قبل تسع سنوات انطفأ الكاتب والفنان اللبناني، على عتبة الستين. كان «المستوحد» يهجس بنهايته ويتوقّعها، بعد مسيرة حافلة في مجال النقد والأدب والصحافة الثقافيّة. صديقه المسرحي شكيب خوري يتذكّر...
شكيب خوري
قبل تسع سنوات، رحل رياض فاخوري (1943 - 2002) الشاعر والرسام والناقد والأديب، وفي قلبه سلام العصافير وفجر التلال. رياض فاخوري الذي أطلق عليه ابنه عمر اسم «ناطور المنفى»، كان فعلاً ناطور عائلته بامتياز: يوم سافر عمر إلى باريس لمتابعة دراسته، حدث تغيّر عظيم عند رياض أثّر في أفكاره وأدبه وفنّه. كان يقول لي: «سفر عمر نَبَشَ دفاتر طفولتي، حرّض أفكاري. أكتب له صفحات وصفحات عن مفهومي للحياة. أمور نضجت فجأة».
كانا يتبارزان، عمر ورياض، في تفسير لغز الوجود وأثر الفن في هوية الفرد. كان عمر يمشي في شوارع باريس و«ناطوره» يمشي حدّه. والناطور هنا يعني ذاك الذي يعتني بصحة الأشجار وثمارها، ويكون ناطور نموها. كان رياض ناطور المنفى، بمعنى أنّه المستكشف والرفيق لميول أولاده. ابنته تميراس أظهرت في سن التاسعة ميلاً الى الشعر، فكان رياض ناطور إبداعها...
شجعها ونشر لها ديوانها الأول في يوم ميلادها العاشر. ليس لأهمية ما فيه من شعر، بل لتشجيعها على مصادقة الإبداع. وهي اليوم منفية الى عالمها الشعري في عزلة الغربة... لتُكمل معارفها الفكرية. والأمر ذاته مع ابنه وائل، المنصرف باجتهاد كلي الى منفاه الهندسي، فيما اختار عمر الفن التشكيلي منفاه. هذا هو رياض الناطور الأب. يدان ممدودتان كحصن لتحيطا بأفراد عائلته. تحميانهم، تقلقان معهم، تغمرانهم، تُباركانهم، تقوّمان إنتاجهم. أعرف أنّ التكّرس للأدب والشعر والفن قد يبني سياجاً بين الشاعر وعائلته ويحدث التصدع، لكن الأمر مع رياض فاخوري كان مختلفاً، لقد اختار الانصهار التام في شؤون عائلته.
المشهد الارتجالي المفاجئ والمليء بالغبطة ذو صلة بابنه وائل، طالب الهندسة: فُتحت قناني الشامبانيا قبل أسابيع من حفلة تخرج وائل ونيله شهادة في الهندسة المعمارية من «جامعة الروح القدس الكسليك». استقبلت الشامبانيا ونهر الفرح، الأصدقاء والأهل وأبناء بيت شباب.
سأبدأ من اللحظة التي اعتزل فيها رياض العرش لابنه وائل. هي اللحظة الأهم لأنّ رياض حَدَس بمصيره.
أتوقف هنا لأعود الى شبابه الباكر، عندما كان يجد نفسه في قلب العاصفة تحت شجرة التوت، وهو يستمع إلى أغاني العناصر كصوفي يتحد مع القوى الخارقة. كان وقتذاك يوطد صلته بالمخفي واللانهائي. تنسكب فيه قوة تحركه ليدرك ويعود الى الواقع مسلّحاً بسلام عارم.
بعد عناء النهار، وخلال سهراتنا مع الصديق فؤاد رفقة، كان يستذكر طفولته، ويخبر كيف كان يطوف في الليل مسترشداً بكابوس سمّاه «الوحي»، ويرشده طفلاً الى شجرات بالقرب من بيته ليستوحد تحتها. وكانت الطبيعة في حالة رعد وبرق والمطر الغزير. في وحدته مع الطبيعة، كان يخزِّن - من دون وعي منه - حكايات العناصر. وعندما شبّ، وجد نفسه يبرق حبراً على صفحات ليشارك قراءه في ما أوحت اليه العناصر.
حدث ذلك قبل أن يصعد وائل البوديوم ليتسلّم شهادة التخرج في الهندسة.
وصل وائل ليلاً. قال له رياض: «وجدت لتصميمك مكاناً تحتفظ به». استغرب وائل، وبسرعة قال له رياض «الليلة رح نحتفل بتخرجك». احتج الشاب: «بعد ما صار هالشي». رد الأب: «الليلة منحتفل. حضرت الشامبانيا». وفعلاً احتفلوا بوائل. استبق مستقبل ابنه الذي شارك في حياكته. كان رياض يفكر في كل شيء، وأي شيء يريح زوجته آمال وأولاده. مارس دور الناطور حتى بدأ يحدُسُ بالمتوقع القاهر.
بعد يومين، أخبره وائل عن قبوله في جامعة في ليون لمتابعة دراسته. سكت رياض. لأول مرة لم يعلّق، لم يوجِّه. ذُهل وائل. ليس من المعقول أن لا يكون لأبي رأي أو القرار الأخير في أمور أولاده؟ هكذا عوّدنا، لو بارك سفر وائل الى فرنسا، لترك آمال وتالا الطفلة بلا «ناطور». وعمر في باريس، وتاميراس تدرس في ألمانيا. كان في تلك المرحلة التي استبقت الانفجار في المخّ، ينسحب من الساحة لمصلحة وائل، لأنّ أيامه أصبحت معدودة. هذا حدسه. استعجل لحظات الفرح لأنّ بطاقة السفر قُطعت من دون إرادته، وحددت ساعة صفارة القطار معلنة الانطلاق الى محطة المجهول.
سكت رياض بعد يومين. قال في كتابه «المستوحد» ـــــ والمستوحد هو رياض الرؤيوي والشاعر والناقد والصوفي: «ليس في أعماقي سوى هذه التلال الضاحكة مع العصافير. فلماذا البكاء والإحباط والغربة والكآبة». هكذا أعد عائلته ورفاقه على استقبال غيابه الجسدي المؤلم في «يومية التلال». ويضيف كأنّه يبشر بالتقمُّص، بأن الزمن اللامتناهي هو صفة لديمومة الروح: «بالموت يدرك قلبه، والقلب لا يموت بل يترقى. رفيق الأزمنة هو. موعود باللامتناهي...».
* مسرحي وكاتب لبناني
بين الصحافة والأدب
بدأ رياض فاخوري حياته الصحافية في السادسة عشرة في مجلة «الخواطر»، ثم في «لسان الحال». وانتقل الى مجلة «الأنوار»، ليشرف على صفحتها الثقافية، إضافة الى عمله مديراً لتحرير مجلة «فيروز». أصدر عام 1967 كتابه الأول «أصداف الصمت» عن الشاعر صلاح لبكي. ثم كتب عشرات الأعمال في الشعر والنقد والقصة والمسرح وأدب الرؤيا. نذكر منها «قصيدة الحركة ويليها الإثبات الشعري»، «تاميراس»، «في النظرية الشعرية»، «لبنان تحت الرماد»، «تسعون ميخائيل نعيمة»، «النفـس الطاهرة بين جبران والحويك»، «كاشف رأسه يتكلم»، «جبران والبهلوان وشيخ القصبة»، «فتى الجليل»...
الاخبار- 3-8-2011