وداعاً ، يا صديقي ، وداعاً ،
حبيبي ، أنتَ في صدري.
إن الفراق المرتقب
يعد بلقاء فيما بعد.
وداعاً ، صديقي ، بلا كلام و لا سلام ،
لا تحزن و لا تقطّب حاجبيك،-
ليس جديداً أن نموت في هذه الدنيا ،
وأن نعيش ، بالطبع ، ليس جديداً أكثر.
بهذه الأبيات الرائعة، التي تحمل شحنة عاطفية هائلة اختتم الشاعر الروسي سيرغي يسينين مسيرته الإبداعية القصيرة و لكن الغنية انتحاراً في فندق " إنغليتير " في لينينغراد في 27 كانون الأول من عام 1925. وقد كان لخبر انتحاره وقع الفاجعة على كل المحبين لشعره و للكلمة الرفيعة في روسيا السوفييتية السابقة و خارجها. كما ترك انتحاره أثراً عميقاً في نفس شاعر الثورة الروسية الفذ فلاديمير مايكوفسكي.. الذي أدرك قوة الكلمات الوداعية للشاعر الراحل ، و خصوصاً البيتين الأخيرين :
ليس جديداً أن نموت في هذه الدنيا ،
و أن نعيش ، بالطبع ، ليس جديداً أكثر.
إذ رأى فيهما تأكيداً على أن وفاة يسينين صارت حقيقة أدبية. و على الفور شعر مايكوفسكي بقوة الإغراء، الذي ستتركه هذه الأبيات ذات الشحنة العالية جداً عند أولئك المتذبذبين و المترددين فتدفعهم إلى الانتحار شنقاً أو بالمسدس. وأنه لن تلغي تلك الأبيات كل التحليلات الصحفية...
" لذلك كان لا بد من مقارعة الشعر بالشعر.. و فقط بالشعر..."كما يقول مايكوفسكي.
فجاءت قصيدته الشهيرة " إلى سيرغي يسينين "...
ومن أقوى المقاطع التي جاءت في سياق القصيدة تلك الأبيات التالية :
كوكبنا غير مهيأ للفرح.
علينا أن ننتزع السعادة من الأيام القادمة.
أن نموتَ في هذه الدنيا ليس صعباً.
لكن أصعب بكثير أن نصنع الحياة.
نعم ، إنه لأمر في غاية الغرابة ! إن مايكوفسكي ،ذلك المدمر والمنقلب على كل القوانين الشعرية، نراه يسير هنا على خطى يسينين.
لكن المدهش أكثر أن يلجأ هذا الإنسان العملاق و هذا الشاعر - "القاطرة"، بكل ما للكلمة من معنى، إلى ذات الأسلوب لتصفية الحساب مع الحياة ومع المتربصين به...
" إلى الجميع
لا تتهموا أحداً في موتي، و رجو أن لا تنمّوا. فالراحل لم يكن يطيق ذلك.
ماما، أخواتي ورفاقي، سامحوني – هذه ليست الطريقة الصحيحة (ولا أنصح غيري بها)، ولكن لم يبق باليد حيلة.
ليلا – أحبيني.
أيها الرفيق– الحكومة : عائلتي هي ليلا بريك، ماما، اخواتي وفيرونيكا فيلتودوفنا بولونسكايا [1].
إذا دبّرت لهم حياة مقبولة – فشكراً.
اعطوا هذه القصيدة التي ابتدأتُها إلى آل بريك، وهم سيفهمون.
كما يقال – " trop poivre` [2] " ،
و قارب الحب تحطم على صخرة الحياة.
لقد تحاسبت مع الدنيا
و لا فائدة من تعداد
الآلام المتبادلة،
المصائب
والإهانات.
أتمنى لكم السعادة في البقاء.
فلاديمير مايكوفسكي. 12 نيسان 1930 " [3]
بنفس الطريقة – الانتحار، و إن يكن بواسطة المسدس وليس عن طريق الشنق كما هو الحال عند يسينين - اختتم حياته أحد رموز حركة الحداثة الشعرية في روسيا و أحد مؤسسي تيار المستقبلية في الشعر الروسي، المبشر بالثورة الروسية وحامل لوائها. نعم. هكذا أنهى فلاديمير مايكوفسكي مسيرة صاخبة ومثيرة من الإبداع ؛ و قد لاقت تلك المسيرة الأدبية والثورية للشاعر صدى طيباً في مختلف أنحاء العالم، داخل الاتحاد السوفييتي السابق و خارجه لعدة أجيال ، وحيث ما زالت الملايين تحتفظ في وجدانها وفي ذاكرتها ببعض لا بأس به من الحنين إلى ذلك الزمن الثوري الممتلئ بمشاعر الرومانسية و الفروسية على حد سواء.
كانت الثقافة الشعرية الروسية قد منحت العالم ، قبل مجيء مايكوفسكي إلى الأدب، مجموعة كاملة من القامات الأدبية النادرة: ديرجافين، جوكوفسكي، بوشكين ، ليرمنتوف، توتشيف، بلوك.. وغيرهم. فمع بداية القرن العشرين كانت الثقافة الأدبية الروسية قد صارت صاحبة تقاليد كلاسيكية راسخة وعميقة.
وعند الحد الفاصل بين قرنين، في عصر النمو المتصاعد للحركة الثورية، كانت روسيا بحاجة لشاعر جديد يستطيع أن يراكم في إبداعه طاقات الحشود الديموقراطية الواسعة، ويقوم بتطوير و بمضاعفة التقاليد الإنسانية للأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
وقد جاء مثل هكذا شاعر. شاعر ذو أسلوب فريد و غير مسبوق في الإبداع، صاحب طموحات وابتكارات هائلة، شاعر فذ يتميز بإيقاع مثير وببلاغة مجازية مدهشة، شاعر راح يخاطب الملايين في الساحات والشوارع.
لم يكن المغزى من ثورة أكتوبر واضحاً على الفور ولدى الكثيرين. بينما لم تكن توجد بالنسبة لمايكوفسكي أية مشكلة تجاه الثورة. " أن أقبل أو لا أقبل الثورة؟ لم يكن هذا السؤال مطروحاً بالنسبة لي. إنها ثورتي. ذهبت إلى مقر الثورة في سمولني. وبدأت أعمل. كل شيء... "
لقد صار الشاعر بوقاً للثورة ومبشراً بها. ففي أعماله ، كما يبدو، نطقت الثورة بصوت الشاعر، وقد تمكن أن يكتب في وصيته الشعرية، دون أن يكترث مثقال ذرة بمصيره الشخصي أو بالمجد :
دع المجدَ يُحاك لأجل العباقرة
في الموسيقى الجنائزية
كأرملة لا يُتعزى عنها –
و لتَمُتْ ، أشعاري ،
دعها تموت ، كما الجنود
المجهولون ماتوا
في المعارك !
إن بطولة الشاعر الوطنية ، تضحياته الكبيرة و نكرانه للذات، أصالة النبوغ وكمال القصيدة – كل ذلك ساهم في تخليد فلاديمير مايكوفسكي، و جعله رمزاً للشعر التقدمي في العالم.
لقد كتب مايكوفسكي : " أنا شخص حاسم، وأريد أن أتحدث مع الأجيال القادمة بنفسي، دون أن أنتظر ما سيقوله لهم النقاد بشأني في المستقبل .
و الآن لنترك الشاعر يحدثنا عن طفولته و عن تشكله كشاعر و كثوري أممي.
الموضوع
أنا – شاعر. و بهذا أنا مثير. وحول ذلك أنا أكتب.
ولدت في السابع من تموز 1894 ( أو 1893 – لا يتطابق رأي ماما مع السجل الوظيفي لوالدي. في جميع الأحوال – ليس قبل ذلك ).
موطني – قرية بغدادي ، مقاطعة كوتايسي في جورجيا ( التابعة لروسيا القيصرية ثم الجمهورية السوفييتية سابقاً، والآن دولة مستقلة – المترجم)
تركيبة العائلة
الأب : فلاديمير كونستانتينوفيتش (مأمور الحراج في قرية بغدادي)، توفي عام 1906.
الأم : الكساندرا الكسييفنا.
الأخوات :
- لودا ، - أولا.
أفراد آخرين من عائلة مايكوفسكي ، على ما يبدو ، لا يوجد.
جذور الرومانسية
" أول منزل أتذكره بوضوح مؤلف من طابقين. العلوي – حيث نعيش نحن. السفلي – معمل صغير لصناعة الخمر. مرة واحدة في السنة – عربات تحمل العنب. كانوا يضغطون عليَّ. أنا كنت آكل، و هم كانوا يشربون. كل هذا كان يجري في نطاق واحدة من أقدم القلاع في جورجيا بالقرب من بغدادي. وقد كانت القلعة تتخذ شكل مربع بفضل متاريس القلعة. في زوايا المتاريس – كبكبات(أدوات إرجاع) للمدافع. وفي المتاريس مزاغل (كوى – جمع كوة). وخلف المتاريس كانت توجد خنادق. وخلف الخنادق – غابات و ذئاب. وفوق الغابات جبال. نموتُ. فرحت أركض وأصعد أكثرها علواً. تنخفض الجبال باتجاه الشمال، حيث تنقطع هناك. كنتُ أحلم – لعلها روسيا. كنتُ تواقاً للذهاب إلى روسيا لدرجة لا تصدق ".
الشاعر هنا لا يتذكر طفولته ببساطة و حسب. بل إنه يحاول أن يرى في انطباعات الطفولة مصدر طباعه وإبداعه. وقد كشف مايكوفسكي منذ الطفولة عن " ميل نحو تغيير المكان". ففي مرحلة الشباب جاب البلاد بأكملها وطاف نصف العالم تقريباً. هكذا صار التعطش لما هو جديد ومجهول، وحب الاكتشاف وروح الإبداع و التجديد من أهم مواصفات الحس الشعري المتأجج عند مايكوفسكي.
التعليم
قامت بتعليمي أمي و مختلف بنات العم و العمة ، بنات الخال والخالة.
كانت دروس الحساب تبدو لي غير حقيقية. اضطررت لتعلم الحساب بمساعدة التفاح والدراق، الذي كان يعطى للأولاد. كانوا يعطوني باستمرار، وكنت أعطي بلا حساب. ففي القفقاس كميات لا حصر لها من الفواكه. تعلمتُ القراءة بمتعة كبيرة !
الكتاب الأول
كتاب لا قيمة له " أغافيا – مربية الطيور". لو أنه وقع بين يدي عدة كتب من هذا النوع – لربما كنت هجرت القراءة للأبد. لكن، لحسن الحظ، الكتاب الثاني – "دون كيخوت". يا له من كتاب! قمت بصنع سيف ودرع من خشب، و رحت أخبط كل ما يحيط بي.
لقد منحت الطبيعة مايكوفسكي موهبة الإحساس الفائق الحدة تجاه الظلم الاجتماعي و الإنساني، تجاه الكذب والنفاق. من هنا – استعداده الدائم (بأفضل ما للدونكيشوتيه من معنى) للوقوف إلى جانب الخير و الحق، دون أن يعرف شيئاً من " التعقل المشين .
الامتحان
انتقلنا من بغدادي إلى مدينة كوتايس. اجتزت امتحان الدخول إلى المدرسة الثانوية. سألني القس عن معنى كلمة " Oko " – أجبته : "ثلاثة أرطال " (هذا ما تعنيه باللغة الجورجية). ولكن الممتحنين الأكارم شرحوا لي أن " Ok " – تعني عين في اللغة السلافية الكنسية القديمة. وبسبب ذلك كدتُ أرسب في الامتحان. لذلك صرت أمقتُ على الفور – كل ما هو قديم، كل ما يتعلق بالكنيسة وبالسلافيين. وربما من هنا انطلقت مواقفي المستقبلية ( Futurism ) والإلحادية و الأممية.
إن فوتوريزم مايكوفسكي لا ينفصل عن نفيه ورفضه لأية تراتبية في أي اتجاه كانت. وأما تجسيد القديم فإن الشاعر كان يجده في النظام الرأسمالي – بعقليته ، بأخلاقه و بقيمه الحياتية.
بينما إلحاد الشاعر انعكس في عدد من أهم أعماله الإبداعية وفي سلسلة من الموتيفات المناهضة للرب. وأما أممية مايكوفسكي فلا نظير لها. إذ بدون هذه الخصوصية لا يمكن فهم أي عمل من أعماله.
المدرسة الابتدائية
الصف التحضيري ، الأول والثاني. أتابع في المرتبة الأولى. أنال درجة الامتياز في كل شيء. أقرأ جول فيرن. يا للروعة. رجل ذو لحية اكتشف عندي موهبة الرسم. يتعب نفسه معي عبثاً.
الحرب الروسية اليابانية
ازداد عدد الصحف و المجلات في البيت. "المعارف الروسية"، "الكلمة الروسية" ، "الغنى الروسي" و غيرها. أقرأ كل شيء.
مرحلة العمل السري
جاءت أختي من موسكو. متحمسة مبتهجة. أعطتني أوراقاً طويلة مطوية بشكل سري. أعجبتني: خطر جداً. ما زلت أذكر حتى الآن. في الأولى :
استفق ، يا رفيق ، هيا استفق ، أيها الأخ ،
بسرعة ارم ِ البندقية على الأرض...
إنها الثورة. بواسطة الشعر. و إذ بالثورة و الشعر يجتمعان في رأسي معاً.
العام 1905
... انطلقت مظاهرات و لقاءات جماهيرية. وأنا أيضاً ذهبت. أمر حسن. أتلقى الأمر بطريقة فنية: الفوضويون في الأسود، الاشتراكيون الثوريون في الأحمر، الاشتراكيون الديموقراطيون في الأزرق، والاتحاديون في بقية الألوان
الاشتراكية
خطابات، جرائد. الخلاصة – كلمات و مفاهيم غير مفهومة. أطالب ذاتي بالتفسيرات. رحت أشتري المنشورات والصحف الثورية: "بوريفيتسنيك" و"عن ذات الشيء". كنت أستيقظ في السادسة صباحاً و ألتهم كل شيء... انحفرت في ذاكرتي للأبد مقدرة الاشتراكيين على توضيح الحقائق وتنظيم العالم ... التحقتُ بحلقة ماركسية... رحتُ أحسب نفسي اشتراكياً – ديموقراطياً...
عام 1906
توفي والدي.
بعد دفن الوالد – لدينا ثلاث روبلات. غريزياً قمنا ببيع الأثاث. وتحركنا باتجاه موسكو. لماذا؟ لم يكن لدينا هناك حتى معارف... استأجرنا شقة في شارع برونّايا.
العمل
لا يوجد نقود لدى العائلة. اضطررت للرسم. أكثر ما بقي في الذاكرة البيض الملون في عيد الفصح. كانت تدور و تصرّف كما الأبواب. رحت أبيع البيض إلى أحد المخازن. 10 – 15 كوبيك لقاء البيضة الواحدة. من ذلك الحين وأنا أكره الأسلوب الروسي والحرف اليدوية.
المدرسة الثانوية
ترفعت إلى الصف الرابع من المدرسة الرابعة. تراجعت علاماتي.
تحت المقعد " ضد دوهرينغ ".
القراءة
لم أتقبل الروايات النثرية نهائياً. فقط الفلسفة. هيغل. العلوم الطبيعية. والماركسية بشكل رئيسي. لم يكن هناك من عمل فني يشدني أكثر من " المقدمة " لماركس. كان الطلاب الاشتراكيون ، الذين يستأجرون غرفة عندنا يحضرون معهم مختلف المنشورات السرية. " تكتيك حرب الشوارع " و هلم جرا. وأتذكر بوضوح كتاب لينين "خطتان في التكتيك" ذا الجلد الأزرق. أعجبني أن الكتاب كان مقصوصاً بالضبط عند الأحرف. لتسهيل التبادل السري. و أخلاق الاقتصاد في حدوده القصوى.
الحزب
انتسبت إلى حزب البلاشفة عام 1908. عملت في الدعاية. توجهت إلى عمال الأفران، ثم عمال مصانع الأحذية وأخيراً إلى عمال المطابع... تم انتخابي في مؤتمر عام عضواً في لجنة موسكو الحزبية. هنا لم تكن حاجة لهم بي للعمل – لقد أسروني.
العنوان
29 آذار عام 1908 وقعنا بين أيدي كمين. اضطررنا لأن نبلع دفتر الملاحظات. مع العناوين على الجلد. تم اعتقالنا. خرجت. وبعد عام من العمل الحزبي اعتقلت مجدداً.
وحول حياة مايكوفكسي في السجن يروي رفيقه في الغرفة ن. هليستوف: "في السجن كان مايكوفسكي يقرأ نيكراسوف، هيغل ، فيورباخ،.. وغالباً ما كان يقرأ أشعار نيكراسوف بصوت عالي – " الدرب الحديدية "، " لمن العيش في روسيا بشكل جيد " ...
أطلق سراح مايكوفكسي في 27 شباط عام 1909.
الاعتقال الثالث
كان المناضلون ، الذين يسكنون عندنا (موراشادزه ، هيرولايتيس و غيرهم) يقومون بالحفر تحت سجن التاغانكا بقصد الإفراج عن النساء – المعتقلات والمعاقبات بالأعمال الشاقة. نجحنا في ترتيب الهروب للبعض. تم اعتقالي. قمت بالمشاكسة فتم نقلي من سجن إلى آخر و انتهيت في سجن بوتيركي (سجن معروف حتى في أيام الاتحاد السوفييتي – المترجم )
11 شهراً في سجن بوتيركي
من أهم الأوقات بالنسبة لي. بعد ثلاث سنوات من النظرية و الممارسة – هجمت على النثر. قرأت كل ما هو جديد البتة. الرمزيين – الكساندر بيلي، بالمونت. جربت الكتابة.. لم أنجح.
مثل :
اتشحت الغابات بلون الذهب ، بلون الأرجوان ،
و الشمس راحت تلعب على رؤوس الكنائس.
و أنا أنتظر : لكن الأيام ضاعت في الشهور ،
مئات من الأيام المُرهِقة .
كتبت دفتراً كاملاً. شكراً للمفتشين، الذين صادروا الدفتر عند خروجي من السجن.
و بعد أن قرأت الكتابات المعاصرة، رحت "التهم " الكتاب الكلاسيكيين. بايرون، شكسبير، تولستوي. آخر كتاب : " نا كارينينا ". لم أقرأه حتى النهاية. تم استدعائي ليلاً.. "مع الأغراض عبر المدينة ". وإلى الآن لم أعرف كيف انتهت الحكاية بالنسبة لعائلة كارينين.
بداية الحرفة
ظننتُ أنه ليس بمقدوري كتابة الشعر. إذ كانت تجاربي بائسة. رحتُ أمارس الرسم...
شاعري المفضل – ساشا تشيورني. كان يفرحني مذهبه المعادي للجمال Anti esthetism .
آخر المعاهد
... انتسبت إلى معهد الرسم و النحت والعمارة : المكان الوحيد، الذي قبلني بدون أن يطالبني بشهادة حسن سلوك سياسي. عملت بكد.
إنه لأمر غريب : يدللون المُقلِدين– أما الذين يعتمدون على ذاتهم فيضطهدونهم. دافعت عن المُضطَهدين.
ديفيد بورلوك
ظهر في المعهد بورلوك. كان له مظهر وقح. بنظارة و في سترة. يمشي و هو يدندن. رحتُ أتحرش به. كدنا نتعارك. وفي أحد الأيام ذهبنا إلى حفلة خيرية. حيث عزفت موسيقى رحمانينوف " جزيرة الموتى". هربت إلى الخارج. ثم خرج بورلوك. ضحكنا على بعضنا البعض. وذهبنا نتسكع سوية. ليلة لا تنتسى. انتقلنا من الملل والضجر من موسيقى رحمانينوف إلى موضوع المدرسة، من المدرسة – إلى مجمل الضجر من كل ما هو كلاسيكي. عند ديفيد – غضب المعلم الذي تجاوز معاصريه، وعندي – حماس الاشتراكي الذي يعرف حتمية انهيار ما هو قديم. هكذا ولد تيار المستقبلية ( Futurism ) الروسي.
اللقاء التالي
نهاراً كتبت قصيدة. بشكل أدق – جزء من قصيدة. سيئة. لم تنشر أبداً. ليلاً التقي ديفيد بورلوك في منتزه سريتينسك. قرأت له القصيدة. وأضفت أنها لأحد أصدقائي. توقف ديفيد، رمقني بنظره وقال : "بل إنه أنت مَن كتب هذه القصيدة ! يا لك من شاعر عبقري!". كم أفرحني هذا المديح الهائل وغير اللازم. فغرقت في الشعر. لقد أصبحت شاعراً في تلك الليلة.
حماقات بورلوك
ومنذ اليوم التالي راح بورلوك وهو يعرفني بأحد ما يقول: "لا تعرفه؟ صديقي العبقري. الشاعر الشهير مايكوفسكي. كنت أشده وأدفعه. زأر علي وهو يبتعد قائلاً : " الآن عليك أن تكتب. وإلا فإنك ستضعني في موقف غبي للغاية ".
" صفعة "
... في موسكو خليبنيكوف. لقد كانت عبقريته محجوبة بالنسبة لي من قبل ديفيد الهادر. وهنا أيضاً كان يوجد " اليسوعي المستقبلي " للكلمة – الكسي كروتشينيخ.
بعد عدة ليال من الشعر الغنائي رأى النور البيان المشترك. صاغه و أعاد كتابته ديفيد ، ومن ثم أعلناه باسم " صفعة للذوق العام ".
عام بهيج
سافرنا عبر كل روسيا. أمسيات ومحاضرات. تنبه المسؤولون في المناطق وقاموا بتنبيهنا إلى ضرورة عدم التطاول على القيادة وعدم المساس ببوشكين. كثيراً ما قاطعتنا الشرطة عند منتصف الكلمة.
لقد كانت تلك الأعوام بالنسبة لي مجرد عمل شكلي، امتلاكاً للكلمة.
لم يقبل الناشرون أعمالنا. فقد أحس الأنف الرأسمالي فينا زارعي متفجرات.
بعد أن عدت إلى موسكو كنت مضطراً لقضاء معظم وقتي في البولفارات (المنتزهات ).
مايكوفسكي المستقبلي. "صفعة للذوق العام
بخلاف المستقبليين الإيطاليين الذين زينوا الحرب و اعتبروها تنظيفاً للعالم، فإن المستقبليين الروس لم يدعوا إلى عبادة العنف وركزوا اهتمامهم بشكل رئيسي على التجديد في حقل الفن الأدبي. ففي البيان الأول " صفعة للذوق العام " عام 1912 جاء ما يلي (باختصار ).
" إن الماضي لمحدود. وإن الأكاديمية وبوشكين ليسا أكثر وضوحاً من الحروف الهيروغليفية.
لنرمي بوشكين، دوستويفسكي وتولستوي وغيرهم عن سفينة الحداثة..
نحن نأمر باحترام حق الشعراء :
بزيادة حجم القاموس بكلمات جديدة و عبارات جديدة...
في كراهيتهم التي لا حدود لها تجاه اللغة القائمة من قبلهم...
أن يقفوا على صخرة الكلمة "نحن" وسط بحر من الصفير و الاحتجاج...
وإذا ما زالت توجد في سطورنا العبارات الدامغة الوسخة لما تسمونه "المنطق السليم" و"الذوق الرفيع"، فإنها قد بدأت تخفق عليها لأول مرة النفحات اللطيفة لذلك الجمال الجديد القادم للكلمة الثمينة بحق ".
و لكن ما الذي جمع بين مايكوفسكي والمستقبليين ؟
أولاً ، البداية المتمردة، الكراهية للبرجوازيين و لكل ما هو قديم وبالي في الحياة، في الفن؛ و من هنا بالضبط ذلك النفي لمجمل ثقافة الماضي ، وقبل كل شيء، الرمزية.
ثانياً، روح التجديد والابتكار الدائم، و السعي للغرف حتى القاع من الطاقات المعبرة للكلمة و للقصيدة. تلك الروح التي كانت مميزة لمايكوفسكي.
وأخيراً، يجب أن لا ننسى الناحية الإنسانية في الموضوع، كما كتب الشاعر نفسه في سيرته الذاتية: " أتذكر ديفيد بحب دائم. يا له من صديق رائع...
في عام 1913 كتب مايكوفسكي هجائيته الشهيرة "هيّا!". ففي بضعة أبيات قصيرة عكس مايكوفسكي جلّ حقده على النظام الرأسمالي. وحسب إحدى الفرضيات، كتب مايكوفسكي قصيدته تلك خصيصاً ليقرأها عند افتتاح كباريه " المصباح الوردي"، حيث احتشد جمهور يحب اللهو. جمهور متخم. وحيث الفن بالنسبة له – مجرد قضاء وقت " حضاري"، لملأ الفراغ. باشر الشاعر بقراءة أبياته. بل لم يقرأها، وإنما قذف بها في وجه حشد البرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق و الراضية عن نفسها :
بعد ساعة من هنا إلى الزقاق النظيف
سيسيل على الإنسان شحمكم المترهل ،
أما أنا فكم فتحت لكم حُققاً من الأشعار ،
أنا – مبدِّدُ و مبذًر الكلمات الثمينة.
ها أنت ، أيها الرجل ، توجد في شاربيك بقايا
من ملفوف مطبوخ لم تبتلعها و لم تأكلها كلها ؛
ها أنتِ ، أيتها المرأة ، على وجهك بودرة سميكة ،
و تّبدين كما المحارة من أصداف الأشياء.
على أثر ذلك أصاب الجمهور غضب عارم تحول إلى شغب وفضيحة.
لكن المثير أن مايكوفسكي هنا يقترب من تقاليد بوشكين في موضوع "الشاعر والحشد" (يقصد بالحشد هنا السفلة و السذج). ففي قصيدته "الشاعر والحشد " يقف بوشكين ضد تحقير الشعر وضد النظرة النفعية منه من قبل جموع المستهلكين. وفي قصائده " النبي" و" الشاعر" و"لقد شيدت لنفسي تمثالاً.." يوحي لنا بوشكين صورة عن الوجه الرفيع والنقي و الفاضل للشعر، الذي لا يصغي ل"صوت الحشد" ولكنه يسمع " صوت الله"، أي ينطلق في إبداعه من حسابات سامية – مبادئ الحقيقة والحق، الجمال و الحب، الخير والواجب و المسؤولية.
بهذه الطريقة نجد أن مايكوفسكي، الذي يدعو إلى إسقاط الثوابت والقوانين، ليس بعيداً عن "الكلاسيكي" بوشكين. و هذا ما تؤكده الأبيات التي كتبها مايكوفسكي في بداية عام 1913 تحت عنوان " اسمعوا ! " بكل ما فيها من مفاجأة، وبعمق الشعور غير المتوقع منه و المسكوب فيها :
اسمعوا !
طالما أن النجوم تضيء –
هذا يعني – أن هناك مَن هو بحاجة لذلك ؟
هذا يعني – أن هناك مَن يريد أن تكون هذه النجوم ؟
هذا يعني – أن أحداً ما يدعو تلك " البصقات " لؤلؤة ؟
...
يستحيل أن لا يحس المرء في هذه الأسطر بمدى العذاب، الذي كانت تعاني منه روح الشاعر الممزقة و بمدى وطأة الوحدة التي كانت تثقل قلبه
لقد شاركت موسكو بأكملها في دفن مايكوفسكي. فعلى مدى ثلاثة أيام استمرت الحشود في وداع جثمان الشاعر. و كما هو الحال مع يسينين، أثار انتحار مايكوفسكي تكهنات كثيرة و دفع بتفسيرات مختلفة. و قد كانت الممثلة فيرونيكا بولونسكايا إحدى "ضحايا" فرضيات القتل و ليس الانتحار باعتبارها كانت آخر شخص رأى مايكوفسكي حياً قبيل وفاته بلحظات.. إذ أظهرت التحقيقات أن مايكوفسكي كان عاد إلى منزله برفقتها في تلك الليلة المشؤومة و أنه سُمِع صوت إطلاق النار بعد برهة قصيرة من خروجها. وهناك معلومات تشير إلى أن مايكوفسكي كان قد طلب منها أن تتزوجه (وهناك من يقول أنه طلب منها السفر برفقته إلى لينينغراد.. بل إن البعض يذهب إلى فرضية أخرى تماماً تقول بأن بولونسكايا كانت عميلة لل ك. ج. ب التي قررت التخلص من مايكوفسكي بعد أن أغرم بالروسية الجميلة زاخاروفا و التي كانت تقيم في باريس... الخ ).
مهما يكن فإن مايكوفسكي ما زال يحظى حتى الآن بمحبة وتقدير الملايين من الشباب والمثقفين في جميع أنحاء الكرة الأرضية، خصوصاً بين المثقفين و الأدباء ذوي الميول اليسارية. وما زال تمثاله ينتصب شامخاً في موسكو يرمز للثورة و للتمرد و ذلك في ساحة تحمل اسم الشاعر "ساحة مايكوفسكي" ، التي تجذب إليها جميع الرافضين للظلم و للتهميش.
مايكوفسكي مع ليلا بريك
ترجمة لمقطع من قصيدتين للشاعر :
1
" اليوبيل "
الكسندر سيرغييفيتش [1]،
اسمح لي أن أقدم نفسي.
مايكوفسكي.
هات يدك !
ها هو القفص الصدري.
أصغ ِ – لم يعد خفقان بل أنين ؛
لم أعرف أبداً أنه توجد
كل هذه الأطنان في رأسي
الطائش بشكل مخز ٍ.
إني أجرّك.
أنت مندهش ، بالطبع ؟
هل أطبقت عليك ؟
هل آلمتك ؟
اعذرني ، يا عزيزي.
لدي الخلود كاحتياط
كما هو لديك.
2
مقطع من قصيدة :
" بأعلى الصوت "
اسمعوا ، أيها الرفاق الأحفاد ،
المبشرَ و البوق – القائد :
و قد أخمدتُ سيول الشعر ،
سوف أجتاز المجلدات الغنائية ،
متحدثاً إليكم
كما الحي يتحدث إلى الأحياء.
....
إن شعري سيصلكم على ظهور القرون
و عبر رؤوس الشعراء و الحكومات.
...
إن شعري سيخترق السنين بضراوة
و سيصلكم قوياً ، ناضجاً ، فجاً
كما دخلت أيامنا مواسير المياه ،
التي سبق و أبتكرها عبيد روما.
مجلة أبابيل
26-7-2007