أيها الأصدقاء الأعزاء
شخصٌ مثلي من المتوقع أن يصاب بالإغماء عدة مرات في هذا اليوم، ليس فقط لصداقتكم الحميمة للنص والشخص التي تغمرونني بها وأنتم تضعون شعري في مهب البحث والتأويل في شكل باهر من الاحتفاء، ولكن خصوصاً لفرط الحرج العظيم الذي ينتابني بينكم.
لذا أتمنى عليكم أن تكملوا جميلكم وتمنحوني حرية الارتباك الذي سيغلبني دائماً.
أيها الأصدقاء
سعيد بهذا الاحتفاء الذي أميل الى اعتباره احتفاءً بالشعر أولاً، فالشعر هو هذا النزوع الإنساني القادر، بطريقته الخاصة، على تحقيق التواصل والمحبة والمعرفة في آن. الشعر وسيلتنا لمعرفة ذواتنا والعالم، ولإضفاء معنى على وجودنا، لا أحسب أن الوسائل الأخرى يمكن أن تضاهيها في العمق و الجمال.
لقد جعلتم من تأملكم النقدي وشهاداتكم الشخصية، فضاء رحباً من الاكتشاف والكشف سيكونان حقاً قناديل جديدة وجديرة لما تبقى من مسافة العمر والكتابة. بل هو جهد معرفي من شأنه أن يضيء جهوداً أخرى في التجربة الشعرية الجديدة، فليس من العدل القول بأن الشعر الجديد لم يزل بلا نقاد يتفهمونه ويرون معه الأفق ويرافقونه في الذهاب.
فبمثل هذه الجهود النقدية الجديدة الجادة المتميزة بالتعاطف الرصين، يمكن أن نتأكد بأن ثمة من يصغي الى الكتابة الجديدة ويتعرف عليها ويرى معها المستقبل.
أشعر اليوم بأننا في حضرة درس المعرفة والمحبة في لحظة كثيفة المشاعر. وظني أنه ليس مثل المحبة طريق ملكية لوضع المعرفة في مكانها من العمل الفني.
لقد كنت، دائماً، أنظر الى كتابة الشعر بوصفه فعل حب للإنسان والكون. وما تقترحه علينا تجربة اليوم هو فعل حب إضافي يصقل النص الشعري ويضعه في مهب الأمل النادر الذي يضاعف إحساس الشاعر بمسؤولية هذا الحب، وبمسؤولية المعرفة وخطورتها.
فالنقد الأدبي هو أيضاً فعل حب في الحياة والكون، بل أنه لا يتحقق، بوصفه إبداعا، إلا إذا صدر عن حب عميق ورؤية حادة بالشكل الكافي لجعل النص أمام مسؤولياته الكونية.
ليس أن يتفقَ، ليس أن يروّج، ليس أن يكرس، لكن أن يضعه في ضوء الأسئلة الحميمة، فالحوار، في العمق، هو دليل صادق على الحب ورغبة البناء. ففي حياتنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً مهماً بدون أن نكون صادرين عن هذا الشعور وتلك الشهوة الحميمة.
سوف أقصر دائماً في التعبير عن مشاعري لجميع الأصدقاء الأعزاء النقاد الذين منحوا نصوصي كل هذا الكرم الصادق والصارم، ومنحوني هذا الدرس الحميم الذي يجعل التكريم النقدي مفتوحاً، برحابة كاملة، على تجربة الكتابة الشعرية العربية الجديدة التي تشكل الأفق الرحب لكل ما كتبته، وتجعل الأسئلة النقدية والحوار الإبداعي جناحين جديرين بالعديد من التجارب الشعرية العربية الجديدة التي تصوغ في العقود الثلاثة الأخيرة ما نزعم، حقاً، بأنه مشهد شعري قادر على محاورة ومضاهاة الشعر في مناطق أخرى من العالم.
بهذا المعنى، يمكننا أن نرى في مثل هذا التكريم النقدي والحواري أكثر دلالة على أن الشعر ليس فقط أن تقول وتكتب، لكنه خصوصاً أن تحسن الإصغاء وتقدر المعنى الحضاري للقراءة المتميزة.
سوف أقصر عن التعبير عن سعادتي لجميع من حقق القراءة النقدية ومن شارك في الحوار في سبيل وضع الشعر في سياقه ومن قدم شهادته على النص و الشخص.
لكن هذا ليس كافياً، فربما سوف أقصر أيضاً عندما أحاول التعبير عن شكري وتقديري لمن بادر بالدعوة لهذه المناسبة ونظمها بالشكل الذي تحضرون، فالشكر والتقدير موصولٌ لأهله الكرام، لمنتدى أصيلة الذي هو صاحب الفضل الباكر.
ولا أخفي عليكم أن هذه المبادرة قد مست الشغاف مني. فقد كان الأستاذ محمد بن عيسى كريماً وهو يطرح عليّ هذه الفكرة الاستثنائية، وكان متفهماً لما يقترحه بصورة أربكتني حقاً، لقد طلب مني أن أقترح ما أحب. والحق أقول أننا لم نتعود من المؤسسة العربية أن تسألنا عما نحب، لأنها عادة تعرف أكثر منا ما نحب وما لا نحب.
لذلك فقد وجدت في مبادرة السيد بن عيسى برهة نادرة لأن أصغي لطاقة الحب التي لا يحتاج الشاعر لأكثر منها.
شكري الجزيل للسيد الوزير، وتقديري أيضاً للأستاذ الصديق محمد المليحي الذي بذل من المحبة ما يكفي لأكثر من مدينة واحدة.
أشكر جميع من ساهم في هذا المنتدى الأصيل، وأشكر مغرب الثقافة والإبداع، أشكركم جميعاً فقد غمرتموني بلطفكم المألوف وفتحتم في هذه المناسبة شرفة بالغة الرحابة لكي نتبادل أنخاباً لا نحسن صنعها في أمكنة كثيرة.
قبل الختام
اسمحوا أولاً أن أوجه في هذه المناسبة تحية حارة لجميع أصدقائي الشعراء والكتاب والمبدعين المغاربة الذين شكلوا دائماً مكوناً ثقافياً هاماً في تجربتي الإنسانية والأدبية، وأغنوا حياتي بماء غزير من الحيوية، فليس من غير دلالة أن تأتي هذه المناسبة من المغرب.
واسمحوا ثانياً أن أهدي هذا التكريم الى جميع شعراء جيلي وكذلك الى شعراء الأجيال الجديدة التي تحسن الآن كيف تكتب شعراً أجمل مما كتبناه وأكثر حرية ومغامرة منا، بأمل أن لا تتعثر بنا كما تعثرنا بمن سبقنا.
شكراً.
الشرق الأوسط- 12 أغسطس- 2004