نشرت قبل شهرين صورة مغمورة نُسب أحد وجوهها إلى رامبو، يظهر فيها الشاعر، الذي اعتزل الشعر، بعدن، وهو جالس رفقة جماعة في شرفة فندق الكون. وقد ضم تلك الوثيقة أرشيفٌ يحتوي على حوالي ثلاثين صورة أخرى من عدن، في أواخر القرن التاسع عشر، كان في ملك جيل سيّيل، صاحب الفندق المذكور، حيث سبق لرامبو أن نزل فيه عدة مرات. كما اتخذ عنوانه أحيانا للتوصل ببريده. وارتبط الشاعر حينها بمحيط الأعمال، خاصة لدن مغامرته في الاتجار بالأسلحة، تحديدا مع شخص سيّيل نفسه، الذي كان شخصية بارزة ضمن الجالية الفرنسية وقتئذ في عدن، على الرغم من قلة أفرادها وكونهم معروفين، فإن من العسير علينا، وبعد ثلاثة عقود من تفحص الموضوع، من ذكر عدد واف من أسماء أفراد تلك الجالية.
كان أملنا بنشرنا لصورة رامبو أن يساعدنا القراء الذين قد يكون بوسعهم التعرف على الأشخاص المحيطين بالطاولة معية رامبو بعدن، لكي يتم تحديد سياقها أفضل، ولكي تعين الفترة الزمنية التي التقطت فيها. لم يخب ذلك الأمل، وأتت تلك الجهود أكلها، إذ بإمكاننا اليوم أن نحدد تاريخ الصورة بشكل دقيق ونتعرف على الهويات المحتملة لأغلب الأشخاص الذين يظهرون فيها.
صحيح أنه ليس من السهل، خاصة بعد مضي مئة وثلاثين سنة، التعرف على أسماء أولئك الأشخاص. لكنه يمكننا التساؤل على من هما ذانك الشخصان الواقفان؟ ذلك الذي يتواجد، منهما، على اليسار، ويحدق في العدسة بنوع من الشراسة والحزم، والآخر الذي صُور في ما يشبه الحركة، مبتسما، وهو يرمق السيدة الجالسة في قلب الصورة، ويبدو عليه أنه يرنو إليها بنوع من الالتفات البهيج؟
يمكن التساؤل أيضا عن الشخصين الملتحيين الجالسين جهة اليسار، أحدهما قد سبق أن فقد شيئا مّا شعره، وتشي ملامحه بقلق واستخفاف. أما الآخر، ذو الوجه الخالي من أي تعبير، والذي ينتعل على ما يبدو حذاء ذا كعب؟
التمكن من تحديد تاريخ الصورة
من هو الشخص الجالس في الوسط على يمين رامبو؟ يبدو أنه أكبر أفراد جماعة الصورة سنا، وقد سبق له أن دخل الملحمة الرامبوية ببذلته ذات المربعات باسم البيجامة.
من هي بالخصوص السيدة المتواجدة على يمين الصورة، المتكئة على أريكتها والواضعة لخاتم الزواج، والتي يظهر بطنها المنتفخ؟
إن حضورها يثير الاستغراب نوعا، لأن الأوروبيات نادرات في عدن. هناك سؤال آخر ليس أقل أهمية وهو: بأية إقامة من إقامات رامبو في عدن يتعلق الأمر في الصورة؟ وهل بوسع معطى تواجد شخص أو آخر في الصورة تحديد ذلك؟
بعد مضي زمن يسير على نشر الصورة اتصلت بنا جاكلين سيبيرتان_بلون (ليسرو) والتي انحدرت من عائلة المستكشف إدوارد هنري ليسرو، وأشارت لنا بأنها قد تعرفت على هذا الأخير في الشخص الواقف على اليسار، بعدما قارنت الصورة مع صورة أخرى. وقد تمكنا من التأكيد على ثبوت صحة ذلك بإطلاعنا على صور أخرى.
ولد هذا المستكشف سنة 1850، وكلفته الحكومة الفرنسية بالبحث عن منابع النيل الأصفر (نهر سوداني من أهم روافد النيل) والذي يصب في النيل الأزرق. وقد أقام في عدن بدءا من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1879، ونزل بالتحديد في فندق الكون، وقام بسفرتين طويلتين في الجهة الأخرى من البحر الأحمر. تلقى في غشت/أغسطس سنة 1880 من السيد دولاجونيير مسؤول القنصلية الفرنسية بعدن، ضمانة انطلاق قافلته لاستكشاف المناطق المجهولة والتي يسعى إلى أن يجوبها في الحبشة.
ركب ليسرو البحر، وبعد ثلاثة أسابيع من المشي عبر الصحراء وصل إلى هرر، حيث استضافه لزمن ألفريد باردي، الذي سوف يكون فيما بعد مشغّل رامبو في عدن. غير أن مغامرته انتهت بفاجعة مقتله في أكتوبر/تشرين الأول بوارابيلي في قطاع إثيوس غلاس على مبعدة مسيرة يوم شمال هرر.
استقصاء دقيق
إن التعرف على ليسرو في الصورة مهم جدا، لأنه يمكّن من تأريخ الصورة بشكل مطلق بسنة 1880، وهي السنة نفسها التي حل فيها رامبو لأول مرة بعدن. وأهم من ذلك فإن لقاءهما في هذه المدينة لم يتم إلا في شهر غشت/أغسطس. ذلك أن رامبو قد وصل حينها للتو إلى المستعمرة البريطانية. فقد صرح في أولى رسائله من عدن إلى عائلته، والمؤرخة ب 17 غشت/أغسطس، بأنه قد غادر قبرص "منذ ما يقرب من شهرين"، وقد بحث مذ ذاك عن عمل في كل موانئ البحر الأحمر، في جدة، سواكيم، مصوع، الحديدة، إلخ". وأضاف بأنه كان مريضا لدى وصوله إلى عدن. إن الطريقة التي ذكر بها الأمر تدل على أن متاعبه الصحية تلك ليست وليدة اللحظة. والطريف في الأمر أن هذه الواقعة قد ذكرت في فرنسا في "الرمزي" (22 أكتوبر/تشرين الأول 1886) خلال حياة رامبو، وانضمت إلى أسطورته: "وصل رامبو من أسيا (عن طريق قناة السويس) إلى عدن وهو مريض".
يمكن تحديد وصول رامبو ببداية غشت/أغسطس، أو قبل أيام من ذلك، لأنه ليس هناك ما يمكّننا أن نستبعد أنه بعد خروجه من قبرص، إمكان تنقله بضعة أسابيع، من ميناء إلى آخر من موانئ البحر الأحمر، وأنه قد يكون وصل إلى عدن في غضون الأسبوع الأخير من يوليو/تموز. فإن لم يكتب رسالته الأولى إلى أهله إلا في 17 غشت/أغسطس، فلأنه لم يعلم إلا قبل يوم بحصوله منذ تلك اللحظة على عمل قار في تلك المدينة: ويعود تشغيله في شركة باردي للتوكيل التجاري إلى أواسط غشت/أغسطس (غير ذلك، لم يكتب إلى عائلته عندما أقام في جدة، سواكيم، مصوع، الحديدة، لأنه لم يكن يدرك ما إن كان سيستقر في المنطقة أم لا).
لم يكن رامبو، خلاف ذلك، يتسرع في إخبار أمه بتبديل مقرات إقامته: ذلك أنه في السنوات الموالية، في إطار إقاماته أو العودة للإقامة في عدن أو في هرر، ينفق عدة أسابيع بعد وصوله قبل أن يبعث إليها برسالة (فلم يكتب إليها من قبرص إلا بعد انصرام شهر على حط رحاله بها).
هناك إذن أمر مؤكد: أن رامبو وليسرو قد تواجدا معا في عدن في شهر غشت/أغسطس من عام 1880، ويترددان كعادة فرنسيي المنطقة على فندق الكون، الذي يعتبر مكان التقاء الجالية الفرنسية المعدودة.
الكشف عن تقنية التقاط الصورة
تم تأكيد هذا التأريخ عن طريق التقنية الفوتوغرافية المستعملة أيضا. ويلزمنا الإقرار، فيما يخص هذا الشأن، بديننا لاختصاصيي الفن الفوتوغرافي إبان القرن التاسع عشر الذين وفروا لنا هذه المعلومات.
فبخلاف ما افترضناه، لم يكن متيقنا من أن تكون الضبابية المحيطة بوجه رامبو ناتجة عن كون هذا الأخير قد تململ لحظة التقاط الصورة: قد يكون الكليشي تعرض في واقع الأمر إلى تزحزح طفيف للوحة الضوء والذي يطرأ عادة، هو وغيره من الاعتبارات التقنية، لتقنية تصويرية حديثة العهد حينئذ وهي التصوير الخاطف باستعمال نيغاتيف الجيلاتين برومور.
إذا ما دققنا النظر في الصورة، فإن الأشخاص الآخرين وكذا الأشياء، ليسوا واضحين تماما: فحروف وجوههم غطاها اهتزاز خفيف، يظهر أكثر وفقا لدرجة الإنارة، ويشكل ذلك، حسب اندريه غونتير، إحدى مميزات المحاولات الأولى للتصوير. فباستعمال لوحات الضوء تلك، يكون زمن أخذ الصورة قصيرا جدا، وتظهر أدنى رجة على الصورة.
غير ذلك، تظهر الصورة جد فاتحة بسبب التقاطها في وضعية متعرضة لإفراط ضوئي، إذ أن النيغاتيف الزجاجي الجيلاتيني البروموري الفضي (النترات) جد هش أكثر من الكولوديون (نترات السيليلوز التي تذاب في مزيج من الكحول والأثير (كيماوي) والذي ينشر على صفيحة زجاجية، وعندما يلتصق هذا الخليط بالصفيحة يتم غطسها في نترات الفضة إلخ العملية).
كما أنه تم إنجاز إخراج الصورة على ورق مدهون بالزلال (تقنية)، وغير مكيف لهذا النيغاتيف الجديد بعد. فهذا الإفراط الضوئي، على كل حال، هو الذي أسدل على رامبو، أكثر من قرب عهده بالمرض، ذبول وجهه ذاك: مادام قد قضى بعض الأشهر، تحت حر شمس قبرص، مشتغلا مشرفا على ورش أشغال، فإنه كان على سحنته أن تكون قد لفتحها الشمس لدى وصوله إلى عدن.
إنها معلومات هامة جدا، غير أنها تطرح مشكلا: يبدو أن لا أحد يمكنه أن يتوفر في عدن سنة 1880 على مثل تلك التقنية الحديثة، فتقنية الجيلاتين البارومور الفضية أو "الصفائح الجافة" التي انتشرت بالخصوص فيما بعد، يندر من يستعملها حينها في العالم وخاصة في البلدان غير الغربية.
غير أن المصور المستكشف جورج ريفوال قد ركب البحر من مرسيليا في الخامس والعشرين من شهر يوليو/تموز 1880، على متن الباخرة "بي_هو" في اتجاه عدن، والتي حط فيها في اليوم السابع من شهر غشت/أغسطس. وقد كُلف من طرف وزارة التربية العمومية بمهمة علمية وجغرافية في ذلك البلد الصومالي الذي سوف يستكشفه للمرة الثانية، وقد حمل معه آلات فوتوغرافية حديثة جدا، أراد أن يجربها بإنجازه لصور عديدة في عدن.
تم استقباله في المدينة من طرف جيل سيّيل، الذي طاف به، بطبيعة الحال، في أرجاء فندقه، وكتب فيما بعد إلى جمعية الجغرافيين في مرسيليا، التي نشرت نصه في فصليتها: "أقمت شهرا في هذه المدينة، حيث استقبلت بحفاوة من مسؤول قنصليتنا السيد دولاجونيير (...) ومن المقيمين الإنجليز كودفلو وهونتر، وكذا من السيد المحترم سيزير تيون (الذي سوف يصير في المستقبل شريكا لرامبو) ومن طرف كل مواطنينا. وأستغل تواجدي بعدن لأقوم بعدد من المحاولات الفوتوغرافية".
تعرف ريفوال هنالك أيضا بليسرو، قبل أن يغادر هذا الأخير عدن في غشت/أغسطس 1880، ما سوف يُعلم به الجمعيات العلمية التي كان عضوا مراسلا لها. لم يمكث هو أيضا طويلا في عدن، إذ ركب يوم 12 سبتمبر/أيلول على متن المركب البخاري المرسيلي "لايميل هيلواز" مغادرا.
فإذا أشرنا إلى وجود ريفوال هذا في عدن في غشت/أغسطس ذاك من سنة 1880، فلأنه كتب من هناك في اليوم الثامن والعشرين إلى هنري ديفيريه سكرتير الجمعية الجغرافية بباريس، مغتبطا باستعماله الجيلاتين برومور لصاحبه السيد ريغو من مرسيليا.
توجه ريفوال إذن إلى عدن، حاملا معه الصفائح الفوتوغرافية من الطراز الأخير، والتي وجدها لدى محل جيل ريغو الكائن بالرقم 37 من زقاق فوكون بمرسيليا، التي كانت اشهاراته تدعّي في ذلك العهد فضائل "الصفائح الجيلاتينية البرومورية" (ريغو هذا هو مؤلف مصنف يحمل عنوان التصوير التطبيقي للمبتدئين ويحيط بطريقة الجيلاتين برومور الفضية). وإذا كانت صورة عدن حول طاولة الفندق لا تحمل اسم ملتقطها، فيجب الاعتراف بأنه ليس من المستبعد أن يكون ريفوال هو صاحبها.
الأشخاص الآخرون الذين تم التعرف على هوياتهم
لنعد إلى الأشخاص الذين يظهرون في الصورة. فقد مضى ألفريد باردي، مشغل رامبو فيما بعد، خلال غشت/أغسطس 1880، في سفرة استكشافه التجاري إلى الحبشة. لذلك فإن غيابه عن هذه الصورة الجماعية غير باعث على الاستغراب. فقبل أن نعرف تاريخ أخذ تلك الصورة، فقد تساءلنا حول هوية الشخص الجالس في أقصى اليسار، لكننا لم نندم اليوم على صياغتنا لتلك الفرضية بشكل احتمالي.
الصورة الوحيدة المعروفة عن باردي هي تلك التي توصلت بها جمعية الجغرافيا خلال نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1883: وقد أكد فحصها بأن باردي هو شخص تنضح تقاسيم وجهه بالحيوية والطاقة، شعره كث ومقصوص، ويبلغ ستة وعشرين سنة من عمره في 1880 (له سن رامبو تماما)، ولن يكون أبدا هو الملتحي الذي يظهر في صورة عدن، الذي من المحتمل أن يكون أكبرهم سنا، إذ تساقط شعره وحتى على مستوى صدغيه.
تم التعرف، خلاف ذلك، على أشخاص آخرين من طرف أحد المنحدرين المباشرين من نسبه، بالاستناد على صور تلك الفترة: أحدهم، الملتحي الثاني، قد يكون هو موريس ريّيس، وتأكيد ذلك الإثبات من طرف العائلة هو الآن في طور تقريره من...عدن.
الاثنان الآخران، إدوارد جوزيف بيدو دو غلاتييه وزوجته. قد يكون هو الرجل الثاني الواقف، والمنحني قليلا موجها نظره صوب زوجته أوغيستين إيميلي، التي تملك كل المسوغات لأن تجلس، فهي سيدة وحامل في شهرها السادس (سوف تلد سيسيل في يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1880 بعدن).
بيدو هذا، الذي يبلغ ثلاثين سنة في الصورة، والذي اقترن في عدن، يوم 19 مايو/أيار 1878 بأوغيستين إيميلي بورت، معروف جدا لدى كتاب سيرة رامبو: فهو رحالة ومصور _مصور أكثر منه رحالة_ وقد آواه رامبو في بيته بهرر لبضعة أشهر. وقد ذكرهما معا الإيطالي روبيتشي بريتشيتي، الذي استقبلهما في بيته مساء عيد ميلاد 1888 وذلك في كتابه Nell’Harrar الذي صدر سنة 1896 بإشارة مفادها "بيدو وصديقه رامبو".
فبيدو الذي انخرط في التصوير حالما وصل إلى عدن، كان له فيما بعد مشروع _مثله مثل رامبو_ تشكيل ألبوم حول هرر وضواحيها، بأن يأخذ صورا للبلد ولأهله. لكن لم يتمكن لا بيدو ولا رامبو من إنجاز ألبوميهما.
فإذا كان اسم بيدو قد تردد مرات عديدة في المراسلات الأفريقية لرامبو، وأحيانا مع غمز ("يعيش دائما في تهويماته")، فإنه لا أثر فيها لذكر مدام بيدو: لأن هذه الأخيرة لم ترافق زوجها إلى الحبشة، إذ انفصلت عنه لتتزوج ثانية بضابط إيطالي سابق، امتهن التجارة الكولونيالية، نظرا لميوله إلى السفر، وقد اصطحبته إلى بلده قبل أن تؤوب جهة البحر الأحمر.
يوضح هذا لماذا كتب ألفرد إلغ، مراسل رامبو، في أبريل/نيسان 1888 إلى بيدو الشقي: "لم أتمكن من معرفة أي خبر آخر عن امرأتك، من دون أنها مضت إلى إيطاليا، لكن لا أحد يدرك أين بالضبط. آسف لذلك، لأنني كنت آمل أن أقدم لك أخبارا سارة خاصة عن محبوبتك الصغيرة".
شخصان لم يتم التعرف عليهما بعد
إن الرجل الذي أخذ من بيدو زوجته ليس مجهولا أيضا من طرف كتاب سيرة رامبو الأفريقي: يتعلق الأمر ببيترو فيلتر، وهو الذي كتب إلى رامبو، في يوليو/تموز 1891، من هرر: "يلزمني أن أعرف متى سوف تجيء بالضبط إلى عدن (...) وسيكون لطيفا منك أن تمكن قافلة زوجتي من الانضمام إلى قافلتك".
يجهل فيلتر، كما هو واضح، أن رامبو، في ذلك الوقت، قد عاد إلى فرنسا، ولم يعد قادرا على الركوب إلى عدن. وبعد وقت قصير، اتخذ له الإيطالي خادم رامبو السابق خادما له، ذلك ال"دجامي" الذي أوصى له رامبو بمبلغ من المال، آلت إيزابيل أخته على نفسها إلا أن توصله له.
الحاصل أن شخصين فقط في الصورة هما اللذان أصرا على أن يحتفظا بشكل تام، حتى الآن، بسر هويتهما: الملتحي الموجود على يسار الصورة والبيجامة. ندخل هنا في مجال الفرضيات، غير أنه فيما يهم الأول، يلزم إيجاد صورة لألبير دولاجونيير مسؤول القنصلية الفرنسية بعدن، والذي كانت له علاقة بليسرو قبل مضيه إلى مغامرته الأخيرة.
أما بالنسبة للثاني، هذا البيجامة، الذي يضع في أصبعه خاتم زواج، وينتعل شبشبا، ويدخن الغليون، فإننا لن نصاب بالذهول، إذا ما جاءنا أحد المنحدرين من ديبار، الرجل الذي شغّل رامبو لدى قدومه إلى عدن، وأعلمنا والصورة في يده، بأنه يتعلق بجد له. فسنه وهيأته يمكنهما أن يليقا بالكولونيالي الأشر الذي كانه ديبار، وسوف يفسر حينها تموقعه في الصورة، إنه أكبر الجماعة سنا، وهو المقاتل العريق وليس الذين معه سوى شبانا مغتربين. مع أنه لا يتعلق الأمر بعد سوى بفرضية، فإن الصورة قد تكون، في أصلها، صورة لديبار، الذي يظهر فيها كشخص مركزي، يتحلق حوله بعض مواطنيه، على شرفة فندق الكون.
لقد عثرنا مؤخرا على بعض المعلومات البيوغرافية حول ديبار هذا، الذي كنا نجهل حتى اسمه الشخصي. ولد بمدينة ليون يوم 31 يناير/كانون الأول 1829. كان فرنسوا إيمابل ديبار مساعدا إداريا في مصلحة الشؤون العسكرية للفريق الثامن في بريفا، وقد شارك في حرب كريميه، وترأس برتبة عقيد _ اللقب الذي لازمه حتى بعدما انخرط في الحياة المدنية_ الفيلق الخامس لمنطقة الرون خلال حملة 1870. أتى إلى عدن رفقة باردي، سنة 1880، وغادرها في بداية عام 1882. واستقر إذن بمسقط رأسه، حيث توفي في اليوم العاشر من يناير/كانون الأول عام 1888.
كان ديبار هو صهر سيّيل _عليه على الأقل أن يشعر بأن فندق الكون هو بمثابة بيته_ إذ تزوج سنة 1864 في ليون، بأخته زوي، التي ولدت بأوبنا سنة 1833.
إذا ما عثر أحد المنحدرين من ديبار على ألبوم عائلة يتضمن صورة "للعقيد"، يمكنه أن يتصل بنا دون تردد، "وسوف نؤدي عنه، عن طيب خاطر، كأسا".
أما جيل سيّيل، الذي ولد في 17 مارس/أذار 1831 بأوبنا وتزوج في 19 أبريل 1882 بعدن في حضرة نائب قنصل فرنسا، فقد مات في إيسي سير ماغن دون أن يخلف نسلا، وذلك يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1898، وتبين تركته أنه لم يغتن في الواقع بعدن.
من المؤكد أنه لم يخطر على باله أبدا بأن شخصا من إحدى صور ألبومه سوف يجعل تلك الصورة، بعد مضي ما يزيد عن قرن، مشهورة في العالم بأسره.
في انتظار مطابقات جديدة، نأمل ألا تتأخر، كي تتبوأ مكانها، إلى جانب مجموع الوثائق حول هذه الصورة، في المقالة الشاملة التي يعدها بدأب جاك دييس وألبان كوسّيه، مكتشفا الوثيقة، فقد اتضح منذ الآن بأن هذه الصورة توري أفراد تلك الجالية الفرنسية القليلة بعدن، والتي تشكل محيط رامبو خلال الإقامات التي كانت له في المدينة.
يتعلق الأمر جيدا بمرتادي فندق الكون (لماذا سيحتفظ سيّيل، صاحب المؤسسة، حيث التقطت الصورة، في ألبومه بصور أشخاص غرباء وعابرين؟) وليسوا بالبات مجرد سياح، مثلما ادعاه مؤخرا، معلقان أو ثلاثة، والذين يتكلمون دون أن يعرفوا، ويجازفون في وقاحة بتبنيهم مواقف مضادة من أجل الظهور. لم يبق لأحد أولئك إلا أن يرى فيهم مصطافين عابرين (مصطافون عجيبون عادوا بلا شك من عشية غوص في البحر الأحمر!) وأكد آخر بأن الأمر لا يتعلق برامبو بثقة زائدة وكأنه قد عرفه شخصيا. نحن مستعدون لتناسي تلك الاعتبارات، إذا لم تشكل مادة هامة لمؤولي الفظاظة والتبلد القادمين في غضون القرن الواحد والعشرين.
رامبو مريض بعد رحلة بحرية طويلة
دون أن نكرر كل العناصر التي سبقت الإشارة إليها في مقالة العدد 41 من مجلة Histoires littéraires، بخصوص شبه رامبو صورة عدن، حرفا حرفا، مع الصورة المصادق على صحتها من طرف أحد معاصريه، بأنها الأكثر شبها بالشاعر، نلحظ بأن الصورة التي تم العثور عليها، تقدم شبها أكبر مع صور صباه أكثر منه مع الصور المعروفة له في رجولته.
صحيح أن هذه الأخيرة تكون في الغالب مضببة، ولا توري أبدا سوى رسما عاما للوجه، لكنه لو لم يتم إثبات صحتها من طرف مراسلات رامبو، لكان بوسع كثير من المؤولين الطعن فيها، في حال لم يعمد القدر إلى اكتشاف صوره المأخوذة في هرر سنة 1883، حتى اليوم.
على الأقل، فالصورة الجديدة، قد فتحت ملف رامبو الأفريقي، وقد تم فحص بعض المعطيات، وتمت تكملة أخرى، ولزم الإقرار بأن كتب مختصين مشهود لهم تتضمن أخطاء أو تخمينات فظيعة.
لم تتم، في الحقيقة، دراسة أية وثيقة إيكونوغرافية متعلقة برامبو، بمثل هذا النوع من الاهتمام، ويحرض هذا على أنه قد يكون من المفيد الانكباب على دراسة الصور الأخرى _بما فيها، وبالخصوص_ الأكثر شهرة منها: فمن تمحص بشكل دقيق، وانطلاقا من الصورة الأصلية الصورة المشهورة التي التقطتها له إتيين كارجات؟
قبل معرفة التاريخ المحدد لصورة فندق عدن، أشرنا في المقال المذكور، بأن هيأة رامبو كانت فيها هيأة رجل مريض وتائه نوعا ما، مبديا "تعبيرا عن التعب".
ندرك الآن أن تلك الصورة قد التقطت في الوقت الذي كان فيه رامبو مريضا، أو يتعافى فيه من مرض، بلا شك، على إثر رحلة بحرية مرهقة، على طول موانئ البحر الأحمر. في حين فإن أكثر ردود الفعل المشتركة بعيد نشر صورة رامبو تزعم بأنه لم يكن فيها لرامبو ملمح شاعر، وأنه لم نعد نلقى فيها بعد ذلك التعبير التائه في التهويم الذي تعبر عنه الصورة المشهورة التي التقطتها له كارجات.
ليس من الممكن الاعتراض على ذلك في الواقع. لكن هل بمقدورنا أن نلوم رامبو، وهو العائد إلى عدن بعد ظروف صعبة، وقد تعافى بالكاد من مرض، على أنه لم يتخذ قدام العدسة هيأة شاعر، وليس فقط مثل شاعر سابق؟
في الغالب يلزم العيش في الخيال قبل الرجوع إلى أرض الواقع. ومع ذلك، فهذا الواقع هنا، أردنا أم أبينا، يتسم بنوع من قوة الاستحضار التي قد يكون لها دخل في الصدى البالغ الذي لاقته الصورة منذ نشرها.
عن الاكسبريس)
ايلاف- 11 يونيو 2010