بسام حجار رحل عن عالمنا؛ مضمون رسالة تلفونية من رؤى عبود في صيدا، حيث يسكن بسام المدينة الساحلية التي ربما لم يغادرها إلى بيروت إلا للعمل والرجوع اليومي إليها.
رؤى، طبعا حزينة وحمزm عبود والدها، الذي كان الراحل بمثابة أخ وصديق له كما لمعظم أهل الثقافة والأدب، خاصة تلك المجموعة المبدعة في مجالات شتى والتي كانت صيدا حاضنتهم في الحرب والسلم، إن وجد، مع انعدام النظر عن الدين والطائفة والعائلة وسائر هذه العناصر المدمّرة لروح الانسان وعقله، التي تقف الآن شامخة على انقاض الاحلام ورؤى الاستنارة والوحدة والانسجام بشتى المعاني والدلالات.
تعود بي الذاكرة إلى مطلع الثمانينات، حين تعرفت الى بسام حجار في باريس قادماً من لبنان الرازح تحت نيران الحروب الأهلية.
كنا نمضي معظم الاماسي في حومة الحي اللاتيني ومقاهيه وساحاته وحدائقه، وكان بسام الاكثر صمتاً بيننا، ينجز عمله في النهار ويبعث بمادته الثقافية إلى الصحيفة، التي كانت "النهار" في تلك الفترة. وفي المساء يحتوينا ليل المدينة الكبيرة الجميلة.
فترة على هذه الحال، حتى جاء ذات يوم ليقول إنه راجع إلى لبنان، وإن الإقامة في باريس من غير عمل منتظم صعبة جداً.
رجع بسام على رغم الحرب والخراب، وفي مدينته الجنوبيّة غرق في الكتابة والترجمة، وكأنما العمل والاشتغال الابداعي والروحي الاقصى هو البلسم والدواء في ليل الكارثة الزاحف.
ظل بسام ينتج بوتيرة سريعة كمن يسابق الزمن والحرب والموت، تصدّى لأعتى الكتب الأدبية والفلسفية والشعرية، لأجمل الاثار والنصوص، ولم تفته كتب بوليسية عذبة ذات بعد سيكولوجي غير سطحي مثل كتب جورج سيمنون.
وقد ترجم لهذا الكاتب الشعبي لمجلة "نزوى" نصاً عميقاً يختلف عن كتبه الشهيرة تلك، هو رسالته الطويلة الى أخته التي تركه موتها فريسة تمزق كبير.
وفي خضّم الترجمة الكثيفة التي تجاوزت الستين كتاباً، كانت ابداعاته الشخصيّة نثراً وشعراً إن صحت العبارة، لها حضورها الفريد والمؤثر في الشعريّة العربيّة.
كان بسام حجّار بصمته وتواضعه، تواضع المبدعين الذين ارتطموا مبكراً بشراسة الموت الزاحف والعَدَم، كان فريداً ونوعيا في محيط الثقافة العربيّة إبداعاً وسلوكاً.
كان ذلك الارتطام المبكر والجرح الوجودي الاصيل، هو ثيمة كتابته ولُحمة وجودها المتشعب التجريبي الواعي.
كان الموت الشخصي والعام إن صحت هذه الثنائية أيضاً، هو معين مادته الممزقة أيما تمزق، المشحونة بالشفافية والمعنى. كان الغياب والفراغ المحتدم واللانهائي. في الكثير من نصوصه الشعرية، كان يتحدث بلسان الموتى، كان يتحدث كشخص ليس من هذا العالم الذي نعيش. الخطاب الشعري يتقمصه الميت الذي يريد أن يفصح عن بضع كلمات قبل أن يختفي في زحام عالم الأموات وشخيره وكوابيسه. كان يريد ان يختلس بضع ثوان أو لحظات من حياة آفلة لا محالة ومنقضية.
كان هذا الاحساس التدميري الحاد بالفناء والزوال، هو محرك تلك التجربة الشعرية ودفـقها الحيوي المدهش الذي كتب بصمت واحداً من أهم فصول الشعرية العربيّة وغير العربية.
سلاماً عليك يا بسام، ربما ستجد في عزلتك الجديدة مستقراً أفضل من بقيّة عزلاتك وأراضيك التي خبرتها، حتى اليأس والرحيل.