كان في السابعة عشرة عندما حلّت النكبة، ومنذ ذلك اليوم صارت صفورية مجازاً للفقد، ومسرحاً يحتضن ملهاة الإنسان ومأساته في مواجهة عنف العالم. أمس، شيّعت فلسطين شاعرها الثمانيني الذي جاء متأخّراً إلى النشر، ووري صاحب «ضحك على ذقون القتلة» في ثرى الناصرة المحتلّة، بعد عمر أمضاه يكتب لغة الحياة في محيط غنائي متجمد
نجوان درويش
القدس | شيّعت فلسطين، عصر أمس، جثمان شاعرها طه محمد علي (1931)، إلى مثواه الأخير في الناصرة. هنا ووري في الثرى ابن قرية صفورية المهجّرة، في المدينة التي سكنها بعد تهجير قريته. وقد شارك في الجنازة، التي انطلقت بعد صلاة العصر، العديد من أهالي الناصرة ومهجّري قرية صفورية وعدد من السياسيين والكتّاب والمبدعين. كيف، في زحام الموت والواجب الصحافي وأقل من ساعة واحدة، يمكنك أن تقول رحيل شاعر بفرادة وندرة طه محمد علي، بل وبرمزيته الحيوية التي لا تشبه الرمزيات الأخرى لـ«الشعراء الكبار»؟ هو جدتنا التي لا نعرف كيف نصف خسارتنا فيها... جدتنا لأنه كان بزهد الجدات وطيبتهنّ وقدرتهنّ على بذل الحب بلا شروط، لأنه كان أبعد ما يكون عن تسلّط الآباء وهيمنة الأجداد. ولأنه كان مثلنا شاعر قصيدة نثر، كتب لغة الحياة في محيط غنائي متجمد.
بدأ من شيخوخته شاعراً ذا فتوة، مجموعته الأولى «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى» صدرت عام 1983 وقد تجاوزت الخمسين. بالطبع، نشر قصائد وقصصاً قبلها في المجلات الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، لكنه ابتداءً من 1983 فقط انتظم في إصدار الكتب. وحين ترجم شعره إلى الانكليزية والفرنسية أواخر التسعينيات، وجد من الحب ما أَذهل «جدتنا» التي كانت تتلقى التقدير والثناء غير مصدقة أو تزعم أنها غير مصدقة.
صحيح أن تجربة طه محمد علي «ماغوطية» في بعض مراحلها، لكننا نزعم أنها تجاوزت ذلك، وأن ما سيبقى من طه شعراً أكثر مما سيبقى من المعلّم الماغوط. شعر طه يجمع باقتران نادر ثقافة شعرية عالية، مشغولة بأداء عفوي كأنما هو عفو الخاطر. في استعمال اللغة وتناول المواضيع، يجمع الجرأة والطليعية إلى ذلك الاطمئنان والاقتدار والمعرفة بالأصول التي تسمّى الأصالة. شعره محلّي بالمعنى الإيجابي للكلمة. وخلف اللغة الشعبية والأجواء والتعبيرات «البلدية»، يكمن الشعر الرفيع والمعالجات التي تجعل قريته «صفورية» - فردوسه المسروق منذ 1948 - مسرحاً لملهاة الإنسان ومأساته أمام صخب العالم وعنفه.
منذ البداية، نشرت كل مجموعاته الشعرية - ومجموعته القصصية الوحيدة - في فلسطين، بعضها صدر ضمن منشورات «اتحاد الكتاب العرب» في حيفا، وواحد صدر عن «مركز حفظ التراث» في أم الفحم، ومجموعاته الأخيرة نشرها بنفسه في مطابع الناصرة. وبهذا بقي معروفاً على نطاق ضيق في العالم العربي. وحتى حين صدرت أعماله الكاملة قبل أشهر (دار راية)، فإنها صدرت في حيفا أيضاً، كباكورة لمشروع نشر طموح ونوعي اختار أن يبدأ بطه محمد علي. منذ أشهر والشاعر في سرير مرضه وصورته على الغلاف تحت «الأعمال الكاملة». «الأعمال الكاملة» تعبير يستفز بقسوته، فأنا وآخرون لا بد من أنّ فينا شيئاً من أعماله، وأننا بعض أعماله.
الذين التقوا طه محمد علي لمرة واحدة، يعرفون نوع الأثر الذي يمكن أن تتركه إنسانيته الهائلة التي أودعها شعره وقصصه وسيرته. هائلة هي الإنسانية التي تفيض من صوته وأحاديثه وقسماته، من حركات يديه الكبيرتين ومن أخاديد الزمن في جبينه، وهذا الشعر العذب الصادق والطفولي والخجول والمجروح الذي يخفي جرحه. الدين الكبير الذي لا أعرف سبيلاً لإيفائه. والأصوات والابتسامات والعجز الهائل أمام موت من نحبّ. وشعوري أن فلسطين نقصت اليوم، وما لي سوى أن ألوّح لك (كأن الوفاء يعزّي!) أيّها الصديق الحبيب والباقي.
إنّها سيرة فلسطين
فراس خطيب
حيفا | الشاعر المولود في قرية صفورية المهجّرة عام 1931، جعل سيرته قصة عن فلسطين. كان يبلغ 17 عاماً عندما هُجّر وأهله ليلة 15 تموز (يوليو) عام 1948 من قريتهم، فأخذتهم رحلة اللجوء إلى لبنان. بعد عام، عاد طه محمد علي إلى فلسطين. لكن عودته لم تكتمل. لم يسكن في صفورية المهدّمة، فاستقر في الناصرة. هناك، افتتح محلاً لبيع التذكارات في سوق «الكزانوفا» بالقرب من كنيسة البشارة. في ذلك المكان، قرأ وكتب قصائده. صاحب «ضحك على ذقون القتلة» غادر الديار، بعدما نال حقه عالمياً وورد اسمه قبل سنوات على لائحة «أهم شعراء القرن العشرين»، لكنّه لم ينل حقه في فلسطين والعالم العربي.
في رصيده خمسة دواوين: هي «القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى» (1983)؛ و«ضحك على ذقون القتلة» (1989)، و«حريق في مقبرة الدير» (1992)؛ «اله، خليفة وصبي فراشات ملونات» (2002)، «ليس إلا» (2006)، ومجموعة قصصية وهي «سيمفونية الولد الحافي ـــــ ما يكون وقصص أخرى» (2003)، علماً بأنّ أعماله الكاملة صدرت عن دار «راية» (2011). ترجمت قصائده الى 12 لغة، ومن بينها العبرية (ترجمة أنطوان شماس، منشورات «أندلس» 2006).
في حديث إلى «الأخبار»، يقول الناقد أنطوان شلحت إنّه بعد صدور الترجمات العبرية «اعترف نقاد إسرائيليون بأن قراءة شعره قد تجعل المتلقي الإسرائيلي يدرك أنه يقف أمام شعب فلسطيني مرتبط بأرضه، ولا ينوي نسيان هذه الرابطة». ويرى الأديب سلمان ناطور أنّ الراحل «لم يكتب عن القضية، بل عن الإنسان البسيط. ما كتبه عن صفورية استعادة لحياتها وليس نكبتها. لقد ابتعد عن الكتابة البكائية والنكبوية».
صفوريّة تعيش في القصيدة
رشا حلوة
عكا| ثنائية الألم والأمل ظهرت كثيراً في قصائد طه محمد علي وقصصه. ثنائية كأنها تحصل على أرض قريته المهجرة التي سرقها الاحتلال. كانت صفورية البداية، تبدأ منها القصيدة وتنتهي عندها. هي التي جعلته شاعراً كما قال يوماً: «صفورية، هي من صنعتني شاعراً». كان يزورها بعدما هجّرته قوات الاحتلال عام 1948 منها إلى لبنان، ثم عاد إلى فلسطين على أمل أن يعود إلى بيته الذي هُدم ولم يبقَ منه إلا الأرض الذي كان عليها. لكنّه لم يستطع أن يزورها في سنواته الأخيرة. كانت زيارتها تسبّب له الألم، كأنه كان يشعر بأنه لن يعود إليها قريباً، فبقيت تعيش في قصائده ويعيش هو فيها من خلال كلماته وذكرياته.
قبل عام، زاره أصدقاء في بيته بهدف إجراء مقابلة صحافية، لم تُجرَ المقابلة، فحالته الصحية لم تسمح له بالكلام. جلس الأصدقاء وتحدثوا إلى زوجته «أم نزار» بينما كان جالساً معهم لا يلتفت إلى شيء... إلا حين ذكرت صديقة اسم «صفورية». التفت إليهم كي يستمع إلى ما سيروونه عنها. لكن ماذا سيقولون عنها؟ هو الذي يعرف تفاصيل حكايتها كلّها.
ما كنّا يوماً سنعرف صفورية كما عرفناها منه ومن كلماته. وما كنّا سنعرف المكان تماماً حين زرناها في مسيرة العودة عام 2008 في الذكرى الـ60 للنكبة لولا أنه دوّنها طوال هذه السنين. هو الشاعر «الذي لا تملك إلا أن تحبّه مثلما تحب جدّتك»، كما وصفه مرة زميلنا الشاعر المقدسي نجوان درويش. وكم سنشتاق إلى أجداد رحّلوا بعيداً، ولم يستطيعوا حتى العودة إلى أرضهم أمواتاً.
النص الحافي هو البطل
إسماعيل ناشف
«سيمفونية الولد الحافي ما يْكون» قصة قصيرة لطه محمد علي نشرت ضمن مجموعة قصصية بالعنوان نفسه (2003)، بينما ذيلت القصة بتاريخ كتابتها ومكانها «الناصرة، تشرين الأول 1996». تتمحور القصة حول خالد الحافي. تدور الأحداث السردية من خلال نسيج تفاصيل الحفاء وما يترتب عليه من صراعات يومية بين الأرض والقدم العارية، صاحب القدم ووالديه والبيئة الاجتماعية المحسوسة التي تنظر إلى حفائه.
من جانب آخر، يتميز خالد بمحاولاته الدؤوبة للتغلب على الحفاء عبر شراء حذاء. رغم رغبتهما في توفير الحذاء لخالد، إلا أن والديه لا يستطيعان توفير المبلغ لذلك. يتميز النسيج السردي للحالة الوجودية (حفاء) بوصف دقيق لما تتكبده القدم الحافية من جروح وصدمات، والأساليب التي تستخدمها أم خالد في علاج قدم ابنها.
الحدث الأساسي في القصة هو قدوم بائع أحذية متجول إلى القرية، وهذا البائع ليس محلياً بل مغربيّ. خالد لم يعد يأمل أن يحصل على حذاء، فلم يذهب لمشاهدة أحذية البائع المتجول. يحصل التحول عندما يبلغه أحد أقرانه أن المغربيّ يبيع الحذاء بثمن بخس مقارنة بالسعر في قريتهم. يجنّد خالد والديه اللذين يقترضان المبلغ من جيرانهم.
وعندما يصل خالد إلى البائع، يكون قد باع بضاعته باستثناء فردتيْن يمنييْن. بعد محاولات عدة، يقنعه خالد ببيعه الفردتين، لكن عند عودته إلى البيت ومحاولته انتعالهما يفشل في الوقوف ويقع على الأرض عند كل محاولة. يجبره والده على إرجاع الحذاء، فيقوم بذلك ويسترد المبلغ الزهيد. خالد لا يملك حذاءً، ولن يملك الحذاء. قد تكون هذه التيمة عن الولد الحافي من أكثر المواضيع تكراراً في الأدب والفن والسياسة، وفي العديد من الثقافات، نظراً إلى العلاقات الاجتماعية التي تفرز الهرمية بين من يملك ومن لا يملك قدرة الحصول على مقومات العيش الأولية من مسكن وملبس ومأكل.
في القصة درجة عالية من المتانة في البناء نابعة من تطابق مذهل بين الموضوع، اللغة، الشخصيات، الحدث، والحركة بينها. خالد، عكس سندريلا، لا يقابل أميرات، بل يقابل بائعاً متجولاً من طينته الاجتماعية الاقتصادية. والبائع ليس من القرية التي لن يحدث فيها حراك أو تحوّل كما يزعم الخطاب التنويري الأدبي، بل باختيار دقيق هو «مغربي»، غريب قريب. واللغة رشيقة بسعيها بين العامية والعامية المُفصحة، حسية ذهنية ببلاغتها العالية التي تقارب حدّ التحقق التاريخي للحدث وإن لا تدّعي المطابقة.
الحذاء هو الحذاء، بكل ما ينوء به من حمل، وما قد يدوسه من أرض. للوهلة الأولى، لا يستطيع المرء ألا يرى التطابق الفذ، إبداعياً، بين محاور التاريخ الفلسطيني الحديث من حيث مقومات المأساة المتكررة، والمحاور التالية في البناء الأدبي لهذه القصة: مالك الأرض لا يستطيع الوقوف عليها بسبب الهرمية الاجتماعية الاقتصادية. تستنزفه الأرض ولا يفتأ يحاول استرداد استخدامه لها بشراء الحذاء عبر إعادة تفعيل جماعيّة القرية من جديد. لا تنجح المحاولة العينية في الحصول على حذاء، وتبقى بنية التناقض القصصي مفتوحة باستمرار مأساوي. هذه الإمكانية في التفسير واردة، إلا أن الشحنة الحسية ـــ ا
لذهنية تحمل ما هو أكثر تجذراً من الحالة الفلسطينية العينية: الفعل الإبداعي هنا يتناول المأساة الإنسانية الأولى، تلك التركيبة الاجتماعية التي تسلب إمكانية العيش للفرد.
والسؤال: هل هذا من طبيعة التركيب الاجتماعي؟ أم هو محصور في نوع محدّد منها؟
في الأدبيات عن الأدب الذي تسعى إلى حثّه لإطلاق العنان للتحرر، كان الفرد/ البطل هو الحامل للنصر كما للهزيمة. تعلمت من قراءتي لطه محمد علي أن هناك حلاً تركيبياً قد يرتقي بنا أدباً على الأقل: هنا النص الحافي هو البطل.
ذات يوم تظلّله غيمة من سماء الناصرة
نوري الجراح
لِمَ أَول ما سمعت بغيابك، صرت أريد أن أخال موتك تضامناً مع شهداء الربيع العربي؟ عيناك الودودتان، وقامتك المنحنية على العالم كما تنحني نبتة عند ترابها، رجعت بك إليّ، أنا الغريب في أرض لم تعد غريبة. كأني بك قبل أن تنحني أكثر لتتشبع بالتراب ورائحته، تساءلت: كيف يطوي الثرى شباناً يافعين، ونبقى نحن وانحناءاتنا نعفر أقدامنا بتراب الحيرة؟!
كأني بك كنت تقف في الناصرة وتنظر جهة سوريا مشيعاً بعينيك الطيبتين أطفالاً طاشوا كفراشات طاشت تحت المطارق. هنا سُحقت الأجنحة والألوان، وكان الصمت سنداناً عربياً له قطر يمتد من محيط مائج إلى خليج مائع... صمت... يحيّر لب الآدمي.. ويحز بشفرته عنق الصارخ.
تذكرتك كثيراً هذه الأيام يا طه محمد علي... أيام الموت الشامي العاصف، الموت تحت سكاكين الجلادين وسواطير البرابرة... وقد نفر الدم من حنجرة المغني.
تذكرت خطواتنا معاً في حديقة إنكليزية، قبل عشرين سنة، أنا بطيش الشباب وأنت بحكمة الطيش، حديقة ظللتها أشجار سامقة. قرأت لي قصائد عن السنونو الذي يحز الهواء بطيرانه. ورأيت فوق رأسك سماءً أخرى تظللك بغيوم خفيفة تبعتك من الناصرة.
يا للشاعر سارداً ومغنياً ورفيقاً في موقعة ليس فيها أعداء سوى نفسه، وسماؤه لا تطيق خطواته تحت سماء أخرى. طه محمد علي، وهكذا تندرنا قليلاً لما رحنا نقلب اسمك ونعكسه ليخرج لنا من الأوديسا الفلسطينية صوت آخر سميناه محمد علي طه.
حدثتني عن حانوتك القديم وعن المقعد الشاغر الذي تركه وراءه شاب يافع اسمه محمود درويش، مقعد في حانوت تلطخ سقفه بأجنحة العصافير... وقصائد بريئة.
رحت أسمعك بشغف الذي يبتكر صوراً أخرى لفلسطين الميؤوس منها في خطابات السياسيين وشعرائهم المفوهين... كلامك هبّ عليّ برائحة كتب ومقتنيات أرستقراطية. تلك فلسطين شخص واحد بلهجة خافتة وحنين خافت. فلسطين شخص يتمشى عصراً في زقاق حرسته مئذنة في الناصرة. سألتني إن كان لي جدّ فلسطيني يفسر في وجهي حزن الغريب. وأنْشَدَنا من أعفاني من سؤالك: يا غريب إذا ما مررت بي ومررت بك... إلخ... إلخ.....
كلمات شاعر له لحية حمراء تضج بالفراشات. وإلى أن ينتهي الكيان الصهيوني نهايته الدرامية الأكيدة... فكل غريب فلسطيني بالضرورة.
لقاء شخص مثلك، يا طه، ملزم بإعالة عدوه، مجرد لقاء شخص كهذا.. كان مفارقة حياتي لأسبوع، قبل أن تسافر وأقول لك. مجرد وجودك هناك دليل على فشل الفكرة التوراتية لفلسطين، وجودك الدليل الأكثر إحباطاً لدولة إسرائيل، مجرد وجودك هناك في الناصرة بلاغة إنسانية هائلة.
تودِّع فلسطين إلى يابستها ويدك لا تزال ممدودة إلى البحر، وشقيقك الهائم في بحار العالم لا يصل إليها. وإذ يودعك عدوك، يودعك ولا يتمكن من دفنك في البحر. وجودك الطبيعي في فلسطين قصيدة غريبة في لغتها.
في المطار أول ما وصلتَ، قلت لك بمرح إنني أحببت شعرك. وفي المطار بعد أسبوع، ودعتك صامتاً كمن يودع أباً لن يراه.
شاعر يقاوم الخراب
علاء حليحل
عكا | من يقرأ طه محمد علي خارج سياج هويته الفلسطينية، سيكتشف شاعراً نادراً في إنسانيته الشاملة. ومن يقرأه في سياق فلسطينيته، سيكتشف شاعراً فلسطينياً سار على درب متفردة، طويلة، عنيدة وصادقة: درب الفلسطيني الذي يُحبّ بلا حدود.
إنه واحد من مُبشّري الحداثة الفلسطينية وصُنّاعها. طرقه لقصيدة النثر والشعر الحديث غير مسبوق في ذكائه. هاكم بعضاً من بصماته: البساطة الهائلة المستندة إلى ذكاء متّقد وحادّ؛ سرعة البديهة والدعابة المستفيضة في شعرية فلسطينية تحبّ الحزن (تاريخياً)؛ سعي نحو تلابيب الفرح الطفوليّ الصّفوري؛ شبوبية طاغية في الصياغة والتفكير والمعالجة.
نهل من ينابيع الغرب والشرق. لم يكن إليوت غريباً عن المتنبي في وعيه، وتزاوجا دائماً عند حدود الشرق والغرب المرسومة والمتخيّلة. حبّه للفنون التشكيلية والشعر الإنكليزي جعلا انحيازه لنفسه وبلده وذكرياته خليطاً متفرّداً لا يتكرّر من «وسامة الشعر». طه محمد علي شاعر وسيم، جميل، خلاب. إنه من أجمل ما أنتجته مأساة فلسطين: صفّوريّ عنيد لا يخدش هدأة الطبيعة كي لا تنزعج برقوقة حمراء متفتحة. أخال دواوينه كلها تمشي معاً، يداً بيد في أرجاء صفوريته المفقودة. طه محمد علي وردة صفورية وفلسطين، شاعرها المجروح بخفر، الثائر بخجل وتواضع، المتجدّد مثل نهر فائض على جانبيه. بكاؤه على صفورية كان أنشودة للفرح والحياة، اتكاؤه على ذكرياتها وتفاصيلها وتضاريسها كان كتاباً شاملاً من تاريخه وتاريخنا. إنه الحكّاء الشعبي/ الفصيح بجدارة.
في أحد اللقاءات، قال إن صفورية هي «الحنين الأبدي إلى المجهول». صفورية وفلسطين تهجّرتا وتبدّلتا وتشوّهتا. صارت الذاكرة تنافس الخراب المحيط من كلّ جانب. صارت مجهولاً يأبى التعرف إلى ذاته؛ كيف يمكن للشاعر أن يستعيد صفورية وقد تحوّلت إلى «تسيبوري»؟ هل هناك وصفة لذلك؟ في قصيدة «ناقوس»، يكتب: «صفّورية!/ ماذا تفعلين هنا/ في هذا الليل المجوسيّ/ العاكف على ذاته/ عكوف القلب على البغضاء/... فأين جواد شرحبيل؟/ ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟/ وأين وفود الظاهر؟/ أين الجميع؟».
أما في قصيدة «عنبر» فيكتب: «الأرض خائنة/ الأرض لا تحفظ الودّ/ والأرض لا تُؤتمن/ الأرض مومس/ أخذت بيدها السّنين/ .../ تضحك بكلّ اللغات/ وتُلقم خصرها لكلّ وافد». من هذا الفلسطيني الذي يقول عن الأرض (أرض فلسطين) إنها مومس؟ من يجرؤ على هذه «الشتيمة» هو الابن الحبيب، يحقّ له ما لا يحق لغيره، يحبّ هذه الأرض حد الجنون، يغضب منها، يبكي عليها ومعها و«يشتمها» في لحظة حزن وغضب. فلسطين نزلت في شعره من علياء المأساة المقدسة إلى التراب والطين والوحل، أرجعها إلى أبنائها الذين يفتقدونها، سمّاها بأسماء جديدة، لوّنها بألوان زاهية بعدما اكتست بالأسود القاتم.
هذا الرّيفيّ حتى النخاع، كيف حمل مشروع الحداثة وطوّعه ليتغزّل بطقوس وأقاويل القرية الوادعة؟ لقد حوّل الموسيقى الغربية الكلاسيكية التي أحبّها إلى صوت مرافق للجدول والبيادر وقعدات الديوان. وظّف الشعر الحرّ والحيّ ليكون شاهداً عربياً بليغاً فصيحاً وناطقاً رسمياً باسم «العامية» الشهيّة المِطواعة. قضيته كبيرة، لكنّ الإنسان موغل في البساطة: «أيها السّادة!/ إنّ موكلي لا يعرف شيئاً عن عدوّه!/ وأؤكد لكم،/ أنه لو رأى بحارة الإنتربرايز/ لقدّم لهم البيض المقليّ،/ ولبن الكيس!».
سأترك له النهاية فهو أبلغ من يكتبها: «إن كان ثمّة مدبّرٌ لهذا الكون/ بيده البسط والقبض/ بأمره يبذر البذار/ وبمشيئته يحصد الحصاد/ فأنا أصلي له طالباً إليه:/ أن يقْدُر أجلي/ حين تنضب أيامي/ فيما أنا جالسٌ/ أحتسي من كوبي المفضل/ خفيفٌ شايه/ طفيفٌ حلاه/ في ظلّ صيفٍ بعد ظُهري الحميم./ وإذا لم يكن شايٌ وظهرٌ/ فإبان نومتي العذبة بعيد الفجر».
الاخبار
3 اكتوبر 2011