كوليت مرشليان
قبل مئتي عام ولد في ولاية بوسطن الأميركية ولوالدين يعملان كممثلين مغمورين في الولاية إبن هو الثاني في عائلة تألفت من ثلاثة أولاد و كان يدعى إدغار.
ولم يكن في حسبان أحد أن إدغار الصغير هذا سيعيش حياة مأسوية أشبه بالمآسي الإغريقية الميلئة بالفجائع والصعاب وستكون له شهرة عالمية بعد موته تضع إسمه على لائحة مبدعي عصره: إنه الشاعر الأميركي إدغار ألن بو.
واليوم يستذكر العالم الشاعر بو بمناسبة مرور 200 عام على ولادته ولا زالت مقولة أنه "أغرب شخصية في تاريخ أميركا الشعري والأدبي" ساري المفعول على الرغم من كل التطورات التي حصلت بعد مماته، خصوصاً بعد تمجيد الأدباء الفرنسيين له منذ ما يقارب القرن وذلك عبر ترجمات لأبرز وأجمل مؤلفاته على يد أعظم شعراء فرنسا: شارل بودلير ومالارميه اللذين اعتبرا أنه "مؤسسة الشعر الحديث والشعر الرمزي بشكل خاص".
إدغار ألن بو شاعر وقاص وروائي وناقد أدبي مغاير. انغمس في حياته المدمرة التي جعلها تغرق معه في الإدمان على الكحول وفي حياة التشرّد والإهمال، لكنه ومن حيث لا يدري، وانطلاقاً من موهبته الإبداعية والفطرية في الكتابة، صار خلال أعوام قليلة "صانع الخرافات" و"سيد قصص الرعب" في العالم. وامتد تأثيره في الشعر من أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين بشكل مباشر، حتى طبع شعر كبار المؤلفين من الشاعر الفرنسي بودلير وكل الرمزيين من بعده بشعره، الى أرباب القصص البوليسية الذين استوحوا من عالمه الغامض رموزه وسحره وعظمة الحبكة المطبقة على قوانينها، وصولاً الى الروايات العلمية مع جول فيرن وغيره حتى وصل تأثيره الى مؤلفات فلسفية ووجدانية إستقت روحانياتها كما رموز العالم السفلي من إبداعاته القصصية التي تميّزت بالخيال الجامح والتي اتسمت بالسوداوية والتشاؤم ومقاربة الموت ومناخاته، خصوصاً في مؤلفات معينة له مثل "سقوط منزل أوشر" أو قصيدة "الغراب" الشهيرة له حيث كتب:
"... والحزن الحريري بحفيف غير محدد لكل ستارة أرجوانية
روّعني
ملأني بمخاوف رائعة لم أحسها من قبل
وهكذا الآن حتى بقاء خفقان قلبي أتكبّد التكرار
ثمة زائر يستجدي الدخول عند باب حجرتي...".
والغريب في قصة حياة هذا الشاعر وفي مناخات مؤلفاته جميعها أنه أوحى الكثير وعلى مراحل مختلفة عبر القرنين الماضيين، فأمتد تأثيره زمنياً من مرحلة الرمزية في الشعر وصولاً الى رموز عصرية في أميركا والعالم حتى قيل أن نجوم الروك ونجوم السينما في بدايات القرن العشرين وحتى السبعينات منه تأثروا بتفاصيل من حياته، من عادة ارتدائه للملابس السوداء الى الإهمال والبوهيمية وصولاً الى حد تبديد موهبته وقريحته الشعرية الى الإدمان على الخمر وتدمير الذات ومقاربة الموت وملامسة أطيافه ومحاكاته عبر شخصيات إبتدعها وجعلها تعيش موتها قبل الموت أحياناً، وقد تمّ اقتباس أعماله للسينما في القرن العشرين بما يصل الى عشرات الاقتباسات المتنوعة، خصوصاً قصيدة "الغراب" التي أوحت للمسرح والليتوغرافيا والسينما... ولكن كل هذه التفاصيل لم ينظر إليها معاصروه إلاّ بازدراء وبسلبية أحالت عبقريته حدّ الجنون والهامشية الهدّامة. إلاّ أن التحليل النفسي الذي تعمّق عبر فرويد وآخرين من بعده جاء ليعيد الى هذا الشاعر مكانته عبر محاولة فهمه والاقتراب أكثر من مأساته الحقيقية التي ارتسمت إبداعات أدبية خارقة في كتاباته، والكتب أو المخطوطات التي كان بو يجوب بها من دار نشر الى أخرى علّه يجد من يرضى تبنّيها صارت اليوم من روائع الأدب الأميركي، وقصيدة "الغراب" له مثلاً التي أعاد صياغتها ونقّحها أكثر من مرة ثم اضطر الى بيعها بسعر زهيد ليسدّ بها جوعه وبعضاً من ديونه صارت اليوم من أشهر قصائد عصره، ومجمل أعماله التي حُكِمَ عليها في حينه أنها شديدة الكآبة والسوداوية، أعيد اكتشاف جمالياتها عبر أسلوبه البديع والرشيق وأفكاره السابقة لعصرها الى حد لا يوصف.
ترسيخ
وفي كل سنة تطلّ بعض الدراسات لتزيد ترسيخ أدبه في لائحة إبداعات العالم الشعرية.
وفي فرنسا وحدها اليوم، تطل المئوية الثانية لولادته مع إعادات لمجموعاته الكاملة ومن أبرز الدراسات من حول أدبه في العالم وبأكثر من لغة "بحث حول إدغار ألن بو" للمؤلف جورج والتر و"مع بو الشاعر حتى آخر النثر" لهنري جوستان و"ظل ادغار بو" لماثيو بيرل و"البحث الأخير عن الفارس دوبان" لغابريس بورلان وغيرها... لكن كل هذا التكريم لهذا الشاعر من أميركا وحول العالم لا يلغي ذكرى النهاية المأسوية التي عاشها حتى الرمق الأخير: ففي الثالث من تشرين الأول من العام 1849، وجد أحد المارة رجلاً في حالة غيبوبة مرمياً على أحد أرصفة بالتيمور في ماريلاند مرتدياً ثياباً رثّة وفي حالة مزرية. وبعد أن تمّ نقله الى المستشفى مات بعد أربعة أيام. وجاء تقرير المستشفى كالآتي: "تمّ التعرّف على الرجل المجهول والمتسكع الذي مات على حافة الطريق، أنه الشاعر إدغار ألن بو".
طفولة بائسة
لم تكن النهاية فقط على هذا القدر من المأسوية بل كل فصول حياة إدغار الذي عرف اليتم منذ أن كان في سنته الثانية. وبعد أن تمّ توزيع الأخوة الثلاثة، كان من نصيب بو ان تبنته أسرة بورجوازية من ولاية فرجينيا. فأخذ إدغار بو عن والده بالتبني وكان يدعى جون ألن اسمه الثاني ليصير إسمه بالكامل إدغار ألن بو. اهتم هذا الوالد بتعليمه حتى وصل الى العام الأول من دراسته الجامعية، لكن علاقته به التي كانت شديدة الاضطراب جعلته ينصرف عنه، خصوصاً بعد أن بدأ إدغار بتعاطي الخمر. فهاجر الى بوسطن عام 1827 وكان معدماً لكنه بدأ كتابة الشعر من دون أن يحظى بفرص كبيرة للنشر. وانضمّ الى الكلية الحربية في الجيش الأميركي كجندي مشترك تحت إسم مستعار "إدغار بيري" لكن الأمر لم يستمر طويلاً. وفي هذه المرحلة بالذات، استسلم بو لقدره ولم يجد مخرجاً لحياته سوى في الكتابة التي كان يحاربها في داخله ويؤجلها لإرضاء كل من كان من حوله، وهو الذي بدأ بقراءة الشعر وكتابته في الخامسة حين لاحظ أحد أساتذته تفوّقه الخارق وهتف لأهله ذات مرة: "هذا الولد خُلق شاعراً!".
السيدة...
وكتب بو من وحي حياته التي لفّها السواد منذ طفولته أي منذ رحيل والديه الشابين وبعدها رحيل شقيقه وحياته الصعبة بعد تبنّيه مع أنه أحب كثيراً السيدة ألن التي تبنّته والتي عطفت عليه كثيراً الى أن رحلت بعد أعوام قصيرة على اهتمامها به.
ومن المعروف أن حياة بو العاطفية لم تحمل له السعادات سوى لفترات قصيرة وهو بعد أن تزوج عام 1836 من فرجينيا إبنة عمته المراهقة التي أحبها حتى الموت، أصيبت هذه الأخيرة بالمرض وماتت بعد خمسة أعوام على زواجه منها. فقدانه لفرجينيا التي كتب لها أجمل الأشعار جعله يغرق مجدداً في الإدمان على الخمر. وعرف أيضاً بعلاقته الغرامية بعد أعوام مع الشاعرة سارة هيلان ويتمان، وبعدها أراد الزواج ثانية من إمرأة ثالثة أحبها وكان ذلك عام 1849، أي قبل شهور قليلة من رحيله، الأمر الذي لم يحصل وهذه المرأة التي كانت تدعى السيدة شيلتون، يقال أنه كتب لها أشهر قصائده "أنابيل لي" حين تخلّت عنه وفي مضمون هذه القصائد ميتة إمرأة رائعة الجمال فوصف بأروع ما يمكن موتها مقروناً بجمالها الخارق ومقروناً كذلك بمشاعره الجيّاشة.
وديونه...
وفي كل مراحل حياته، لم يفلح بو في تأمين عمل يساعده على سدّ نفقات معيشته وديونه المتراكمة، الأمر الذي ساهم في عودته الدائمة الى الإدمان. ومع أنه عمل صحافياً في أكثر من مجلة إلاّ أن ذلك لم يساعده سوى على نشر بعض أعماله الأدبية فيها. فنشر أولى مجموعاته القصصية في مجلة "برتون جنتلمان" عام 1840، ثم انتقل ليصبح رئيس تحرير مجلة أخرى نشر فيها روايته البوليسية "جريمة قتل في المشرحة" التي سرعان ما ترجمت الى الفرنسية وتناولتها الصحف بمقالات نقدية إيجابية. إلاّ أن الخطوة الأولى نحو النجاح كانت مع نيله جائزة "جريدة فيلادلفيا" وكانت تبلغ يومذاك مئة دولار عن قصة "الحشرة الذهبية" ثم عمل في مجلة "غراهام" ليتركها بعد عام ويعود الى نيويورك لينشر قصيدته "الغراب" التي بدأت معها شهرته في الأوساط الأدبية من دون أن يساعده ذلك على النهوض من غرقه في الديون الهائلة. لكنه بعد هذه المرحلة عاد الى كتابة الشعر الذي بدأ به وهو في سن المراهقة مع كتابه "تيمورلنك وقصائد أخرى" ولما يبلغ الثامنة عشرة، ثم في العشرين كان قد اصدر مجموعته الشعرية الثانية "الاعراف" وايضا "ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف". وقد اعترف بأن تحوله عن الشعر الى القصة والرواية كان لتحوله نحو النثر وهو من اوائل الشعراء الذين ربطوا الشعر بالنثر، لكنه كان يعتبر نفسه شاعراً بالدرجة الأولى، غير ان ضرورات الحياة اجبرته على امتهان الصحافة والكتابة النثرية لكنه سرعان ما انغمس في النثر فأعطاه اجمل ما لديه: "سقوط بيت اشر"، و"القط الأسود" و"بضع كلمات مع مومياء" "لغز ماري روجيه"، "قصة في القدس"، "السقوط في الفوضى" وغيرها من المؤلفات التي تعد بالعشرات.
... والغاز
وفي كل ما كتب بو من قصص وقصائد تبرز نقاط توتره وكآبته وقلقه ومواهبه الخارقة التي شكلت شخصيته الابداعية المغايرة التي لم يفلح الدارسون حتى اليوم في تفكيك كل الغازها وفي دخول كل سراديبها. فكتابات ادغار الن بو غاية في الصعوبة وغاية في الجمالية ولم يشرحها ربما اكثر وأوضح سوى ما قاله هو شخصيا في آخر محاضرة له القاها في مدينة ريتشموند عام 1949 وتحديداً قبل شهور قليلة من رحيله وقد اصبحت هذه المحاضرة منذ ذلك الحين ما سمي "بالمبادئ الشعرية" او "مفهوم الشعر". وفيها تحدث بو عن غاية القصيدة او غاية الشعر بشكل عام الذي هو السمو بالروح، وقد دعا في محاضرته الشهيرة تلك الى التحرر حين كتابة الشعر من كل "اشكال الرضا والفائدة العقلية" التي يمكن ان تسود على الذهن، ويصف هذا التحرر على انه "اثيريا" ولا يحدّ بغايات، كما يصف السمو على انه تلك القدرة الشفافة وغير المرئية القادرة على رفع روح الانسان بكل اثقالها المادية الاضافية الى درجة من الترفع وغير مسبوقة بافعال ارادية او مبنية على مجموعة افتراضات ليبنى عليها مدخلا للوهم او للتذكر، بل الشعر هو ذاك السلوك المنفلت.. ذاك السلوك وان عرف ادغار الن بو كيف يعبر عنه في كتاباته، الا ان فهمه كان صعباً من قبل الآخرين، فهو كان في نظر ابناء جيله رمز "الشاعر الملعون" ورمز الشاعر المتسكع المعاكس للتيار، المشاغب في الكتابة الشعرية، المخرب في النثر، المتمرد على كل المدارس الأدبية والشعرية السابقة له، المدمن والمغامر والمتفلت من كل القوانين، الثائر على التقليد، الحزين حتى الموت، الكئيب حتى الثمالة والمتألم والمحب والعاشق حتى الجنون، ولكن سرعان ما تحولت صورة هذا الشاعر الذي لم يستفد من كتبه سوى بمبلغ اكدته إحدى الدراسات على انه وصل الى حدود 300 دولار اميركي، لتعبر هذه الصورة شاهدة على تغييرات جذرية فيها ولتصير صورة المليونير الذي مات مديوناً، والنجم الشهير الذي مات متسكعاً، منبوذاً ومجهولاً على الرصيف والشاعر الملهم لكبار المبدعين من بعده الذي ظن قصائده ستنضوي معه، فاذا به ومنذ مطلع القرن العشرين "الاخ الروحي" للشاعر بودلير الذي ترجم أجمل كتاباته، واذا به "عبقري الآداب" بالنسبة الى بول فاليري و"الحالة الشعرية القصوى" بنظر الشاعر مالارميه.. ليصير بو صاحب الرائعة الشعرية "الغراب" الذي مات وحيداً على الرصيف حامل اكبر الألقاب والمهام الأدبية على الاطلاق، بعد ان اشار كبار النقاد الى انه كان "المعلم الأول للكتابات الفانتازية" و"مخترع القصة البوليسية"، و"الممهد الاول للرواية العلمية" و"المجدد للقصة الشعبية" و"الرائد في علم التحليل النفسي"... وعدد كبير من الدراسات الأخيرة، جاءت فيها اشارات الى ان حياة بو لم تكن على هذا القدر من الاهمال في ادمانه وتسكعه وان سمعته قد لطختها بعض الاقلام الحاقدة والغيورة من عبقريته المفرطة، وانه ايضا لم يكن في وسع النقاد منذ مئتي عام شرح غرائبية كتاباته سوى بربطها بادمانه وبابتعاده عن الأخلاقيات السائدة في ذلك العصر. وفي كل هذا يبقى سؤال حول اللعنة التي رافقت حياة ادغار الن بو، فهل هي حقا كانت لعنة الواقع الحزين من حوله، ام كانت لعنة عبقريته الفذة الثقيلة على حياة انكسرت على 40 عاما، ام لعنة المشاعر الجياشة الكثيرة والفائضة على قلب انسان؟ وقد تجد روح الشاعر ادغار بو الجواب في الذكرى المئوية الثالثة او الرابعة او التاسعة لولادته.. مع ولادة ادغار صغير من جديد في التاسع عشر من شهر كانون الثاني في ولاية بوسطن من ابوين (..) غير ان سهام اللعنة اخطأته.. فيسأله بو الشاعر: وكيف لا تموت ايضا.. من قلة الشعر؟
المستقبل - الاربعاء 29 تموز 2009