1
ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح.
هذا شعور سينتابك بعد أن تتعرف على أمين صالح، وهذا هو بالضبط الوصف الذي أحب أن أتمثل به كلما طلب أحدٌ مني وصف هذا الصديق.
منذ أن تعرفت عليه، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، صار يشكل الشقيق الأجمل لحياتي.
تشاركنا في كل لحظة من لحظات هذه السنوات القاسية كما لو أنها النزهة الخرافية لكائنات لا تحسن النوم إلا في المستقبل، وهذا ما صاغ لنا عائلتنا الصغيرة، التي يشكل أمين صالح سماء رؤوفة لها. لقد نشأت علاقتنا من خلال الكتابة والحياة مثلما تنشأ الشجرة طالعة من كتاب لكي تصبح حديقة في بيت.
٢
هذه شهادة شخصية خالصة، يجب الاعتراف بذلك منذ الوهلة الأولى، وخصوصاً منذ أن طلب مني، أنا بالذات، الكلام عن أمين صالح. لأنهم يدركون جيداً أن شهادة (مجروحة) كالتي أقولها عن أمين صالح، هي بالضبط ما يريدون، فهي شهادة الصديق على الصديق، شهادة يمكن أن ابدأ بها نصاً لا ينتهي أبدا، لو يعلمون. فهي الشهادة التي لن يتاح لنا فيها معرفة الحدود بين التجربة المشتركة في الكتابة والعلاقة الحياتية الممتزجة بالأفق الإنساني المطلق.
لم أعرف معنى أن يكون لك صديق، بالمعنى النهائي المطلق، إلا مع أمين صالح. حيث (المعنى النهائي المطلق) للصداقة عندي، هو أن تشعر باستحالة أن تجد في الأرشيف السماوي كائناً في مرتبة بين المرتبتين: الملاك والإنسان.
أحب أن ازعم أن ذلك يمكن أن يحدث، وإلا كيف يمكننا الكلام عن اجتراح المعجزات.
هذا صديق لا يمكن تفاديه. خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن الكتابة، بالمعنى الأسطوري للإبداع، هو ضرب من عمل الآلهة، وهو خلق مضاعف للحياة سوف تزعمه المضاهاة الجسورة للفعل المقدس، والصداقة التي تنشأ في كينونة خلق من هذا النوع، هي أيضا مرشحة (أو هي مطالبة بالضرورة) باجتراح المعجزات، التي أشعر بأننا (معاً) لم نتوقف عن اكتشافها كل يوم وكل نص.
مع أمين صالح أزعم أننا نذهب هذا المذهب في حقل الكتابة، إذا تفادينا الحدود التقليدية للتواضع المفتعل، ففي لحظة الحقيقة لا تتنازل الآلهة عن أوجها الشاهق.
٣
بين مخلوقات هذه الحياة ليس من المتوقع أن تصادف، بسهولة، شبيهاً لأمين صالح، شبيهاً بالمعنى الشعري الذي نتورط فيه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وصداقتي معه هي واحدة من المكونات التي صاغت حياتي، ليست الأدبية فحسب، ولكن الإنسانية خصوصاً. فالدرس الحميم الذي أقرأ فيه الكون معه يتجاوز البعد الثقافي والأدبي، لأن في شخصية أمين من السحر ما يجعلك تشعر بأن ثمة ميزاناً رهيفاً يقدر على أن يسعفك في اللحظة التي تحتاج ذلك. لذلك فإننا لم نكن نكتب الكتب معاً، بل كنا نصقل المرايا التي تستعصي على الوصف.
٤
منذ اللحظة الأولى في عالم الكتابة كان أمين صالح قد قطع (علينا) الطريق نحو الشعر، بالرغم من شهرته بكتابة القصة، فطاقته الشعرية في التعبير وضعته في الجوهر الجميل من النص الشعري، حتى أن أحد النقاد وصفه مبكرا بأنه شاعر ضل الطريق، وفات هذا الناقد أن أمين صالح كان يعرف ماذا يفعل، خصوصاً وأنه سوف يصوغ لنا النزوع المبكر للخروج على النوع الأدبي الموروث، حتى أنني رأيت في روايته (أغنية ألف صاد الأولى) واحدة من الاقتراحات المبكرة الواضحة نحو النص الحر.
لقد كان شاعراً، بالمعنى العميق للكلمة، وربما كان هو أكثرنا شعرية. والشعرية التي اقصدها سوف تتجاوز هنا النص المكتوب ليطال الطبيعة الإنسانية للشخص، حيث سيبدو أمين صالح، حسب معرفتي به، كائناً شعرياً بامتياز في سلوكه اليومي، فهو من الرهافة والشفافية والحميمية، بحيث تستطيع أن تكتشف الطفل المتحكم في طبيعته منذ اللحظة الأولى لتعرفك عليه. وبهذا المعنى، فانه، حين يكتب، لم يكن يخرج عن حدود طبيعته، حتى أنك سوف تواجه صعوبة في معرفة الحدود بين أمين الشخص وأمين النص. وهذه طبيعة يندر أن نصادفها في حياتنا الأدبية. لكن أمين صالح استطاع أن يقترح علينا طوال هذه السنوات إمكانية أن يحافظ الكاتب على حقيقة التماهي في نصه إلى الدرجة التي تجعله طاقة هائلة من الحب الذي سيفيض دائماً على من حوله، فيقع في حبه كل من يتعرف عليه.
٥
دقيق في تفاصيل حياته تماماً مثل دقته في صياغة كلماته، والكتابة عنده هي المبرر الوحيد لكي يرى الحياة ممكنة. يسهر على جملة واحدة أياماً ولياليَ، ولا يقبل النص بسهولة، تؤرقه الكلمة فيما يكتبها، وتدمره كلمة فيما يسمعها أيضاً.
معه تتأكد بحق من القول الذي يشير إلى: أن الحياة ضرب من كلمات تعاد صياغتها بين وقت وآخر.
٦
الحوار العميق الذي دار بيننا في الكتابة والعمل الأدبي، هو بمعنى ما، انعكاس شفيف للحوار الإنساني المشترك الذي صهرنا طوال السنوات، فعندما كتبنا (الجواشن) لا اذكر أننا احتجنا إلى نقاش للاتفاق على الفكرة والمشروع وطريقة الكتابة، كان كل شيء يحدث بسلاسة وبمعزل عن التحكم العقلاني أو الذهني، ربما كنا نمشي في حلم، وأعتقد أن الأمر برمته كان ضرباً من المغامرة التي تبدأ بدعابة وسرعان ما تأخذ شكل الدرس والاستحواذ والمتعة والتحرر من الحدود التي أرهقتنا في الحياة. في الكتابة، نشأ بيننا ما يمكن وصفه بمضاهاة الحلم. تدربت مع أمين صالح على رؤية الواقع من شرفة الحلم، وهي الطريقة الفاتنة في جعل النص نقيضاً مستمراً للواقع وليس انعكاساً له، كما ظل الآخرون يحاولون إقناعنا.
عندنا، النص هو نقيض للواقع، بالمعنى الجمالي العميق للإنسانية، فأنت لكي تصوغ ذاتك في مواجهة ضراوة العالم وبشاعته، لابد من التحصن ضده بطاقة مخيلتك الحرة التي لا تكون فاعلة ونشيطة وصادقة إلا في الحلم، ذلك الحلم الذي أحسن أمين صالح وضعه في المكان الشاهق من سعيه الإبداعي وهو يصوغ تجربته الأدبية. لقد تعلمت مع أمين صالح أنه كلما صارت الكتابة متعة حقيقية بالنسبة للكاتب، تسنى لها أن تكون كذلك عند القارئ. ومضاهاة الحلم، إذن، هو الظهير القوي لتجربتنا في الكتاب. وبسبب من هذه المضاهاة الفاتنة، أصبحت الكتابة بالنسبة لنا آلية الاستمرار في الحياة في سبيل وضعها في مهب المستقبل الأجمل، ولا أظن أن ثمة أسمى من أن تكون الكتابة متمثلة في هذا التوق الإنساني النبيل. لقد منحني أمين صالح، فيما كنت أخرج من تجاربي الدامية وكثيفة الألم، قدرة الصمود ضد كافة أنواع السلطات التي أرهقتني روحاً وجسداً، ومقاومة شتى أشكال الكبح الفكري والسياسي الذي رافقت تجربة انهماكي المبكر في العمل الحزبي والسياسي، وهو عمل أستطيع الزعم أنني كنت أقوى منه بما لا يقاس منذ اللحظة التي تعرفت فيها على أمين صالح، حيث أصبحت الكتابة هي قوتنا ضد كافة السلطات، الكتابة بوصفها حرية الكائن وجنته. منذ تلك اللحظة بدأت فكرة الجمال الفني تأخذ بعداً أكثر عمقاً ومسؤولية ومتعة. وعندما تجد صديقاً مثل أمين صالح، سوف تدرك معنى تبادل أنخاب الكتابة، في ما يشبه المضاهاة المشتركة نحو النص، كما لو أننا كنا نكتب لإثارة إعجاب بعضنا البعض، فمن هنا يبدأ نجاح النص أو فشله بالنسبة لنا.
لأن تحقق ذلك الإعجاب لم يكن سهلاً لأحدنا، كأننا كنا نطلب النص المستحيل، النص غير المكتوب على قياس نص سابق.
٧
في سياق التجربة الأدبية في هذه المنطقة من العالم، شكلت تجربة أمين صالح طاقة تأثير حميمة لكتابات عربية كثيرة، لا تزال ترى فيه المحرض الصادق على كتابة مختلفة، في بنية النص، شعراً ونثراً. وهي مسألة يعترف بها شباب كثيرون ويرون في مقترحات نصوصه الأفق الذي تطمح له كتاباتهم منذ البدايات. فهو من بين أهم التجارب العربية التي ساهمت في تأسيس حساسية جديدة في الكتابة العربية منذ بداية سبعينات القرن الماضي، بصمت خفر لكن بثقة رصينة الانجاز.
٨
نزوعه الشعري يجعله يعبر عن حسده للشعراء، حتى أن اهتمامه بالشعر يبدو مثيراً ولا يستقيم مع شخص عرف عنه أنه كاتب قصة وروائي. غير أن هذا هو الطبيعي منذ أن عرفته. فالشعر عنده لم يكن مقتصراً على القصائد، وهذا هو البعد الذي أشرت إليه قبل قليل، عن عمق حساسية أمين صالح الشعرية، فهو منذ بدأ كان يرى الشعر في كل تفاصيل الحياة، حياته وكتابته خصوصاً. فبالإضافة إلى ولعه الجنوني بفن السينما منذ بدايته الثقافية، كان قانون الشعر وقيمته هما اللذان حكما علاقته بالمكونات الأساسية لمعرفته الأدبية والفنية. فهو أحب الشعراء في كل فنون التعبير التي انهمك في التعرف والتقاطع معها، لقد أحب تاركوفسكي وبيرغمان في السينما، وأحب ماغريت وميرو في الرسم، وأحب جورج شحادة في المسرح، وأحب ديستوفسكي وكافكا وكونديرا في الرواية، وأحب بارت في النقد، وأحب سان جون بيرس ولوتريامون وأدونيس وسليم بركات في الشعر. وهذا ما جعل علاقتنا اشتباكاً شعرياً متواصلاً ساهم في صقل وتأجيج متعتنا المشتركة في الكتابة، وساهم بالضرورة في الاحتكام الصارم للذائقة المشتركة تجاه ما نكتب، وسوف نتبادل صراحة القراءة لكل ما نكتب.
٩
إن تفاهمنا في الحياة منقطع النظير، حتى أننا في مواقف كثيرة لم نكن بحاجة للكلام لكي نقرر أو نتفق أو نذهب أو نعود أو نفعل الأشياء. يكفي أن نتبادل النظرات لكي نعرف ما نريد. ثمة حوار روحي عميق من شأنه أن يفتك بنا إذا ما تعرض أحدنا لأي مكروه.
لا أحد يحسن العودة من السفر مثلما يفعل أمين صالح. فهو بعد أن يقيم ورشة الاستعداد لسفر إلى مكان ما، مستغرقاً أياما في ذلك، وبعد ان نغادر ونصل إلى ذلك البلد، سرعان ما يقف في اقرب شرفة في الفندق، لكي يلتفت ناحيتي، وقبل أسمع سؤاله قائلاً: (ما رأيك؟).
سوف أدرك أنه يفكر جدياً في العودة إلى البحرين. والمشكلة أنني أجد في هذا السؤال جواباً يمسّ الشغاف عندي، فبالنسبة لي العودة إلى البيت (من أي مكان في العالم) هي نعمة تضاهي الجنة. فنجد أنفسنا بعد قليل في مقعد الطائرة عائدين مثل أطفال يهرعون خارجين من أسوار المدرسة ناحية الدار.
بالنسبة لأمين صالح، البيت هو المكان الآمن الوحيد في الكون، وبالمناسبة فان أمين صالح هو الذي اكتشف لي جملة كافكا المعبرة التي تقول (ان مجرد عبور عتبة البيت مغامرة غير مأمونة العواقب).
لا أحد مثل أمين صالح يحسن العودة من التجربة، فما من مرة عدنا من تجربة إلا وكنا مفعمين بالحكمة والحب والمعرفة والكتابة التي نعشق. وأحب هنا الإشارة إلى ضرورة تجاوز المفهوم الحرفي للمشاركة المتواصلة في ورشة الكتابة بيني وبين أمين، فالأمر لم يكن مقتصراً على النصوص التي أنجزناها مطبوعة معاً، مثل (الجواشن) و(موت الكورس) و (الدم الهاطل)، فما أعنيه في الواقع تلك الروح الغامرة التي لم تتوقف طوال هذه السنوات من الاستغراق في مباهجها الفنية، فثمة تداخل غامض يمكن رصده والحديث عنه في العديد من نصوصنا التي نشرت لنا في كتب منفصلة، حيث أجواء الحوار العميق بين تجاربنا اليومية، سوف تجعل كلا منا قريبا من تجربة الآخر ومساهماً فيها بشكل من الأشكال، فهناك مثلاً ملاحظات مهمة على نصوص لي طرحها أمين بعد الكتابة أفادت الصورة النهائية للنص، كما أن هناك اقتراحات متبادلة لبعض عناوين النصوص، وأشكالا غير قابلة للرصد نقبلها من بعضنا في المراجعات الأخيرة للنص. بهذا المعنى أستطيع الزعم أن مثل هذه التجربة هي بمثابة الدرس الفاتن للمفاهيم الفنية التي نسعى دائماً لبلورتها ومغادرتها، على صعيد الكتابة المشتركة من جهة، وصعيد النص المفتوح على مختلف الآفاق من جهة، وعلى صعيد تجاوز أنواع التعبير من جهة، وخصوصاً على الصعيد الأشمل وهو مفهوم النص غير النهائي، حيث الحلم الباذخ الذي يشكل بالنسبة لنا وضع الكتابة في مهب المخيلة الحرة.
10
لكن هذا لا يعني أننا متشابهين في طبيعة الظاهر، على العكس، فطبيعتي الانفعالية سوف تحتاج دائماً لطبيعته المتبصرة التي تقارب الحكمة. ونحن مختلفان في بعض التفاصيل التي لم تكن مدعاة لأي اختلاف أبداً، فهو مثلاً قد أعلن ذات مقال عن ضجره من المسرح الذي (كنت) أحبه، وهو أشار إلى خلودي إلى النوم في قاعات السينما التي يعشقها حد الجنون.
دائماً، ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح.
أقول ذلك، لأن أحداً لم يضمد جراح حياتي مثل أمين صالح، ولم أعرف أحداً يصعّد مفهوم الصداقة الإنسانية بالمعنى الأمين والصالح.. مثل أمين صالح، وما عليكم إلا أن تبحثوا عن هذه الأيقونة في الأرشيف السماوي.
****
نديم المرفأ
هذا هو لا أقل بل أكثر
استغرقتُ في الكتابة يوم أمس عن أمين صالح، لكنها دائما ما كانت تنتهي بنقطة على السطر، تقول لي: إنك من بين أكثر المغامرين في الكتابة عن ذلك الأمين فشلاً، لا لشيء سوى أنك كنت واهماً أعتقاداً بأنك قريب جداً من تلك القارة الإنسانية قبل أن تكون مبدعة في لحظة من اللحظات، فقد تبيَّن لي كلما ذلفت بحثاً في الكتابة عنه بأني قد انتخبت للإمساك بكائن رسمت حدوده، شكله، بقطرة صفاء، قطرة نقاء، هذا هو لا أقل بل أكثر.
دون شك وجدت في طرقات الكتابة ذلك الإنسان والمبدع، القاص والروائي والسينمائي، الصديق والأخ الكبير، لكن الكتابة ذاتها، دائما ما كانت تفسد عليَّ كلّ شيء، مجنونة هي بلا شك.
عرفت ندماء المرفأ، ندماء الريح أولاً، لم أعرف أمين صالح بعد، قرأتها نصاً نصاً ولا أعرف ما إذا كنتُ أنا من كان يقرأُها أم هي من كانت، لا أعرف لا أعرف، ما أعرفه جيداً بأنها كانت تقول : »حين أسرفت، وكانت خطوتك تأخذك بعيدا في خضاب الأنفاق لتستخرج نثار الكبريت، دخلت المحنة وجئت العالم مقتحما وحوشه.
لم تكن باسلا لنهلل لك. لم تكن رعديدا لنخبئك في راحاتنا. كنت الجاهل البريء تخلص الطرائد من فخاخ القنص، ترابط عند شاطئ المقهى منتظرا شبح العدل، فأشفقنا أن يأسر كاحلك قناص ماهر.
ترصدناك طويلا، وعندما حانت لحظة موتك جئنا لنقول لك الكلمة المؤجلة: أي ثناء لن يكون كافيا. أحببناك. أطعمناك، في سباتك، الأرز والزيتون. كنت لنا الصديق الغائب، الصديق الذي لم نختلط به، لكنا شممنا لون عذابك في أسمال الهجر. نذكر خلوتنا، نحن وأنت، في ورقة القمر وكان مذاق النبيذ يرطب أجفاننا. في تلك الخلوة لم يكن أحد حاضرا، لا أنت لا نحن لا القمر، لكننا تبادلنا الأنخاب وضحكنا« .
هي سيرة شخص ما ربما كنتُ أعرفه، سيرته ربما، لكنها كانت سيرتي أيضاً، أذكر تلك الأنخاب جيداً، أعرف مذاقها، ألوانها، وجعها، لكنه النص بتعددية التلقي لا الأنخاب، كان كفيلاً بأن يسعف وجعاً هنا ويسد فاه جحيم فاغر من الألم هناك، ويكفني فقط، بأني جعلت ذلك الأمين أيقونة جميلة في ذاكرتي، و الجميل في الأمر، بأن علاقة إنسانية جميلة قد أثثت نفسها دون سابق إنذار فيما بيننا، فرحت بها كثيراً، فقد كان بمثابة الأخ الأكبر لي، أنا افترضت ذلك وهذا ما أعتقد بأنه كان.
وإذا كان »عزوز« أمين صالح في »رهائن الغيب« مصابا بلعنة التأتأة لسبب ما، وعندها فقط تتعثر الحكاية ويتخبط المعنى في رواق الكلام، فإن هذه اللعنة ستصيب كل من يتجرأ بقصد الكتابة عنه، إذ إن كل صور أمين تتحول إلى صيغ شبحية، تحاصرك، تطلع لك من كل الزوايا، فتصيبك بحالة من الشلل الذهني، فلا تعرف لأي صورة فيه تنتصر، وبأي صورة ستفر للكتابة عنه، لهذا سيكفيك أن تقول عنه : بأنه ذلك الإنسان بحق، فهو عبر إنسانيته الخرافية هذه كان مبدعاً، عبرها فقط كان له الحرف و النص ملاذاً لولادة المعنى لتلك الحياة التي نعيش، ورواية لتلك القيمة الإنسانية الفاخرة.
***
أمـين صالح.. بـحر صداقـة
حسن حداد
1
الكتابة عن أمين صالح.. مشروع ليس باليسير وليس آمناً في ذات الوقت.. ذلك لأن أمين محور مهم في تجربتي مع السينما والكتابة عنها.. فدائماً ما يلتبس الأمر علي، هل أنا اشرع في الكتابة عن أمين؟ أم الكتابة عن تجربتي مع أمين؟
الإجابة هنا عصية وذلك هو الأمر الفاتن الذي يتميز به أمين مع كل من يعرفه عن قرب من جيلي.. ومسألة دائماً ما تؤرقني.. أقف مذهولاً أمام تمنع الكلمات.. لتبدو لي الكتابة بعيدة المنال... هل أعتبر هذا بمثابة سحر أمين.. أم أنه سحر صداقته الصامتة المختزلة لحوار لا ينتهي ووجهه الذي يتركه في ماء الروح ويذهب ...
( ٢ )
»يأسرني هذا الرائع أمين صالح في حديثه.. في طريقة نصب فخاخه للأصدقاء.. العلاقة مع أمين صالح لابد أن تأخذ شكلاً روحانياً.. حتى لو حاولت التملص من هذه الورطة.. فهو يسحرك بصداقته.. يحتويك.. يهيئ لك جنة من الرؤى ويأتي بك إلى ساحات البهاء.. يضعك في مهب جنته.. يباغتك بماء الفضة.. ويحول مشكلة الكون إلى مزحة..!!!
( ٣ )
(تجده أحياناً متقمصا طاقة الطفولة في داخل أي شخص يشاركه حلمه.. تجده يخذلك أحياناً في كشف أسرار هذا الحلم.. ولكنه يعينك في نفس الوقت على اكتشاف أسرار هذا الدخول.. يجلب لك المعونة لكي تحاول.. وتفشل.. ثم تنجح في النهاية.. لتجد نفسك في متون الحلم مزهواً بما فعلت.. منتصراً من تحريض منه.. هكذا هو أمين صالح.. لا يهدأ إلا بعد أن يغرر بك وتدخل في المغامرة..!!!
( ٤ )
الذهاب مع أمين إلى »أفلام من الإمارات«، لم يكن في الحسبان.. لم أتخيله تماماً.. كان بمثابة اكتشاف بالنسبة لي.. بالرغم من عمر صداقتنا الطويلة، إلا أن السفر معه لم يكن قبل ذلك.. لم أختبر نفسي مع أمين في مسافات أخرى.. كان حلماً يسهر معي حتى الصباح.. صداقتي مع أمين ازدادت رونقاً هناك.. فاللحظات التي جمعتنا ـ وهي كثيرة ـ تألقت بالفكرة والمزحة والمرح.. وكأني أتعرف عليه من جديد.. كان اكتشافاً جديداً حقاً.. كم أنت زاخر يا أمين..!!!
( ٥ )
اكتشفت انه من الضروري أن لا أصل إلى إجابة على سؤالي فالكتابة عن أمين.. والكتابة عن تجربتي مع أمين.. ضرب من الغموض الخاص بي في حل لغزه سيفقدني النشوة التي تدفعني للتباهي.. أولاً لأن أمين صالح يشكل بداية المعرفة ومحورها بالنسبة لتجربتي في السينما ومن ثم الكتابة عنها. وثانياً لأن أمين يحيل كلام الصداقة إلى مشاعر بسحر خاص لا يفوقه أحد فيه.. أمين الصديق.. أمين الصادق.. كيف لي أن أكلمك بالصداقة..؟
( ٦ )
كان ذلك في بداية الثمانينات، عندما بدأ الاهتمام والكتابة عن السينما يحتوياني.. في البدء كان مجرد اهتمام جارف بالسينما وبكل ما يكتب عنها في الصحافة.. ثم بدأ البحث والقراءة في الكتب والمراجع السينمائية، والتعرف قدر الإمكان على المدارس والأساليب والتيارات السينمائية الهامة.
شخصياً.. أعتبر نفسي محظوظاً لتواجدي في وسط ثقافي زاخر.. كان عونا لي على البدء والسير في هذا المجال مرحلة تلو الأخرى. كان أخي قاسم، أول المهتمين بما كتبت.. كان الدرس الأول درس العقل والروح..
( ٧ )
لا اعرف بالضبط هل وجدته ام وجدني ـ استكمالا للالتباس ـ الرائع أمين صالح، باعتباره أكثر اهتماماً بما أسعى إليه.. السينما. فكان عليه أن يهيئني لتشكيل رؤية واضحة وعميقة لما جئت به عن السينما.. كان صبوراً ومتفهماً بشكل خيالي، لذلك الاندفاع والحماس الذي طغى علي لنشر ما أكتبه.. فكم من المشاريع التي ألغيت، أو أعيدت صياغتها، لكي تظهر على الشكل الذي ظهرت عليه.. تعلمت من أمين الكثير.. تعلمت منه كيف أسيطر على جموح الكتابة.. وكيف أستفيد من هذا الجموح في نفس الوقت.. تعلمت منه أن أكسر التقليد وآتي بالجديد.. كيف أكون نظرة خاصة بي أثناء المشاهدة السينمائية.
كنت محظوظاً جداً.. لوجودي في مثل هكذا وسط.. وسط أمين وقاسم.. وسط لا يحتفي إلا بالمخيلة.. والقلم والحب، لنسكب حبرنا جميعا بين يديهما تاركين أمامنا كجيل النقيضين والمسافة بينهما فضاء تزدهر فيه مواهبنا
****
شهادات
أمين خرج بالإنسان من رحم الظلمة إلى النور.. وذهب بنا نحو الخيال.. مثقفون:
منح أمين صالح هذا الوسام.. تقدير صحيح من قبل القيادة
رؤى - المحرر الثقافي:
يجيء تكريم الكاتب والروائي أمين صالح وتقليده وسام الكفاءة من الدرجة الأولى بيدي جلال الملك، ليدفع في عروق الثقافة البحرينية أملاً جديداً، بأن ثمة من يلتفت فعلاً لعطاءات المبدع والمثقف البحريني، ويجيء هذا التكريم ليمنح المثقف البحريني دافعاً ليقدّم وليعطي وليبدع ولينتج؛ لأنه يعرف أن ثمة من سيرى هذا الإنتاج وهذا العطاء.
ولأنه أمين صالح، هذا المتشظي تماماً في فعل الإبداع، هذا المشغول بماء الكتابة وبرائحة الورق، هذا الذاهب إلى اتجاهات شتّى كلها تفضي إلى كائن جميل يربيه بعينيه، هو الثقافة، لأنه كل هذا وأكثر، فقد استطلعنا في رؤى آراء بعض المثقفين البحرينيين بمختلف اتجاهاتهم في هذا التكريم،فكان أن اتفقوا جميعاً على أن هذا التكريم ليس لشخص واحد هو أمين صالح، وإنما لتاريخ طويل من العطاء والإبداع، تاريخ طويل من الفعل الثقافي، تاريخ طويل من الحفر في الصخر، تاريخ طويل من (أمين صالح):
أمين.. ذاهب بنا إلى
الخيال، خارج بنا إلى النور
فوزية رشيد تعتقد بأن هذه الالتفاتة من القيادة لتكريم أحد الوجوه الأدبية البارزة في البحرين، هي بادرة من المبادرات الهامة التي كان الوسط الثقافي في البحرين ينتظرها، وتعتقد أن حصول أحد المبدعين المهمين كالكاتب والروائي أمين صالح على وسام الكفاءة هو مكسب للثقافة في البحرين.
وترى رشيد أن ثمة مبادرات سابقة في الالتفات إلى هذا الكاتب والمثقف ولكنها لا ترقى إلى هذا الوسام، وتضيف رشيد (أمين صالح من الوجوه الإبداعية الريادية القديمة في الإبداع البحريني، ويستحق بكل ثقة نيل هذا الوسام) وعن علاقتها بأمين صالح تقول رشيد (أمين صالح بالنسبة لي بقدر ما هو زميل في نفس المجال الإبداعي وهو الكتابة السردية قصاً وروايةً، فإنني أعتبره من المبدعين والكتاب المقربين إلى قلبي، وربما يعود هذا لأننا شهدنا معاً معترك الثقافة في إبان فترة حرجة، وشهدنا معاً العمل البدء في أسرة الأدباء والكتاب البحرينية، باختلافاتها وائتلافاتها، ولذلك فإنني سعدت جداً بهذا التكريم الذي يستحقه بكل ثقة الصديق أمين صالح).
(قبل كل شيء.. أمين صالح يستحق بكل جدارة هذا التكريم) هكذا بدأ المسرحي عبدالله السعداوي، الذي أضاف (هذا التكريم هو تكريم للأدب البحريني، ولأسرة الأدباء والكتاب البحرينية؛ لأنه بالإضافة إلى أمين ثمة كثير من الأدباء الذين يستحقون هذا التكريم، لأنهم حفروا في صخور صلبة وقاسية، وكان أمين صالح من بين هؤلاء الذين حفروا فضاء الثقافة بأصابعهم) ويضيف (كي تصنع مهندساً عليك أن تجعله يدرس أربع سنوات، ولكن كي تصنع مبدعاً فهي مسألة وعملية جداً صعبة، وأمين صالح من الأدباء والمبدعين الذين صنعوا أنفسهم بإرادة قوية) وعن الإبداع لدى أمين يقول السعداوي (إنه خروج بالإنسان من رحم الظلمة إلى النور، ذهاب بنا إلى الخيال، وهذا الخيال مقموع في أوطاننا، وربما يكون قمع الخيال هو من بين أسباب تخلفنا، أمين من الأدباء الذين يحاولون دائماً زحزحتنا إلى منطقة الخيال هذه) ويضيف (لقد أوجد أمين أطياف عمياء.. أطياف ليست لها عيون، ولكن لها بصيرة، ومن يمتلك بصيرة كبصيرة أمين فهو يمتلك الرؤية، كل الرؤية).
وطالب السعداوي أسرة الأدباء والكتاب أن تحتفي بهذا التكريم، وأن تحتفي بأمين صالح وأن تعمل على إبراز هذا التكريم، وأكد السعداوي أن هذا العيد جاء أجمل لأنه حمل هذا الخبر، وعبّر السعداوي عن فرحته بهذا التكريم ووصف فرحته به بأنه فرحة طفل.
****
أمين تاريخ.. يتعدّى
البحرين ويسكن العالم
الفنان المسرحي حمزة محمد يؤكد من جانبه على أن هذه اللفتة هي لفتة كريمة من صاحب الجلالة، بأن يكرم رجال البحرين الذين قدموا الكثير في المجال الثقافي والفني وغيرها من المجالات، وأن يتم هذا التكريم على حياتهم، هو دافع للآخرين، لأن يبذلوا جهودهم في سبيل الارتقاء بتجاربهم للمستوى الذي يرضي طموح هذا البلد.
ويضيف محمد (نبارك لأمين صالح هذا التكريم، ونتمنى أن نرى أدباء وفنانين ومثقفين آخرين يتسلمون هذا الوسام الذي هو وسام فخر واعتزاز لكل بحريني) وتمنى محمد أيضاً كما تمنى آخرون أن تستمر هذه المبادرة عبر تكريم مثقفين ومبدعين آخرين أثروا الساحة الثقافية في البحرين، وتمنى أيضاً أن يكون هذا الوسام هو وسام اعتراف بما يقدمه المثقف والمبدع البحريني.
وعن تجربة أمين صالح الأدبية يقول حمزة محمد إنها من التجارب الفريدة والمميزة، والتي وصلت بالتجربة البحرينية إلى مستويات عالمية، فترجمة قصص وروايات لصالح إلى لغات حية كثيرة منذ بدايات حياته الأدبية، يدل على أهمية هذه التجربة، ويدل على تمايزها.
المخرج السينمائي بسام الذوادي يرى أن أمين صالح بالنسبة له هو تاريخ وليس شخصا، هو تاريخ السينما الروائية الطويلة في البحرين التي بدأت بأمين صالح وبدعم وتشجيع أمين صالح، ويضيف الذوادي (عرفت أمين ليس فقط من خلال كتبه وقصصه ورواياته، وإنما أيضاً من خلال رؤية بعض الطلبة العرب والمصريين الذين كانوا يقومون بدراسات تتناول ما يكتبه أمين صالح لدى دراستي في القاهرة) ويؤكد (تاريخ أمين صالح تعدى المنطقة المحلية وامتد إلى العالم العربي، والعالم بشكل عام، ولذلك فإن اسم أمين صالح كان يبرز اسم البحرين بشكل عربي وعالمي في مجالات شتى ليس فقط في مجال الرواية والسرد والقصة، بل في مجال السينما والتحليل والتقنية الفنية السينمائية).
ويعتقد الذوادي بأن تكريم أمين صالح بوسام الكفاءة هو (تقييم صحيح من قبل القيادة لهذا الرجل الذي أمضى أكثر من ٥٣ عاماً يرسّخ فيها اسم البحرين، ويعكس ثقافة البحرين بعاداتها وتقاليدها بداخلها بهويتها، بل ويتناول رؤية البحرين أيضاً للآخر وللثقافات الأخرى، ففي قراءة أمين بالشكل الجيد، سترصد حقبة مهمة من تاريخ البحرين).
وعن العلاقة بينهما يقول الذوادي (أمين صالح هو الذي شجعّني، هو الذي دفعني، هو الذي أعطاني أملاً في أن أرى سينما بحرينية، لقد كان يرى بشكل صحيح، وأنا هنا أحاول السينما في البحرين بسبب أمين صالح، لذلك فإن تكريم أمين صالح ليس تكريما لشخص، إنه تكريم للثقافة في البحرين بشكل عام، للأدب، للسينما، للمسرح، لنا كلنا، وهو بالتأكيد يعطينا دفعة قوية لنستمر في العطاء، لذلك فإنني أقول إننا كلنا في البحرين قد كرّمنا عبر تكريم أمين صالح، كلنا منحنا وسام الكفاءة من خلال منحه لهذا الرجل
***
منذ أغنية ألف صاد
الأولى.. وهو يواصل التجريب
الشاعر علي الشرقاوي أكد على أن تجربة أمين صالح هي من التجارب البحرينية الهامة التي ساهمت مساهمة كبيرة في تطوير الحركة الأدبية في البحرين والخليج، مضيفاً أن صالح منذ تجاربه الأولى في (هنا الوردة.. هنا نرقص) وروايته المبتكرة (أغنية ألف صاد الأولى) واصل عملية التجريب وطرح ما هو جديد ومختلف ومتميز ليس على صعيد الحركة الأدبية في البحرين، وإنما على صعيد التجربة العربية ككل.
وأكد الشرقاوي أن مثل هذه التجربة لا بد من تكريمها على جميع المستويات، سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الأهلي، ويضيف (لذلك فإننا فرحنا كثيراً حينما قلّده جلالة الملك وسام الكفاءة من الدرجة الأولى) ويؤكد الشرقاوي على أن تكريم أمين هو تكريم للحركة الأدبية في البحرين والتي منذ تأسيسها وهي تحاول أن ترفع اسم البحرين عالياً في جميع المحافل الأدبية الدولية، ويضيف (لا أذيع سراً إن قلت إن البحرين معروفة من الناحية الثقافية أكثر من الناحية السياسية، بمعنى أن الثقافة في البحرين ساهمت في تكوين علاقات رائعة بين البحرين كأرض، وبقية الدول العربية، إن لم أقل العالمية).
ويضيف الشرقاوي (أقول.. هنيئاً لنا بتكريم أمين صالح وأتمنى أن يتم الالتفات إلى تجارب أخرى، ويتم تكريم مبدعين آخرين).
***
أمين صالح قنديلنا الأزلي
1
أذهب دائما لقراءة وتأمل تجربة الكاتب المبدع أمين صالح، بمعزل عن تجربة الشاعر قاسم حداد، لأن في ذلك إنقاصا لتجربة كل مبدع منهما، رغم الالتباس الذي روج له الصديقان، والذي للأسف أخذ منحى آخر عند المتلقين لتجربة كل من أمين صالح وقاسم حداد. وخلق من هذا الارتباط القوي انعكاسات لا تصب في قيمة كل تجربة إبداعية عند كل من أمين صالح وقاسم حداد، ذلك إن الإبداع مشروع شخصي قائم بذاته، حتى مع المشاريع التي يحاول المبدع فيها تأسيس تجارب مشتركة، مثلما يحدث بين الفن التشكيلي والشعر. أو ضمن مشاريع إبداعية تكشف تقارب وجهات النظر نحو الأدب والإبداع بشكل عام، مثلما فعل الصديقان في بيانهما المشترك، أو في مشروع كتاب "الجواشن". ورغم ما تحققه هذه المشاريع الثنائية المنبثقة من وعي ثنائي في حقل إبداعي واحد ينهض أساساً على اللغة وفضاء الإبداع، إلا إنه ينبغي النظر إليها ضمن سياقها الخاص بها، دون تعميمها على تجربة كل مبدع لأن في ذلك ظلم فادح على القيمة الإبداعية الشخصية عند كل كاتب، مهما كانت تقارباتهما الفكرية والإبداعية، ومهما ترك كل مبدع من أثر في إبداع الآخر.
-٢-
منذ مجموعته القصصية الأولى »هنا الوردة هنا نرقص« التي صدرت في العام 1973 كان أمين صالح يؤسس زمنه السردي والفني الخاص به على قاعدة ثابتة ولكنها غير ساكنة، وغير خاضعة لشروط ثابتة، تتطور مع كل تجربة لتقدم للمنتج العربي إبداع من نوع خاص جداً، مخلص لمشروعه، وذاهب نحو مناطق جديدة على مستوى الشكل واللغة والبناء، مما خلق أرباكا ظاهرا لدى النقاد والقراء والناشرين في حيرة عند تصنيف بعض مؤلفات هذا المبدع، والتي تشكل بحد ذاتها حيلة جميلة من حيل أمين صالح الذي لا يكف عن إدهاشنا دائماً.
منذ وردته الأولى، مرورا بمجموعته »الفراشات« و »الصيد الملكي« و»الطرائد« و»ندماء المرفأ.. ندماء الريح« و »العناصر« ومؤلفاته الأخرى، كان أمين صالح شاعرا مخلصا للغته أكثر من التجارب الشعرية التي طلعت علينا في المشهد الإبداعي البحريني، بل إنه كان قادرا على تطوير مشاريعه على عدة مستويات، من خلال البناء العام لمشروعه السردي/ الشعري، على مستوى اللغة والصورة الشعرية والسريالية، القادرة على سبر مكامن النفس البشرية، حتى وهو يذهب بمشاريعه الأولى في مرحلة مبكرة معبرا عن أخلاص متميز للسّريالية، دون كل الكتّاب في البحرين، وهو في ذهابه ذلك يستوحي منها - ليس لكونها مذهباً أدبياً - بل لأن أمين صالح وجد فيها أهم ما يبحث عنه حول قيمة اللاوعي وتفجير اللغة والصورة لما يخدم نصه السردي، حتى باتت قصصه القصيرة أكثر شعرية من قصائد الشعراء، ولهذا السبب أرى في المنتج الإبداعي عند أمين صالح طاقة كبيرة أعطت ثمارها بتأثيره على المشهد الإبداعي عند الشعراء وكتاب القصة. وهو الجانب الذي يستحق الدرس لإيفاء هذا المبدع حقه، خاصة في تطور التجربة الشعرية في البحرين، التي قام بها من خلال اشتغاله على السرد القصصي والنثري والشعر والترجمة، وبلاغة الصورة المكتوبة والمرئية والفنتازية والغرائبية، والذي أعتقد أن اخلاصه المبكر لتجربته على حساب التحزب والعمل السياسي الذي وقع فيه أغلبية المبدعين، كان سببا جوهريا في أن تشكل تجربته تطوراً سبق به الشعراء، مثلما سبق به كتّاب القصة القصيرة والسرد.
-٣-
إن شمولية الكاتب المبدع أمين صالح لم تؤسس فقط أشكالا إبداعية جديدة على مستوى الشكل واللغة، بل أنه يمكننا أن نتحدث عن قاموس لغوي تأسس مع تجربة أمين صالح، هذا القاموس الذي من السهل أن نرى تأثيراته اللغوية الواضحة على المشهد الإبداعي والشعري خاصة، ولكن للأسف لم يلتفت نقاد الشعر إلى دور هذا الاسم، فقط لأنه لم يقدم نفسه كشاعر، مع أن تجربته تنطوي على شعرية غير متوفرة عند العديد من يمارس كتابة الشعر.
-٤-
أمين صالح، قنديل الحركة الإبداعية التي لم تأخذ حقها حتى الآن من الدرس والفحص. قنديل قادر على إبهارنا دائما، بكل ما هو جديد، وغامض، وشهي، وسلسل ومثير للدهشة .
رؤى
الايام- 22-12- 2007
***
أمين صالح: الوردة تذبل إن لم تعرها التفاتة
تكريم جلالة الملك حفظه الله للأديب والمبدع أمين صالح ومنحه وسام الكفاءة من الدرجة الأولى كان تكريماً للحركة الأدبية في البحرين، فحين شاهدت الوسام بيد أمين اعترتني فرحة لا توصف، فأمين في تلك اللحظة كان يمثلنا جميعا، وهو أكثرنا استحقاقاً لمثل هذا التكريم ولمثل هذا المقام، فمنذ السبعينيات من القرن الماضي، منذ أعلن للعالم عن »هنا الوردة.. هنا نرقص«، وأمين ينطلق بكل ثقة وتألق إلى أفق إبداعي يتجاوز نطاق المحلية: أديباً، روائياً، سينمائياً، مسرحياً، ومترجماً، مثيراً الاندهاش، بلغته الجديدة، ونصوصه المغايرة، الصادمة، وفكره الحر الذي يرفض الوقوف عند محطة ما، أو في قالب ما، أو في أسر فكرة أو نظرية أو منهج ما.
ولأن أمين أستاذي، وأخي، وصديقي، فقد اعتبرت تكريمه تكريماً شخصياً لي، فأمين الذي ظل طوال العقود الثلاثة الماضية يعمل بصمت وبثقة دون ضجيج، زاهداً عن ماكينة الإعلام، والجري وراء بريق الأضواء، ومترفعاً عن الترويج لنفسه وكتاباته، كان وفياً كل الوفاء، ومخلصاً كل الإخلاص، لنشاطه الدؤوب في أي عمل إبداعي كان يقوم به بلا شرط ولا تحفظ، ومتجاهلاً النقد الذي لا يثق فيه كثيراً، وهذا أكثر ما تعلمته منه، وهذا أكثر ما يمكن لأي كاتب أن يتعلمه، وكنت على يقين، كما يردد شاعرنا الجميل قاسم حداد حكمته الأثيرة »الوقت كفيل بكل شيء«.
فأمين الذي اعتبر في وقت من الأوقات إبليس الغموض والحداثة والشكلانية والسريالية والابتعاد عن قضايا الجماهير، وغير ذلك من النعوت غير المنصفة، والأحكام الطائشة وغير المسؤولة، التي كانت تلصق به، جلس بهدوء، بروحه المرحة، وإنسانيته الفائقة، ورؤيته الواثقة، يعمل دون توقف في مشاريع أدبية وفنية لا تنتهي (رغم الضرر الفادح الذي أصاب عينه نتيجة هذا الانغماس الهائل في الكتابة) ويكتب مئات الصفحات من الأعمال الروائية والقصصية والدرامية والسينمائية، ويثري المكتبة العربية بترجمة كتابين مهمين جداً هما »السينما التدميرية« لأموس فوجل، و»النحت في الزمن« لأندريه تاركوفسكي.
تعامل أمين مع الحياة بأسلوب خاص جداً، فهو يفضل العيش في عزلة جميلة مع نفسه، محافظاً على موهبته المتميزة، مقدساً حريته دون سطوة رسمية أو أيديولوجية، ومحصناً نفسه من أي انكسار محتمل. وهو واثق إلى حد اليقين أن »الوقت كفيل بكل شيء«، وهذه المقولة تثبت، يوماً وراء يوم، صحتها.
سيظل أمين صالح، كصديقه الحنون قاسم حداد، مثالاً لجيل بأكمله، ليس على المستوى الإبداعي وحسب، بل على المستوى الأخلاقي أيضاً، وسنظل جميعنا ننظر إليهما بكل مشاعر الحب والتقدير والاعتزاز.