصح عن مغامرتها في السطرين الأخيرين، مقرة بأن المشهد كله من منتجاتها الخاصة غير الخاضعة لقوانين الواقع.
إن سلطة المخيلة لم تتسلط على العلاقات التركيبية فحسب، بل إن هذا التسلط كان مسبوقا بممارسة للسلطة على المفردات، فخلصت معظمها من مرجعيتها المحفوظة، فالحوذي خرج من مواضعته ليتحول إلى كائن أسطوري مهيأ لتعدد الأشكال والأنواع، و(العربات) خرجت من مواضعتها لتتحول إلى كائن ليلى، له طريق واحد، طريق الضياع واللهو، و(الأكواخ) خرجت من مواضعتها لتتحول إلى (أسرّة) للإنجاب، و (الإنجاب) ينحصر في (الطغاة)، وهكذا يتسع نفوذ المخيلة نافرة من قيود المرجعية اللغوية والواقعية على صعيد واحد.
(11)
لقد تحولت المخيلة إلى مؤسسة لها سلطاتها المتعددة، ولها أدواتها الإجرائية، فهي التي تسن القوانين، وتشرف على تنفيذها، وتحاسب من يخرج عليها، ومنطقة نفوذها المباشرة هي (اللغة) بكل منتجاتها من الحرف والكلمة والجملة والنص:
هل النص شهوة الغة؟
هل المعنى شكل يفيض بالأبجدية؟ (59)
ويهمنا هنا السؤال في السطر الثاني، لأنه يشير إلى امتداد سلطة المخيلة إلى (الشكل)، لكنه الشكل الحر، لا الشكل المقيد بما سبقه من أشكال:
خذنا في ظلام النص
للنص الذي لا ينتهي بالنوم
اكتب ،
سيد شكل الذي لا ينحني للشكل (60)
وقاسم حداد يسلم بسلطة المخيلة في إنتاج الشكل وفق مستهدفاتها الجمالية، حيث يقول: " لا أحتمل أن أكتب النص في ذات الشكل مرتين، وهذا ما جعل كل نص أنجزه - كما عبر البعض - يوحي كما لو أن الذي كتبه شخص آخر، شخص مختلف في كل مرة " (61)
معنى هذا أن مدونة قاسم قد ارتفعت فوق النوعية، وتعالت على الشكل، ومن ثم كسرت الجدار العازل بين (الشعر والنثر) بوصف هذا الكسر نوعا من السباحة المضادة التي تؤثرها المخيلة:
صوتي لنهر يجنح عن عادة الماء
للحرف ضد القواميس
والنحو والصرف
للشعر في النثر (62)
إن اتساع سلطة المخيلة لاستيعاب (الشكل)، أتاح لمجموع الأشكال القولية وغير القولية أن تجد لها مكانا في المدونة الشعرية لقاسم حداد، فهناك (السرد والحوار والسيناريو والمونتاج، والسيرة والسيرة الذتية) ومن ثم يمكن القول إن الشكل لم يعد هدفا تصبو إليه النصية، ذلك أن كل نص ينتج الشكل الذي يناسبه، فلا قداسة لشكل قديم أو حديث:
" في الكتابة، يلذ للكاتب أن يتمتع بكل العناصر الفنية المتاحة والمكتشفة في لحظة النص، فالكتابة هي لذة الكاتب قبل أن تصبح متعة للقارئ، وهذه اللذة لا تتحقق بدون كامل الحريات التي يستدعيها النص، من أصغر الحروف إلى أقصى المخيلة " (63)
وليس من هم هذه القراءة أن تتوقف عند النوعية وذوبانها، أو الارتفاع عليها في مدونة قاسم حداد الشعرية، فهي في حاجة إلى قراءة مستقلة، تتأمل آفاقها، وتتحسس مغامراتها، وتنظر في تبعيتها للمخيلة.
(12)
قلنا في قراءتنا لقاسم حداد، إن المخيلة - عنده - أصبحت مؤسسة كاملة السلطات، فهي التي تبتدع قوانينها وتباشر تنفيذها، ومنطقة النفوذ تكاد تكون محصورة في اللغة، حيث تعود اللغة النطق بما لم تتعوده، وتحول بينها وبين المتحجر من دوالها، لكنها - أحيانا - تذكرها بما نسيته من دوال فتعيد إحياءها. وهذا الإحياء امتد إلى العلاقات التركيبية، فتبدت كأنها علاقات لم تعرفها اللغة من قبل، فمنذ متى شبهت اللغة القبلة بالجنة؟ لقد اقترب الأب من قاسم ظنا أنه نائم، ويقول - قاسم: " ويلثم وجهي بقبلة حسبت أنها الجنة " (64)
وبعد قليل يطرح قاسم سؤالا لم تعرف الإنسانية له جوابا:
" كيف يمكن لأب مثل هذا أن يموت "؟ (65)، والإجابة التي يمكن اقتراحها هنا: أن موت هذا الأب وغيره، رهن بموت المخيلة.