عن كتاب "الشعر العربي الحديث في موريتانيا:
دراسة في تطور البناء الفني و الدلالي (1960 - 1995) " (*)
لمحمد الحسن ولد محمد المصطفى

بنعيسى بوحمالة
المغرب

بنعيسى بوحمالةلعله من باب النزاهة، و لربّما الأسى أيضا، إقرارنا، بداءة، بأننا لا نكاد ندري في المغرب، و هو ما يصدق، فيما نرجّح، على باقي أقطار العالم العربي، الشيء الكثير عن الشعرية الموريتانية المعاصرة، و للدقة نقول و لو النزر اليسير عن مجريات الواقع الشعري الراهن في موريتانيا، البلد المحسوب على منطقة المغرب العربي و المتماسّ، عضويا، مع المغرب. طبعا ليس مردّ هذه الثغرة الجسيمة في درايتنا بما ينتج و يتداول من نصوص شعرية معاصرة في موريتانيا إلى تجاهل ما متقصّد أو انتقاص إرادوي من قيمة هذه النصوص و، بالتالي، من قدر أصحابها و إنما بسبب من الطبيعة المخصوصة للحركية الشعرية التحديثية التي عرفها هذا البلد، تمثّلا و كتابة و تصريفا، و بأثر كذلك من معضلة التواصل المستحكمة، و لكأنّما هي بمثابة قدر تاريخي، في بنية العلائق الثقافية بين البلدان المغاربية عموما و بين المغرب و الجزائر و تونس و ليبيا من جهة و موريتانيا على وجه الخصوص.

و إذن، و في هذا المنحى، يمكننا التنويه، و من غير ما ادّعاء، إلى كوننا نمتلك، هنا في المغرب، و كيفما كان الحال، معرفة، إن لم تكن حاسمة فعلى الأقل تفضل كافية، بالمنجز الشعري المعتمل في الجزائر و تونس و ليبيا و نميز بين فاعليه الأساسيين ما دامت تقع بين أيدينا، و إن بشكل متقطع، بعض من الإصدارات الشعرية و مؤلفات و مراجع و وثائق ذات صلة بالشأن الشعري في هذه البلدان و كذا أعداد من منابر شعرية و نقدية، جرائد و مجلات، تتابع هذا الشأن و تعكس ذبذبته و تستصدي مجمل تمفصلاته و تحولاته، و حسبنا أن نلمع، في هذا المقام، إلى كتاب "الصوت المنفرد: شعريات جزائرية" (1) ، من إنجاز أبي بكر زمال، و كتاب "الشعر التونسي المعاصر" (2)، من تأليف خالد لغريبي، و كتاب "في الشعر التونسي الحديث" (3)، إشراف الميداني بن صالح و تقديم أحمد الودرني، و كتاب "مطالعات و هوامش: مقالات نقدية تخص نماذج من الأدب الليبي" (4) لصلاح عجينة، كما لا يفوتنا، بالمناسبة، التنصيص على الدور التوصيلي الهام الذي ينهض به، في هذا الإطار، الملحق الثقافي لصحيفة "الجريدة" الجزائرية إلى جوار المجلات الجزائرية التي تتعهدها ائتلافات ثقافية عديدة ك "رابطة كتّاب الاختلاف" و "حلقة عبدالله بوخالف" و "جمعية الجاحظية" و "جمعية البرزخ" و "جماعة المعنى"..؛ و أيضا مجلة "الشعر" التونسية و مجلة "الحياة الثقافية"، التي تشرف عليها وزارة الثقافة التونسية، و مجلة "المسار"، التي يصدرها اتحاد الكتّاب التونسيين..؛ ثم مجلة "الفصول الأربعة" الليبية.

فنحن نعرف من الجزائر، على سبيل المثال، كلاّ من مفدي زكريا، عبد الحميد بن هدوقة، بلقاسم خمار، حرز الله بوزيد، زينب الأعوج، ربيعة الجلطي، عبد الله الهامل، ميلود حكيم، أبي بكر زمال، نصيرة محمدي، مصطفى دحية، ميلود خيزار..؛ بينما لا تغرب عن بالنا، بخصوص تونس، أسماء كلّ من أبي القاسم الشابي، محمد البقلوطي، جعفر ماجد، الميداني بن صالح، عبد الحميد خريّف، منوّر صمادح، نور الدين صمّود، المنصف المزغنّي، المنصف الوهايبي، محمد علي الهاني، أولاد أحمد الصغير، جميلة الماجري، آمال موسى، محمد الهاشمي بلوزة، جمال الصّليعي، نزار شقرون، يوسف رزّوقة، محمد الغزّي، سوف عبيد، شمس الدين العوني، محمد الهادي الجزائري، الحبيب الهمّامي..؛ أمّا من ليبيا فتروج لدينا أسماء من قبيل علي صدقي عبد القادر، محمد سعيد القشاط، محمد الربيعي، سعاد الباشا، أمّ العزّ الفارسي، عبد الحميد بطاو، محمد الدنقلي، صلاح عجينة، عمر الكدّي، عمر سالم الحاجي، المهدي التّمامي، جمعة الفاخري، محمد الشّلطامي، الصيد الرقيعي..؛ بل و نعرف، فضلا عن هؤلاء، حتى من يكتبون بلغات غربية من مثال الشاعرين الجزائريين الفرنكوفونيين مالك حداد و الطاهر جاوث، و التونسيين الفرنكوفونيين عبد الوهاب مؤدب و الطاهر بكري، و الليبي الأنجلوفوني خالد مطاوع..

لقد كان من نصيب موريتانيا أن تستقر، و لردح طويل من الزمن، في المتخيّل الثقافي المغربي، و العربي إجمالا، كمجرد محضن لتداعيات و إشاريات و قرائن اكتسبت، بمرور الزمن، صفة الهوية النمطية عدا كونها محفلا لقلق شعري منتج، لنبض تصوري واعد، و بتعبير آخر لدينامية شعرية حداثية حثيثة، خليقة، شأنها شأن الشعريات العربية الوليدة، كالشعرية الخليجية التي تتمتّع، بالمقارنة، برسوخ أقوى و تحظى بقنوات ذيوع و تلقّ أضمن و أوسع، إن لم يكن بالتعاطف و الموالاة ففي أضعف الأحوال بالاقتراب و الإنصات.

كذا، و حالما استحضرنا موريتانيا إلاّ و تواردت جملة من الاستثارات المكرسة عن هذا الإقليم العربي التخومي و ذلك من صنو الجغرافيا الصحراوية القاسية المترامية الأطراف و التي تعادل مساحتها مساحة فرنسا مرتين.. ساكنة متضائلة قوامها ثلاثة ملايين نسمة منذور معظمها للترحال و اللاستقرار بحثا عن الماء و الكلأ.. اقتصاد رعوي قائم على بعض الزراعات المتقشفة من أجل سدّ الرمّق ليس إلاّ.. مناجم الحديد الخرافية في ازويرات.. القطار الأسطوري، الأطول في إفريقيا، الذي ينقل خام الحديد من مناجم ازويرات إلى ميناء نواذيبو على ساحل المحيط الأطلسي.. الحساسية العروبية المتأصلة و الممسكة بالوجدان الوطني الجمعي إلى حد ترقى معه إلى مرتبة العقيدة الإثنية و الثقافية لدى النخبة و المواطنين سواء بسواء.. الأقلية الديمغرافية الأفرو - موريتانية، كقبائل البولار و السوننكة و الوولوف، المقيمة في الجنوب.. أب الأمة الرئيس الكاريزمي المختار ولد داده.. الانقلابات - الإطاحات و الانقلابات - الإطاحات المضادّة.. الكاتب و المحلل السياسي المرموق بدي ولد ابنو.. المطربة المرحة المعلومة بنت الميداح أو إديث بّياف الموريتانية.. المخرج السينمائي اللامع ميد هوندو.. لكن، و في معاندة دالة لهذه الصورة المسكوكة عن البلد و جغرافيته و قاطنيه لا تني موريتانيا تحفر، شيئا فشيئا، موقعها المستحق في بؤرة المشهد السياسي و الثقافي العربي، خصوصا مع الطفرة البترولية التي يعقد عليها الموريتانيون بمختلف شرائحهم و اعتناقاتهم كبير الأمل في مستقبل من النعيم و الرفاه ينسيهم في تاريخ من الكفاف و الضيق، و هبوب رياح الديمقراطية و الانفتاح ممّا يشهد عليه الاقتراع التشريعي الذي جرى، عبر طورين اثنين، خلال شهري نونبر و دجنبر 2006 و اتسم بمصداقية و شفافية زكاهما مراقبون و ملاحظون أمميّون.

و عليه، و في سياق هذا المنعرج التاريخي الذي تحياه موريتانيا منذ سنوات قليلة، فالظاهر أنه أمسى في مكنتنا، كمتتبّعين، التوسل ببعض الأبحاث و الدراسات المتاحة التي ينجزها شبان موريتانيون ولدوا و ترعرعوا في عهد الاستقلال الوطني بحيث دشنوا مشوارهم الجامعي في جامعة نواكشوط، الحديثة النشأة (1981)، ليوالوه إمّا في جامعة الرباط أو جامعة تونس أو جامعة القاهرة. من المحقق أنها أبحاث و دراسات محدودة، ما في ذلك شك، بيد أنها تبقى، رغما من كل شيء، مؤشرا على مشروع بحثي و دراسي تعريفي رصين و مفتوح، يكبّ عليه المعنيون مباشرة بالأدب و الثقافة الموريتانيين، يخبر عمّا يمور به الحقل الأدبي، الشعر و السرد في المقام الأول، و الثقافي الموريتاني من فعاليات و اعتمالات، كلّيات و مستدقات، تمخضات و استشرافات، و يرصد شواغله و طوابعه و أسئلته، و هو الحقل الذي انضوى بهذه الدرجة أو تلك، و بقوة الأشياء، إلى أفق التحديث، إن إبداعيا أو معرفيا أو منهجيا أو ثقافيا.

في هذا السبيل، و بصرف النظر عن الإضاءات التي يمكن أن يفيد بها، في هذا الباب، الملحق الثقافي لصحيفة "الشعب"، اليومية الموريتانية الشهيرة، و مجلة "الوسيط"، الدورية الأكاديمية التي تنشر بعض الدراسات عن الأدب الموريتاني الحديث و لو أنها تعنى، أصلا، بالعلوم الإنسانية و البحث الأركيولوجي، و كذلك حوليات كلية الآداب و العلوم الإنسانية، ما فتئت تطّرد في الصدور، انطلاقا من السنوات القليلة الماضية، مجموعة من العناوين المحيلة على مشاريع دراسية رصينة، جامعية في غالبها، لا مندوحة لأيّما راغب في الاطلاع على مستجدات هذا الأدب عن الرجوع إليها.

من هذه العناوين، على سبيل التمثيل، "الوسيط في الأدب الموريتاني الحديث" (5) (267 صفحة من القطع المتوسط)، الذي هو بمثابة أنطولوجيا بمختارات من الأدب الموريتاني الحديث بمختلف أجناسه، بحيث تأوي فصولا منتقاة من روايتين اثنتين و مقالة واحدة و نصّا دراميا واحدا و عددا من القصائد، بما فيها القصائد الاتباعية و الاتباعية - الرومنتيكية، وفقا للتسمية التي يقترحها معدّو الكتاب، و الرمزية المعاصرة، و مثله من القصص القصيرة. و لأن الاستهداف الأساسي لمعدّي الكتاب كان، فيما نرى، هو تجميع و توثيق مدونة من النصوص الإبداعية الكفيلة بتمثيل حداثة أدبية موريتانية مبتغاة، و درءا لأيّ حكم قيمة قد لا يسلم من شيء من التطلّب أو المغالاة حسبنا أن نستدرج من المدخل الاستهلالي للكتاب رأي هؤلاء، أصلا، في المادة الإبداعية المقترحة و نستخلص، كنتيجة، منسوب جودتها الأدائية و التخييلية أو، بالعكس، احتمال وهنها و هشاشتها، ذلك أن ".. هذه النصوص (22) ليست إلاّ نماذج كما أن أصحابها ليسوا إلاّ أفرادا ضمن مجموعات. و فيها الجيّد و المتوسط و المتواضع، و لكن الجيّد منها من أجود الجيّد، و المتوسط من أجود المتوسط، و المتواضع من أجود المتواضع (…) و من السهل على القارئ أن يكتشف بنفسه منزلة كل نص و منزلة صاحبه، فهي صورة عن لحظة تطور الرؤية و الممارسة الإبداعيتين في هذا البلد، كما هي، دون تزويق و لا مساحيق، تبرز المحاسن و تخفي المساوئ" .

و منها أيضا، لكن ضمن أفق أجناسي بعينه، كتاب "بنية الخطاب و دلالتها في رواية "القبر المجهول أو الأصول" لأحمد ولد عبد القادر: مساهمة في الكشف عن خصوصية السرد الموريتاني" (6) (212 صفحة من القطع المتوسط)، الذي كتب مقدمته الباحث و الناقد المغربي سعيد يقطين. و بصدد السرد، تحديدا، فإنه ليس من المتعذر استحضار أسماء ريادية في السرد الموريتاني الحديث، و ذلك من مثال الروائي المجدّد موسى ولد ابنو صاحب رواية "مدينة الرياح" (7)، و هي الرواية ".. التي دلّت على دخول الرواية الموريتانية دورة الحداثة و خروجها من الحلقة التقليدية" (8)، و من قبله، و عن استحقاق لا محالة، الروائي أحمد ولد عبد القادر مؤلف الروايتين الذائعتي الصيت، "الأسماء المتغيرة" (9) و "القبر المجهول أو الأصول" (10)، لكونهما نشرتا خارج موريتانيا. و بقدر ما تعكس هذه البادرة اقتدار المبدعين الموريتانيين على كسب قبول و ودّ ناشرين على الصعيد العربي و توفّقهم، بالتالي، إلى اختراق حاجز المحلية و اقتطاع حيز من سوق الترويج الثقافي العربية فإنها تسوقنا، و بقوة، إلى حيث إحدى النقاط السوداء في اللوجيستيك الثقافي بموريتانيا، نعني محدودية قطاع النشر في هذا البلد و تواضعه الكبير و انتفاء تقاليد و أوفاق متجذرة في هذا النطاق.

إذا كان الأمر كذلك ففي المقابل تندّ عن إدراكنا، و لنقلها دونما تردد، مساحة متراحبة من النشاطية السردية المتسارعة التي يحفل بها الأدب الموريتاني الحديث سيان منها التي تمس منها جنسا كالرواية أو تلك التي تطول جنسا رديفا كالقصة القصيرة، و تفلت منا، بالتبعية، قسماتها البنائية و اشتراطاتها التخييلية. و من هنا أهمية إصدارات من هذا الصنف ما دامت تضعنا، بالأقل، في صورة الأدوار، و إن حلّت متأخرة، التي ينهض بها المبدعون الموريتانيون في الفضاء السردي العربي العام. فمن خلال كتاب محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم أمكننا ابتناء فكرة، ولو أولية، عن روائيين موريتانيين تقليديين، كسيد محمد ولد حيمان و ماء العينين شبيه و أحمد سالم بن محمد مختار..؛ و استكشاف جهود روائيي نهاية ستينات القرن المنصرم و سبعيناته، مثل فاضل أمين و كابر هاشم و الخليل النحوي و ناجي محمد الإمام..؛ الذين هم، بالمناسبة، شعراء كذلك، و ".. محمد فال ولد عبد الرحمن و غيره ممّن كانت لهم ريادة تطويع هذا الشكل في موريتانيا" (11)، إضافة إلى ثلة من القصاصين، من الرعيل الموالي، كمحمد ولد تتا و محمد ولد أحظانا و محمد بابا بن ألفاع و محمد الأمين الشاه و محمد الحسن بن محمد المصطفى..

لكنه، أي الكتاب دائما، و هو يستهدي ثمرات البويطيقا السردية، يزاوج، من غير إخلال، بين النظري و الإجرائي، و يفكك البنيات الخطابية و النصية للرواية الآنفة الذكر ضمن اختيار تحليلي ميكروسكوبي لا يخلو من نجوع، و لا يتنصل، بالمرة، من موجبات السياق المجتمعي و الثقافي الموريتاني، فإنما هو تلمّس دال منه لممكن توصيفي حداثي يكتسي جاذبية نقدية خاصة و مؤهل لأكثر من مسوّغ، بالرغم من كلفته المعرفية الضاربة، لاستغوار طبغرافيا جنس تعبيري قيد التّخلق في الأدب الموريتاني و توسيع دائرة مقبوليته القرائية، عربيا، في آن معا، أو لنقل، بتعبير مواز، "في هذا الأفق النقدي بمشغليه النظري و التطبيقي يأتي هذا البحث، لا بحثا في نظرية هذا الاتجاه و كيفية مساءلته النصوص؛ و إنما تبنّيا لخياره النقدي من أجل مقاربة نص روائي موريتاني، هو "القبر المجهول أو الأصول" لأحمد ولد عبد القادر، من زاوية نصية محددة تتعلق ببنية الخطاب و دلالتها في النص، متخذين من هذا النص عيّنة للتعريف بالرواية و السرد الموريتانيين، اللذين ما زالا مجهولين من طرف الكثير من النقاد و الباحثين العرب المهتمين بالأدب العربي" . و في هذا المضمار، البحثي و الدراسي التعريفي، يندرج أيضا كتاب "الرواية العربية الموريتانية: مقاربة للبنية و الدلالة" (12) لنفس مؤلف الكتاب، الذي يعنينا في هذا المقام، الباحث و الروائي و القاص محمد الحسن ولد محمد المصطفى.

و فيما يهم الشعر الموريتاني، المعاصر منه على وجه الدقة، يتلامح كتاب "الشعر العربي الحديث في موريتانيا: دراسة في تطور البناء الفني و الدلالي (1960 - 1995) (13) " (288 صفحة من القطع المتوسط)، مدخلا ملائما إلى رحاب هذا الشعر و دليلا وجيها إلى تاريخيته و سيرورته و آفاقه المرتقبة. فلقد ظل تمثّلنا للشعرية الموريتانية، و إلى حدود السنوات القليلة الفائتة، لصيقا بإطلاقية، بله عواهنية، إن شئنا، المثل السائر "بلد المليون شاعر"، الذي سرى في أوساط الرأي العام الثقافي العربي منذ مطالع ستينات القرن العشرين و اكتسب، مع تعاقب الأيام، صفة المقولة المكرسة، خصوصا و أنه، أي هذا المثل، يجد قاعدته الافتراضية الداعمة في عوامل الارتحال و الشفوية و اتقاد البديهة و حيويتها ممّا يطبع الشعوب الرعوية الموصولة بإملاءات فضائها المعيشي سواء كان جغرافيا سهلية، نديّة، أو بيداء قاحلة، متيبّسة. لكن إن نحن تحاشينا سطوة هذا المثل و تعميميته المتزيّدة و اتخذنا المعيارية الأجناسية التي تواطأت عليها الأدبيات النقدية العربية فالغالب أننا سنكون مطالبين، في تعاطينا مع الناجز الشعري الكلاسيكي الموريتاني، بإجراء اختزالي قاس بمقتضاه ستتحول تلك الكثرة الكاثرة من الشعراء إلى محض كمّ معقول و مقنع مثلما هو قائم في سائر البلدان العربية.

من هذا الضوء يغدو من المناسب التنصيص، مثلا، على الأهمية التي انتزعتها مدينة ولاّته، في غضون العصر الوسيط، بوصفها أحد مراكز الثقافة العربية التقليدية في موريتانيا، تماما كما أهمية مدائن كالبصرة و الكوفة و سنّار و القيروان و فاس..؛ و ذلك ريثما تزحزحها عن مكانتها مدينة شنقيط و تمسي النواة الصلبة في الخارطة الروحية و الثقافية الموريتانية، و أيضا تعيين أسماء كبار الشعراء الكلاسيكيين الموريتانيين الذين توزعت قرائحهم بين مختلف الأغراض التي أطرتها القصيدة العربية الكلاسيكية، من مديح و هجاء و فخر و حماسة و رثاء و نسيب و تصوف..؛ مثل ابن زاركة و محمد اليدالي الديماني و حرم بن عبد الجليل العلوي و المختار بن بون و محمد بن سيدي الإيبيري و الأحول الحسني و محمد بن الطلبة اليعقوبي و يقوى الفاضلي و المختار الكنتي و الشيخ سيد يّا و مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي و محمد بن محمد العلوي و محمد بن حنبل..؛ الذين نسجوا نصوصهم على منوال الشعرية العربية الكلاسيكية و صدروا، معجميا و تعبيريا و تخييليا، عن نفس قيمها و مقاصدها و إن كان جدّ طبيعي أن تأتي نصوصهم تلك أقل تماسكا و أوضع رونقا من الأصول الشعرية المشرقية.

في هذا الاتجاه تستقيم الفائدة البالغة التي كانت لمصنف "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" لمؤلفه أحمد الأمين الشنقيطي، الفقيه الأزهري الشهير، من حيث تعريفه بالأدب الموريتاني التقليدي و إمداد الشعراء و النقاد و المثقفين و الإعلاميين المشارقة بمادة وافية ممّا أبدعته المخيلات الموريتانية من آثار تشفع، على هذا النحو أو ذاك، للأدب الموريتاني بالارتقاء إلى مدرج المعلومية و الاندراج إلى المدار الوسيع للأدب العربي خاصة و أنه، أي الكتاب، حرّر في مصر، عند بداية القرن العشرين (1911)، و نال، و الحالة هذه، امتياز الرواج في القلب من أحد المراكز الاستراتيجية للثقافة العربية. هذا و إذا ما رمنا تكثيف السيرورة التي كيّفت الأدب الموريتاني، محكوما بخلفيته الإثنية و التاريخية و حيثياته الطبيعية و اللغوية و الثقافية، لجعلنا مبتدأ اندلاعها مقدم القبائل العربية إلى تلك الربوع و انصهارها مع الساكنة المحلية و من ثم بدأت ".. تنتشر قبائل حسّان العربية في جميع موريتانيا، و يتم بذلك تعرّبها كما تعرّب المغرب في منتصف القرن الخامس بالقبائل العربية من بني سليم و هلال (…) و قد نشرت هذه القبائل لغتها الحسّانية العامّية في موريتانيا، و هي عامّية عربية (…) و لم تأخذ موريتانيا عنها هذه العامّية العربية وحدها بل حملت عنها أيضا ما كانت تنظمه في مواطنها من الملاحم و الأناشيد و القصائد التي تشتمل على أغراض الشعر العربي من المدح و الغزل و الفخر و الحماسة و الهجاء و الرثاء. و على هذا النحو تعرّبت موريتانيا تعرّبا حسّانيا، فالألفاظ هي الألفاظ العربية و الأوزان هي الأوزان العربية. و معنى ذلك أن القبائل الحسّانية الموريتانية كانت لا تزال تحتفظ بميراثها من الألفاظ و أوزان الأشعار و أغراضها، ممّا يدل دلالة قاطعة على أنها كانت لا تزال تحتفظ بسليقتها العربية التي توارتثها منذ مئات السنين، و هي سليقة تشهد بأن هذه القبائل لا تزال قبائل شعر و قصيد كما كان آباؤهم الأولون (…) و بذلك توارث سكان موريتانيا السليقة الشعرية العربية، و عمل الإسلام على أن تستتم العامّية الموريتانية على ألسنة كثيرين الفصحى، إذ دارت على ألسنتهم في حفظ القرآن الكريم و تعلّمه و فيما أكبّوا عليه من العلوم الإسلامية، و قد مضوا يتعلمون العربية و يتعمقون في دراسة أشعارها الجاهلية على مرّ العصور" (14).

بإزاء بّورتريه، من هذا اللون، يرشح بكل عناصر التلادة و الفطرية و الاتباع ما الذي يمكن توقعه، إذن، من أدب يجرّ خلفه تاريخا بهذه الوطأة و ينتصر للذاكرة و القدامة و يتوسل بالشفوية و ذلك في أثناء أيّما مناولة كانت للحداثة الشعرية، علما بأن هذه الأخيرة لتستدعي، من بين ما تستدعيه، توافر بنيات مجتمعية و سياسية و قيمية و ثقافية قويمة و ناضجة و تتطلب تواجد ممارسات كتابية و تدوينية و قرائية، بالتالي، توثّق للتتاليات و الانقطاعات و التجاوزات لأن الحداثة، في أي فن كان، دينامية مناوئة للثبات و القعود، مسعاها المستديم إلى المستقبل، و لاشيء غير المستقبل، إلى المحتمل و اللامطروق ؟ و حصريا ما الذي يقتدر عليه الكتاب، قيد التقديم، من تلقين و تحفيز و إقناع.. يصب في حساب ما يمكن اعتباره حداثة شعرية في الأدب الموريتاني الراهن ؟

يقول المؤلف في التوطئة التي خصّها لكتابه: "يمكن القول إن الشعر الموريتاني الحديث ارتبط بظهور الدولة سنة 1960 و ما صاحب ذلك من نشأة المدينة و المؤسسات الحضرية و ظهور المكتبات الحديثة" (ص 8)، و إذ يقرر معطى جدّة الفعل الشعري الحديث و طراوته في بلده الذي لم يع ماهية الدولة بمرافقها المؤسّسية و شخصيتها الرمزية المتنفذة إلاّ بالأمس القريب فهو سيردف إليه معطى ثانيا، بدهيا، لم يكن، طبعا، لأيّما فعل شعري، رهن النشوء، مناص من الوقوع تحت نفوذه ألا و هو الاستناد إلى مرجعية / مرجعيات شعرية، و ثقافية أيضا، أسبق و أصلب يستنير بخبراتها و إثماراتها المتحصلة، و لذا "ظلت سمات التحديث في هذا الشعر حتى وقت متأخر محكومة بالطابع العام للشعر العربي الحديث بداية من المرحلة الرومانسية و وصولا إلى الشعر العربي المعاصر (الشعر الحداثي). و كان الوافد الأدبي و النقدي الغربي يصل عن طريق الأدب و النقد العربيين، و لم يبتعد تقسيم الشعر عمّا هو معروف من اتجاهات في الشعر العربي سوى أن خصوصية البلد و حياته و طبيعته ستطبع على النص الشعري في جانب منه بصمتها الخاصة" (ص 8 - 9). شعر بهذا الميسم ما انفك، إذن، يسوّي هويته المائزة، بالنظر إلى فتوّته و اعتياشه على شعريات محنّكة، هو المادة التي سيتدبرها المؤلف بالتحليل و التقييم، بحيث إن "هذا الشعر الموريتاني الحديث هو ما سنتناوله بالدراسة. و يمكن القول إن الثلاثين سنة الأخيرة تمخّضت عن نتاج شعري جدير بالدراسة في نظرنا، و ستتمّ دراسة هذا الشعر من خلال مدونة شعرية تمثل خارطة الشعر الموريتاني الحديث باتجاهاته المختلفة، و ذلك من خلال جيلين يبرز بين نتاجهما قدر من التمايز يسمح بالفصل و إن ظلت علاقة تماسّ حاضرة في بعض ما قدّماه، خاصة إذا تعلق الأمر بالنصوص المتأخرة للجيل الأول و النصوص المتقدمة للجيل الثاني" (ص 8 - 9).

فبالنسبة للجيل الأول سنلفي المؤلف نازعا إلى تمطيط زمنية الجيلية، المبدئية، و التي هي عقد أو عشرية، لتستغرق تمام المسافة الممتدة من فجر ستينات القرن العشرين إلى أواخر سبعيناته فكان أن آوت هذه المسافة الزمنية ثمانية أسماء شعرية هي كالآتي:

المختار ولد حامدن (ت. 1993).
أحمد ولد عبد القادر.
الخليل النحوي.
محمدي ولد القاضي (ت. 1983).
فاضل أمين (ت. 1983).
ناجي محمد الإمام.
كابر هاشم.
محمد الحافظ ولد أحمد.

في حين سيبدأ تبلور الجيل الثاني مع إطلالة ثمانينات نفس القرن و لمّا يزل محافظا على وضعه الاعتباري هذا إلى حد الآن ما دام لم يسفر المشهد الشعري الموريتاني عن جيل آخر بديل، أما الأسماء التي اعتمدها المؤلف من هذا الجيل فهي:

إبراهيم ولد عبد الله.
محمد ولد عبدي.
بات بنت البراء.
محمد ولد الطالب.
ببها ولد بديوه.
أبو شجة.
سير الأمين بناصر.
خديجة بنت عبد الحي.

هذا و زيادة على ما اعتمده المؤلف من إصدارات شعرية رائجة لهؤلاء فإنه سوف لن يتوانى، و هو مسلك مفهوم في وضعية شعرية حداثية ما برحت هشة على صعيد التدوين الكتابي مثلما هي محجوزة أو منحبسة على مستوى النشر و الترويج، عن الأخذ بعين الاعتبار بعض الدواوين المخطوطة أو قصائد سلف و أن ألقيت في ملتقيات شعرية، و أيضا، و رغبة منه في توسيع المتن الشعري المدروس و ذلك في مرمى اختبار افتراضاته التصورية و الإجرائية على أكثر من صعيد أو محكّ، فهو لن يتورع عن إلحاق شعراء آخرين من غير الذين أوردنا أسماءهم. و هكذا، و في مقابل اعتماده أعمالا شعرية مطبوعة مثل:

  • ديوان محمد الأمين ولد محمد فاضل، تحقيق: المصطفى ولد عمر، المدرسة العليا للأساتذة، نواكشوط 1985 - 1986.
  • ديوان محمدي ولد القاضي، تحقيق: عبد الله ولد محمد عبد الرحمن، المدرسة العليا للأساتذة، نواكشوط 1982 - 1983.
  • ديوان محمدي "أنشودة الدم و السنا" لببها ولد بديوه، مكتبة الآداب، القاهرة 1994.
  • ديوان محمدي"ترانيم لوطن واحد" لبات بنت البراء، المطبعة الوطنية، نواكشوط 1991.
  • ديوان محمدي "وجه في مرايا الفقراء" لمحمد ولد الطالب، مطبعة النصر، نواكشوط 1994.
  • ديوان محمدي "أصداء الرمال" لأحمد ولد عبد القادر، دار الباحث، بيروت 1981.

سيلجأ إلى إدراج بعض الأعمال الشعرية المخطوطة و منها:

  • المجموعة الشعرية الكاملة لناجي محمد الإمام.
  • المجموعة الشعرية الكاملة لخديجة بنت عبد الحي.
  • المجموعة الشعرية الكاملة لإبراهيم ولد عبد الله.
  • المجموعة الشعرية الكاملة لمحمد ولد سيدي محمود.
  • المجموعة الشعرية الكاملة لمحمد كابر هاشم.
  • ديوان "الغول" لمحمد ولد عبدي.

و فيما يتعلق بدواعي إعداد هذا العمل الأكاديمي / النقدي، بمقاصده و استهدافاته، فإن ما ".. دعانا إلى إنجاز هذا العمل أمران اساسيان: 1- أن هذا الشعر توسّع أفقيا و عموديا إلى درجة جعلت من الخطورة عدم تناوله بالدراسة النقدية الأكاديمية المتوسلة بالمنهج العلمي بعيدا عن الخواطر الصحافية السريعة، و الكتابات غير الموضوعية. 2- و ترتيبا على ذلك فإننا لم نر حتى الآن عملا علميا يتمخّض لدراسة هذا الشعر، و كل محاولات الدرس التي تناولته كانت من خلال أبحاث التخرج لطلاّب الدراسة الجامعية الأولى. و بدهي أن تلك الأبحاث لا ترقى إلى المستوى العلمي الذي يعتدّ به من الوجهة الأكاديمية (…) من أجل ذلك، و إحساسا بالفراغ النقدي الجادّ لهذا الشعر حرصنا على الإسهام في قيام خطاب نقدي يمارس عملية قراءة و مساءلة للخطاب الشعري، مدركين ضرورة أن يتحلى الدارس بالرصانة، و يبتعد عن الميول الإيديولوجية بمختلف مظاهرها" (ص 11). و فيما يتصل بالمنهج فهو لا يغفل التوكيد على أنه ".. ليس تاريخيا بحتا، بل إن التاريخي فيه يتكامل مع آليات منهجية أخرى أثبتت كفاءة في الدرس الأدبي.. إنها باختصار محاولة للوصف و التحليل، تضع في الحسبان العامل الزمني، حيث إن هذه الدراسة تطمح في نهاية المطاف، و مراعاة لما سبق، إلى أن تكون تأسيسية" (ص 11).

و بالنظر إلى أن كل مشروع أكاديمي / نقدي إلا و يستوجب تهيئة أو عدّة مرجعية ملائمة لمقاصده و استهدافاته و متجاوبة، أيضا، مع منطلقاته المنهجية، التصورية و الإجرائية، إذا كانت المسألة بهذه البداهة فما هي يا ترى نوعية هذه التهيئة أو العدّة و ما هي، ترتيبا على كذلك، حدود انصبابها في مجرى استراتيجية الكتاب لا الوصفية و لا التلقينية ؟

في هذا الاتجاه، بالذات، و بقدر ما اقتضت الحاجة، المعرفية، إلى تغوّر تاريخ موريتانيا القروسطوية استعانة المؤلف، مثلا، بكتب تاريخية، كمصنف "المسالك و الممالك" للبكري، قد تمده بعناصر وافية و دقيقة تتصل بمفاصل هذا التاريخ و انتساجاته، و التحري عن محددات البلد المجتمعية و السياسية و الثقافية.. استئناسه بكتب حديثة تعالج هذه المحددات، ك "بلاد شنقيط" للخليل النحوي و "هذه موريتانيا" ليونس بحري و "حياة موريتانيا" للمختار حامدن و "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" لجماعة من المؤلفين..؛ و كذا ببعض البحوث و الرسائل الجامعية التي تمحورت موضوعاتها حول موريتانيا، تاريخا و اجتماعا و سياسة و ثقافة.. أيضا، و بمقدار ما يتلامح طبيعيا، في سياق بحثي موصول بالشعرية الموريتانية، استرفاده لبعض المصادر التي سلف و أن تطرقت للأدب الموريتاني، شعرا و نثرا، مثل "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" لأحمد ولد الأمين و "محاضرات في الأدب الموريتاني القديم" لأحمد ولد الحسن و "الشعر و الشعراء في موريتانيا" لمحمد المختار أباه و "مختارات موريتانية.. من الأدب الشنقيطي الحديث" لمحمد كابر هاشم و "شعراء موريتانيا القدماء و المحدثون" لمحمد يوسف مقلد..؛ فإن البيبلوغرافيا المستثمرة في الكتاب تسفر عن حضور مرجعيتين نقديتين متجافيتين، واحدة قديمة و الأخرى حديثة، ضمن دراسة تقترح ميثاقا حاسما يحيل، من غير ما مواربة، على الشعرية الموريتانية المعاصرة. يحضر، من باب الاستشهاد ليس إلاّ، كتاب "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي و "الشعر و الشعراء" لابن قتيبة و "عيار الشعر" لابن طباطبا العلوي و "الموازنة بين أبي تمام و البحتري" للآمدي..؛ و تحضر إلى الجوار منها مؤلفات تؤول إلى الدرس الشعري و النقدي و الألسني الحديث سيان من خلال كتابات عربية أو أخرى غربية منقولة إلى اللغة العربية، ككتاب "قضايا الشعر المعاصر" لنازك الملائكة و "الشعر العربي المعاصر، قضاياه و ظواهره الفنية و المعنوية" لعز الدين إسماعيل و "الرمز و الرمزية في الشعر العربي المعاصر" لمحمد فتوح أحمد و "في معرفة النص" ليمنى العيد و "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" لمحمد بنيس و "الصورة في الأدب العربي الحديث" لنعيم اليافي و "بنية اللغة الشعرية" لجان كوهين، ترجمة محمد الولي و محمد البكري، و "دروس في الألسنية العامة" لفرديناند دي سوسور، ترجمة صالح القرمادي..

و لعل الملحظ الأساسي بهذا الخصوص هو ليس فقط ما كان من حضور مرجعية نقدية تراثية قد لا يسلم التحليل من تداعياتها المصطلحية و محمولاتها النمذجية، الشيء الذي لربما شوّش، بهذه الدرجة أو تلك، على مسعى الاقتراب من نصوص شعرية محسوبة على الحداثة و محكومة، بالتالي، باقتضاءاتها المفرداتية و التوليفية و التخييلية و الرؤياوية، بل و محدودية المتن المرجعي الحديث كذلك، بحيث تغيب مظانّ و عناوين فارقة لا غنى عنها، فيما يبدو، في أيّما تناول للشعر الحداثي، زد على هذا عدم توافر و لو أدنى مرجع، نقدي أو ألسني، صادر بلغة أجنبية، كالفرنسية بما هي لغة الانفتاح على الغرب في موريتانيا كما في باقي البلدان المغاربية، و قد لا نحوج كبير عناء للتوكيد على مدى الخصاص الذي يلازم أيّ مقترب جادّ للشعر المعاصر، يروم التقاط إوالياته التكوينية و نواظمه التمثّلية للذات و العالم، يعفي نفسه من الاطلاع على منتجات الدرس النقدي و الألسني في لغاتها الغربية الأصلية.

و كترسيمة تشييدية للبحث تنتظم الاستراتيجية المومأ إليها سوف يقرّ نظر المؤلف على الاستهلال بمقدمة مسهبة تختزل جملة المقاصد و الاستهدافات المنتوى تحقيقها في صلب الكتاب، مسبوقة بإهداء حميمي يستثير الجانب الشخصي في سيرة المؤلف، و يليها الفصل الأول الموسوم ب: في البنية الخارجية للشعر الموريتاني، و هو عبارة عن وقفة متأنية عند المحددات المجتمعية و السياسية و الثقافية.. لموريتانيا، فالفصل الثاني المعنون ب: الشعر الموريتاني الحديث، سواء من حيث المفهوم.. النشأة و التدرج.. الاتجاهات العامة.. أو إشكالية التلقي الشعري في مجتمع كالمجتمع الموريتاني، ثم الفصل الثالث الذي يحمل عنوان: البنية الفنية للشعر الموريتاني الحديث، و ذلك في بعديها الزمني و المكاني مع استعراض مناحي تطوره إن عبر الجهود التجديدية من داخل الشكل الكلاسيكي أو من خلال تلك التي رصدت لاجتراح أشكال و جماليات أو، بالحريّ، إبدالات شعرية متقدمة، و أخيرا الفصل الرابع الذي اختار له المؤلف العنوان التالي: قضايا الشعر الموريتاني الحديث، و أوقفه على مطارحة أبرز القضايا و الشواغل و الموضوعات التي تعاطى معها هذا الشعر و تكفّل بتصويرها و التعبير عنها، متبوعا، أي هذا الفصل، بخاتمة ترمّم شتات مادة الكتاب و تستجمع أنفاسه التي تنازعتها الفصول الأربعة المذكورة.

و إذا كنا لا نختلف، البتّة، في أن ما من بحث بحث و إلاّ و هو عرضة للكثير من المصاعب و المثبّطات و نتفهم، لزوما، كون المؤلف قد زجّ بنفسه، و هو يفكر في موضوع كهذا، في مطبّ النقطة الصفر، لا من حيث المادة الشعرية أو الدراسات النقدية، مع ما يستلزمه موقف كهذا من أعباء مضاعفة بغية ".. الدخول في موضوع لم يمهّد قبلي بأية كتب أو أبحاث أكاديمية خاصة به، على نحو اضطرني إلى أنطلق ممّا يشبه الفراغ (…) و إنني آمل أن أكون بهذا العمل قد أسهمت في تمهيد الطريق أمام الباحثين لدراسة الشعر الموريتاني و ظواهره المختلفة" (ص 15)، إذا كنا لا نختلف، و كنا نتفهم، بالتالي، فإننا لنحترز، مثلا، من استعماله غير الدقيق، بله المتعسف، لمصطلح "الحديث" ضمن الصيغة العنوانية الشاملة للكتاب و، بالتبعية، في الصيغ العنوانية لفصوله، بينما انتواءات المؤلف، روح الكتاب، و حتى قسط من المتن الشعري الذي حلّله، علاوة على زمنيته، ينضوي تلقائيا تحت لواء ما تواطأ الدارسون و الشعراء على تسميته بالشعر المعاصر، و من ثم كان أولى به أن يركز على المعاصرة، و ربيبتها الحداثة، على مقاس الشفوف المصطلحي و النقدي المعمول به في الوسط الثقافي العربي، و بدلا من إقحام تجارب و نصوص شعرية، تقليدية و رومنتيكية، و التوسعة المفرطة في تناولها كان خليقا به، فيما نعتقد، الاقتصار على نوع من العبور الملامس و الوظيفي، ليس أكثر، و إلاّ ما معنى استحواذ هذه التجارب و النصوص على أحياز لا يستهان بها من مساحة كتاب مفترض فيه أن يستفيض في مقاربة التجارب و النصوص الشعرية المعاصرة الآيلة زمنيا إلى الفترة القريبة و المبتناة على هدي من قواعد النص الشعري المعاصر أو الحداثي و حساسياته و أخلاقياته.

كبادرة منه إلى رفع اللبس الذي قد يرخيه مصطلح "الحديث" و إمكان تداخله مع مصطلح "المعاصر"، دليلا على وعيه بهذا اللبس و التداخل، بودّنا أن نسجل له إشارته، في المقدمة، إلى أنه ".. و قبل أن ندخل إلى صميم موضوع كتابنا ينبغي أن ننبّه إلى الخلط الذي قد يحصل في الأذهان بين مفهوم الحداثة و المعاصرة أو بالتعبير الدقيق "الحديث" و "المعاصر". و قد اختلف الدارسون في المدلول الخاص لكل منهما، و ارتباط أحدهما بالبعد الزمني و اختصاص الآخر بالجانب الفني. و ما دام من الممكن للباحث أن يستخدم من المصطلحات التي يرى أنها تخدم موضوعه ما يشاء بشرط أن يوضح المقصود منها فإننا نؤكد أننا حين نطلق مصطلح "الشعر الحديث"، سواء في السياق الموريتاني أو العربي العام، فإننا نقصد المحصلة الشعرية منذ بداية الاحتكاك ب "الآخر" في سياق كلّ منهما. أما الشعر المعاصر فدلالته أخصّ كثيرا في نظرنا إذ نطلقه على الحركة الشعرية التي برزت منذ أواخر الأربعينات، مبشرة بآفاق إبداعية جديدة تتخطى كل ما سبقها من محاولات؛ و تبحث عن جماليات غير مكرورة، و قد أدى بها ذلك إلى كسر نظام القصيدة العربية شكلا و مضمونا. و هذا المصطلح استخدمه لأول مرة أستاذنا د. عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر" منذ قرابة ثلاثين عاما. و قد نوضح هذا الاتجاه زيادة في تجنّب اللبس بمصطلح (الحداثة، الحداثي - و هو غير مصطلح الحديث السابق ذكره -) أو (شعر التفعيلة) أو (الشعر الحر)" (ص 13 - 14). لكن مع هذا ستأخذ الأمور الوجهة التي عيّناها، بل و سيحدث أن يركب، أي المؤلف، و هو يسوق بعضا من المصطلحات المرادفة للشعر المعاصر كما نلاحظ في نهاية الشاهد، التباسا من لون آخر، نقصد إيراده لمصطلح "الشعر الحر" بوصفه مرادفا كفؤا في هذا النطاق، في حين أنه لو عاد إلى بعض أمّهات النقد الشعري العربي المعاصر، مثل كتاب "قضية الشعر الجديد" لمحمد النويهي و "النار و الجوهر" لجبرا إبراهيم جبرا و "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر" لكمال خير بك..؛ التي حاورت، و عن اقتدار، الخلاصات المركزية لكتاب نازك الملائكة "قضايا الشعر المعاصر" لانتهى إلى فداحة الخلل، غير المقصود، الذي شاب وصف "الحر"، الإطلاقي و الفضفاض، لحظة تفكير الشاعرة العراقية في تسمية لائقة بحرية شعرية اعتقدتها كاملة بينما هي منقوصة، في الجوهر، لأنها كانت لا تزال، حينها، في مسيس الحاجة إلى مزيد من الكدّ و الابتكار الإبداعيين.

عين الاحتراز نشأ لدينا و نحن نرى أيضا ما قام به من فصل، غير صحّي، بين المستويين الفني و الدلالي، بحيث سيوقف الفصل الثالث، مثلما لاحظنا، على البنية الفنية للشعر الموريتاني الحديث بينما خصّ الفصل الثالث بمعالجة مستواه الدلالي. و بالرغم من تصريحه بالقول: ".. و لا يعني إفراد كل من العنصرين الفني و الدلالي الفصل بينهما، إذ أنهما مترابطان أشد الترابط، و كل منهما دالّ على الآخر، غير أن الضرورة المنهجية تفرض علينا أن نفرد كلاّ منهما بفصل خاص حتى نتمكن من إعطاء موضوعنا ما يستحقه من جدية و اكتمال" (ص 13)، فإن تسويغ الفصل باعتبارات إجرائية لا يمكنه أن يصادر منا حق التساؤل عن حظوظ نجاح مسلك منهجي من هذا القبيل و تمحيص مضاعفاته السالبة على آلية التحليل المعتمدة و مقايسة مردوده من حيث وصف الفاعلية الشعرية الموريتانية المعاصرة و تشخيصها على نحو أوثق و أنجع.

أما خارج هذين المعطيين المربكين، بوجه من الوجوه، لقراءة نسقية و متماسكة، على شاكلة ما نبتغيه نحن بالأقل، لمحمول الكتاب سيعمد المؤلف في الفصل الأول إلى التوسع في الجانب التاريخي منطلقا من الحقبة التي كانت فيها القبائل الصنهاجية تعمّر موريتانيا و ماسحا للحقبة الموالية التي بدأت مع مقدم القبائل الحسّانية و اندلاع حركة التعريب التي ستعمّ مختلف أطياف الساكنة المحلية، ".. و بعبارة اليدالي (ت: 1144 هجرية) فإنها (أي الحسّانية) كانت القنطرة لأهل هذا العهد إلى العربية حتى أصبحت منذ القرن التاسع الهجري و بعد اكتمال التّعرّب "اللسان العام" لأهل شنقيط" (ص 22)، متعرضا، بعدها، لمرحلة الاستعمار الفرنسي التي يمكن التاريخ لبدايتها بعام 1906 ريثما تترسّم بحلول عام 1920 و تتوّج بانضواء موريتانيا إلى ما كان يدعى بالاتحاد الفرنسي و هو عبارة عن تجمّع للمستعمرات الفرنسية آنئذ. و لأن الاستعمار، على علاته، أتاح للمستعمرات فسحة للانفتاح على القيم و الأعراف السياسية الغربية فستكون فرصة البلد التاريخية للانخراط في ثقافة التحزّب السياسي و الانتقال من أفق الانتساب القبلي إلى مدار العائلة السياسية و الإيديولوجية لتتأسس مجموعة من الأحزاب التي ستلعب أدوارا حاسمة في التاريخ الموريتاني القريب، كحزب "التفاهم" لأحمد ولد حرمة ولد ببانة الذي سيتبنى فكرة الاندماج في المغرب، و حزب "النهضة" القومي، ذي النزوعات العروبية، الذي سينشئه بوياجي ولد عابدين المعروف بانتصاره لمبدأ السيادة الموريتانية لكن مع إقامة علائق موثقة خاصة مع المغرب، ثم حزب "التجمع الموريتاني" الذي اقترن ميلاده بالمحامي الشاب المختار ولد داده، هذا الأخير الذي سيرفع شعارا له استقلال موريتانيا عن فرنسا و هو ما سيتحقق عام 1960 لتعلن الجمهورية و يدخل البلد في سلسلة من الأحداث و الوقائع التي ستدمغ سنوات الاستقلال، كصياغة أول دستور غداة الاستقلال (1961)، والانقلاب العسكري الأول لعام 1978، و المصادقة على الدستور الثاني عام 1991، إضافة إلى تأميم شركة ميفرما العملاقة للصلب و الحديد في الناصفة الثانية من عقد السبعينات و قيام جامعة نواكشوط الفتية في فجر الثمانينات، ثم "جاءت سنوات الجفاف ابتداء من سنة 1969 لتزيد من المشكلات، و لتضع المجتمع قبل الدولة أمام أخطر اختبار عبر تاريخه المعروف، و هو تجربة "المدينة" و الخروج من المرحلة البدوية، غير أن ظروف تلك العملية لم تكن لتساعد على حدوث تحول مدروس، فقد نزح عشرات الآلاف من سكان البوادي و القرى نحو نواكشوط التي أنشئت لكي تستوعب عشرة آلاف ساكن فحسب" (ص 29)، و صوب مدن أطار و نواذيبو و ازويرات و كيهيدي..

و إذن إذا كانت مرحلة الاستقلال قد أسفرت عن ارتقاء هوية الدولة بدواليبها و مرافقها المؤسسية و المعقلنة فإن موجة الجفاف الحادة تلك ستسحب مركز الثقل المجتمعي و السياسي و الثقافي.. من البادية و تجعل من المدينة بؤرة استقطاب ديمغرافي كثيف لن يتأخر عن الانشراخ طبقيا و الانفراز مجتمعيا و فضاء، كنتيجة، لاختمار ذهنية تعلي من شأن الفردية و الحرية و المصلحة.. مع ذلك فقد ".. أصاب تفكير الفرد في هذا المجتمع الجديد نوع من التناقض، فهو يحاول أن ينجح في مجتمع المدينة بكل فردانيته و انزواء الإنسان فيه، و اهتمامه بحياته الخاصة و بمصالحه، و لكنه عاجز عن تحقيق ذلك بطريقة عملية بسبب ارتباطاته القبلية" (ص 35).

و المؤلف يموضعنا في صورة هذه الأحداث و الوقائع و يدنينا، ضمنيا، من سيرورة التحول التاريخي البطيء و المتعثر الذي عاشته موريتانيا جهة معتقد الدولة و المدينة و الفرد ليس فقط بداع من كون ".. الدراسات النصية للعمل الأدبي لن تكون كافية ما لم تربط النص و لو في مرحلة ثانية بشروط إنتاجه، و بعبارة محمد بنيس فإن النص الشعري ليس ممارسة نصية لغوية خارج التاريخ و المجتمع، كما أنه ليس وثيقة نستعين بها عند تفسير ظاهرة معينة.. إن النص ممارسة إبداعية للغة تمت وفق قوانين خاصة أدبيا و اجتماعيا و تاريخيا" (ص 44)، و إنما، زيادة على هذا، حتى ينقل إلينا، من حيث يدري أو لا يدري، أطوار الولادة العسيرة للقصيدة الموريتانية المعاصرة و استمرار انضغاطها، حتى يومنا هذا، تحت نير التقليد الشعري و ذلك بما يوازي، فعليا و رمزيا، التقاطبات الحادة القائمة في المجال الموريتاني بين المدينة و البادية.. بين الفردانية و العشائرية.. بين المصلحية و الإيثار.. و بهذا المعنى إن كانت ".. لم تنجح ستون سنة من الاستعمار الفرنسي المباشر في ربط الثقافة في موريتانيا بالثقافة الغربية (…) و هذا ما يفسر عدم وجود أي أديب أو شاعر موريتاني يكتب باللغة الفرنسية، و منه يمكن أن نبعد تأثير الثقافة الغربية في الساحة الموريتانية و لاسيما في مجال الشعر" (ص 41)، و لم تستطع جامعة نواكشوط العصرية محو "المحظرة"، التي هي موئل التربية الفقهية و اللغوية و الشعرية الاتباعية، فكيف سيتأتى للقصيدة الموريتانية المعاصرة التغطية على تراث شعري شفوي ضارب في القدم و إزاحة النفوذ البالغ الذي ما فتئت تباشره على المتخيل الثقافي الجمعي المصنفات التقليدية التي ألفتها من عيار الشيخ سيد المختار الكنتي و الشيخ سيدنا الكبير و الشيخ محمد المامي و محنض بابه ولد اعبيد و حرمة ولد عبد الجليل و المختار ولد بونه..

بناء عليه، و لأنه يتعذر القفز على ذاكرة شعرية تتمتع بكامل هذه السلطة و بمنتهى هذا الامتداد، سيدلف بنا المؤلف، في الفصل الثاني، إلى المنطقة الأتلد في الشعرية الموريتانية ممارسا حفريات عميقة في هذا المسار و متعكزا على آراء بعض الدارسين الموريتانيين الذين اهتموا بأوليات الشعر الموريتاني الكلاسيكي، مثل محمد المختار ولد اباه و ابن حميده و جمال ولد الحسن و أم المؤمنين بنت الصالح..؛ و بالنظر إلى تضارب هذه الآراء و تباعدها سينتهي إلى خلاصة مؤداها أنه إن ".. كان من اللازم الإلحاح على ضرورة أخذ النماذج الشعرية القيّمة لرواد الشعر الموريتاني الأوائل في الحسبان مثل الحضرمي، و محمد قللي، و أحمد باب التنبكتي و غيرهم، إن الشيء الذي لا مراء فيه أن البداية الجدية للشعر في هذه البلاد إنما كانت مع جيل ابن رازجة، حيث ينتصب البعد الفني محدّدا واضحا لشعرية النص، و لم يعد ثمة شك في أن مرحلة الأنظام و الأدعية و الابتهالات تجاوزتها المسيرة الإبداعية" (ص 56). و إذ يسطر جانبا من الملامح التجديدية في أشعار كل من ابن رازجة و بوفمين و اليدالي و الذيب الكبير.. بنائيا و إيقاعيا و موضوعاتيا نراه غير محجم عن التنصيص على أننا ".. لا نكاد نصل إلى القرن الثالث عشر الهجري و أوائل الرابع عشر حتى نفاجأ "بثورة" شعرية "كلاسيكية" حقيقية، فبرز عدد كبير من الشعراء الذين أخذوا بناصية الإبداع الشعري - في سياقهم - و ثقفوا أدوات بناء القصيدة العربية التقليدية، من أمثال سيد محمد ولد الشيخ سيديا، و محمد ولد الطلبة، و محمد ولد محمدي، و الأحول الحسني، و سيد عبد الله ولد أحمد دام، و محمد ولد أحمد يوره و غيرهم" (ص 59)، الذين سيزخر شعرهم بوصف الفيافي و الوديان و الكثبان.. بما هي مؤثثات المشهد الطبيعي الموريتاني، و يلتزم بالمنظومة الغرضية المكرسة في الشعر العربي، من مدح و هجاء و رثاء و فخر و نسيب.. هذا مع اللجوء إلى معارضة فطاحل الشعراء القدامى مثلما درج على ذلك العديد من الشعراء الكلاسيكيين في أقطار عربية أخرى، و موازاة مع هذا الاتجاه سيتبلور صنف من الشعر الشعبي لن يتوانى عن تسخير المقدرات الارتجالية و استرفاد السّجل المفرداتي الدارج و الاقتيات على المرويات المحلية و يعد الشاعر محمد ولد أحمد يوره أحد أبرز ممثّليه. هذا الرعيل هو من سيمهد لتبلور تيار تقليدي آخر، من أعلامه محمد يحيى ولد خيري و المختار ولد حامدن و محمد ولد الطالب و محمدي ولد القاضي..؛ بمستطاعنا تسميته تيارا نيوكلاسيكيا في الشعرية الموريتانية قريبا من ذات التيار في الشعريات العربية قوامه لغة شعرية منزاحة، نسبيا عن وعورة الشعر العربي القديم و نزر من الانفتاح على المستحدثات الحضارية و المبتكرات التكنولوجية و اتخاذها موضوعات شعرية، و ذلك على الغرار ممّا فعله، على سبيل المثال، الشاعر النيوكلاسيكي العراقي معروف الرصافي.

باختصار فإن ".. الأدب الموريتاني قفز بوتيرة أسرع كثيرا فلم تتجاوز مرحلة الاستيعاب و الإنتاج ربع قرن من الزمن.. كانت محاولة للتجريب في كل شيء و استلهام كامل المقترحات الإبداعية العربية.. و أدى ذلك في أغلب الأحيان إلى الفهم الخاطئ لكثير من الأعمال، و الانفعال السريع بأعمال أخرى، و استخدام ميكانيزمات غريبة و مقحمة، و إن صادف التوفيق بعض المحاولات الأخرى" ( ص 68 - 69). و بهذا الاعتبار جائز التأريخ للمساعي التجديدية، شكلا و مضمونا، بمنتصف ستينات القرن المنصرم، و بحسب المؤلف فإن ما أفرزته هذه المحاولات من نصوص شعرية ليمكن تقسيمها إلى ثلاثة متون قائمة الذات هي: المتن التقليدي / الرومنتيكي، المتن الواقعي الاشتراكي، ثم المتن الرومنتيكي. و إن نحن تخطّينا المتن الأول إلى المتن الواقعي الاشتراكي فسنجده يستحضر أحد أهم ممثليه ألا و هو الشاعر أحمد ولد عبد القادر، و بخاصة قصائده التي شغلت المسافة الزمنية المحصورة بين 1965 و 1975، بحيث سيعمد إلى الاستشهاد بقصيدة له، أدنى إلى شعر التفعيلة، مجّد فيها انتصار المقاومة الفيتنامية على الجيوش الأمريكية و يحلل أخرى، عنوانها "ليلة عند الدرك"، تدور حول سجين موريتاني مقهور سيخضع لاستنطاق جهنمي من لدن سجانين ينتمون إلى سلك الدرك. و على أيّ، و ".. لئن حدث تطوير كبير على المستوى الدلالي فقد ظل المستوى الفني ضامرا لدى شعراء هذا الاتجاه؛ فحتى الانتقال من شعر العمود إلى شعر التفعيلة لم يحمل معه رؤى جديدة أو فلسفة تجاوزية، و إنما أعطى الفرصة لمزيد من الاسترسال في سرد المبادئ الثورية و شعارات النضال فطغت الخطابية و اقترب الخطاب الشعري من الخطاب الصحفي في مباشرته و هلهلته" (ص 83).

و فيما يتعلق بالمتن الرومنتيكي يتبدى أنه من باب المبالغة الحديث عن قصائد رومنتيكية، و ذلك تطابقا مع معياريتها المستدقة، في الشعر الموريتاني، و عوضا عن ترصد آثار نصوص ترضخ لاشتراطات النص الشعري الرومنتيكي بمقدورنا التأشير على توافر نصوص لا تخلو، و إن ظلت مثقلة بالإكراهات الكلاسيكية، من مسحة رومنتيكية شفيفة تنفسح معها إمكانية للأنا الشعرية، المواظفة في النص، كيما تتعالى على حضيض تاريخي و مجتمعي أحطّ من أحلامها و أشواقها الهادرة. أما أشهر شعراء هذا الاتجاه فهم فاضل أمين، الذي تطفو في شعره نزعة انتقادية حادة لمرحلة الاستقلال الوطني و مخاصمة لإملاءات المجتمع و موالاة لامشروطة للطبيعة مع جرعة كافية من القنوط و الكآبة، و محمد الطالب و الخليل النحوي..؛ و ".. لعل الشاعر محمد ولد سيد محمود الشاعر الوحيد الذي خلص شعره للرومانسية فلا نعثر على أيّ أبعاد أخرى في نصوصه، و إنما تتمخض للتعبير عن ذاته و مشاعره تجاه المرأة و مظاهر الطبيعة الصحراوية الخلابة" (ص 88). و من حيث التنويعات الجمالية و الأسلوبية سيعمل الرومنتيكيون الموريتانيون، شبيه نظرائهم في العالم العربي، على تفعيل الكتابة المقطعية و المناورة بالقوافي و استثمار هندسة الموشحات و المخمسات و توظيف إبدال السطر الشعري، المتفاوت طولا و قصرا، أو المزاوجة بينه و بين البيت الشعري ذي المصراعين، كما أنهم استغلوا عنصر التكرار، كمولد دلالي و إيقاعي، أضف إلى ذلك ميلهم إلى طريقة الحكي الشعري و الاستذكار و التداعي.

و سيكون المآل الموضوعي لهذه المساعي التجديدية هو انسياق الشعرية الموريتانية، و قد نضجت، بمنسوب ما، أدواتها و تصالبت، و لو في حدود ما، توسّلاتها، إلى الأفق الحداثي بوصفه المنطقة الأشقّ لأيّما تعبير شعري مسؤول و مراهن، ذلك أن التحديث يفيد، من بين ما يفيده، توسيع فضاء الخبرة الشعرية، تفكيرا و قراءة و استرفادا و تجريبا، و التركيز على اللغة الشعرية كجبهة حاسمة في كل معترك شعري يذوذ عن رقيّ الشعر و تقدمه و اغتنائه. و لقد "بدأت محاولات كسر العمود الخليلي منذ وقت مبكر نسبيا، فكتب ولد عبد القادر "نشيد العمال الموريتانيين" في سنة 1970 و "ليلة عند الدرك" 1971 و "المجد للإنسان" 1975 و كتب محمدي ولد القاضي قصيدة "رسالة إلى جمال عبد الناصر" في سنة 1977" ( ص 90).

على أن هذه المحاولات لم تشكل، عمقيا، إلاّ التفافا محتشما على قاعدية الوزن الخليلي و لم تفض إلى اجتراحات بنائية و تخييلية و مجازية توثّق وشائج النص الشعري الموريتاني بالكتابة الشعرية العربية المعاصرة التي كانت قد طوت أشواطا كبيرة على مستوى التجريب الشعري ، و كان لا بد من الانتظار لبعض الوقت و هكذا، "و منذ مطلع الثمانينات بدأت كتابة القصيدة الحديثة التي توظف جوّ الحلم و الأسطورة و غيرها، و تركز على التجريب في التعبير و الأشكال و يرجع الفضل في انتشارها إلى شعراء الجيل الثاني من أمثال إبراهيم ولد عبد الله، و محمد ولد عبدي، و ببها ولد بديوه، و بات بنت البراء، و محمد ولد الطالب، و خديجة بنت عبد الحي، و أبي شجة، و الشيخ أحمد ولد سيدي، و عبدوتي ولد عاله" (ص 91)، الذين سيذهبون قصيا في تثوير البناء النصي لقصائدهم و إعمال موارد أسلوبية من صميم المقتضى الشعري الحداثي، بل و سينذر بعضهم مخيلته لكتابة حتى القصيدة السريالية، مثل محمد ولد عبدي و ببها ولد بديوه و أبي شجة..؛ و على سبيل الاستشهاد على هذا المنزع، اللافت حقا، سيحلل المؤلف قصيدة "فتوى ختان ذبابة قبل الظلام" لمحمد ولد عبدي و قصيدة "الرحيل" لأبي شجة.

و من حيث المواظفة التناصية في قصائدهم فستقوم أعمال أدونيس و صلاح عبد الصبور و أحمد عبد المعطي حجازي و خليل حاوي و محمود درويش، و بدرجة أدنى أعمال كل من نازك الملائكة و بدر شاكر السياب، مقام سند شعري مرجعي ضارب لاستمداد الكثير من المكونات المعجمية و التركيبية و التعبيرية و الموضوعاتية و الرؤياوية.. و استدماجها في رحم هذه القصائد إن عبر تقنية الحوار أو توسطا بتقنية الامتصاص.

و بما أن سيرورة التحديث الشعري، المتسارعة بالضرورة، سوف تعرف عين التمفصلات التي طبعت الشعرية العربية المعاصرة سيحل أوان، ضمن هذه السيرورة، تتوجه فيه أوعاء الفاعلين الشعريين الموريتانيين نحو قصيدة النثر، فكان أن استحصل بعضهم نصيبا من الدّربة على كتابتها و التمرّس بتقنياتها. و "لئن كانت قصيدة ولد عبد القادر "السفين" 1984 أول نص يتحرر نسبيا من "التفعيلة"، فيما دعي بالقصيدة نصف النثرية، فلقد انفرد الشاعر إبراهيم ولد عبد الله بريادته لقصيدة النثر (…) و يعدّ دعاة قصيدة النثر - و معظمهم من الشباب - قصيدة التفعيلة مرحلة متجاوزة لم تعد قادرة على التعبير عن الرؤى المركبة المتشكّلة في اللاوعي" (ص 95).

في الفصل الثالث سيركز المؤلف على الخاصيات أو السمات الجمالية للشعرية الموريتانية المعاصرة واضعا موضع مدارسة ما أسماه بالتشكيل الزماني و الآخر المكاني في هذه الشعرية و مختلف التحققات الفنية الناتجة عن عامليتهما، كلّ على حدة. ففيما ينضوي إلى فضاء التشكيل الزماني سيدرس تجليات الوزن و الإيقاع و القافية سواء في المدونة الشعرية العمودية، الكلاسيكية و الرومنتيكية، دون أن يغفل إحصاء البحور العروضية المسخرة و حصر نسبها المائوية في شعر كلّ من أحمد ولد عبد القادر و محمدي ولد القاضي و فاضل أمين و محمد ولد الطالب، ملاحظا كيف أن الشعراء الموريتانيين قد تقاعسوا عن تطوير الأوزان الشعرية الكلاسيكية و اقتصروا على استعمالها على نفس طرائق الشعراء القدامى، و فيما خلا شاعر من الجيل الأول و آخر من الجيل الثاني لا يكاد يبرح شعراء هذه المدونة دائرة البحور الطويلة و ذلك على حساب بحور أخرى سينماز استعمالها بالمحدودية، أو في المدونة الشعرية الحداثية التي سيمثل لها بعيّنات من شعر أحمد ولد عبد القادر و محمدي ولد القاضي و ناجي ولد محمد الإمام، بوصفهم زاوجوا بين العمودي و التفعيلي. و عموما تبقى قصيدة التفعيلة محكومة بقانونين اثنين هما: قانون السطر الشعري و قانون الجملة الشعرية، و ضمن القانون الأول تشتغل نصوص أحمد ولد عبد القادر و محمد ولد الطالب و ناجي ولد محمد الإمام و محمد سالم ولد باركلله..؛ التي سيجتزئ منها بشواهد إيضاحية، بينما تخضع للقانون الثاني نصوص أخرى لأحمد ولد عبد القادر و ناجي ولد محمد الإمام، من الجيل الأول، و نصوص بات بنت البراء و ببها ولد بديوه، من الجيل الثاني، و تدعيما منه لهذه النمذجة سيستعين بإحصاء التفعيلات المستعملة مشخصا، بالموازاة من هذا، بعضا من التمظهرات الإيقاعية الداخلية أو المستضمرة في تجاويف النصوص. و بخصوص القافية سيخلص إلى تفييئ توظيفها في الشعرية الموريتانية المعاصرة إلى: مرحلة الالتزام الكلّي، الحذافيري، لدى سائر الأجيال، و مرحلة التطوير الجزئي، فمرحلة التجديد التي ستنطلق في منتصف سبعينات القرن العشرين.

و عند مقاربته لمكوّن الصورة في هذه الشعرية سيلح على مدى ارتهان قصائد شعراء الجيل الأول باقتصاد تخييلي مقتّر أو متراخ، أي بالمعادلة التشبيهية أو الاستعارية الضحلة و الكسلى التي تراعي، في الحد الأعلى، استيفاء التناظر بين طرفي التشبيه أو الاستعارة و معقولية تجاوبهما و تصاديهما. هذا و إذا كان هؤلاء قد عملوا على الانزياح عن هذا الثابت، إذ سيتشبع الاتباعيون الجدد بروح العصر الحديث، بتراكيبه و معادلاته المعقدة، و يتعلق الرومنتيكيون بمعنى المعنى، أو الطبقة الثانية في معمار الدلالة، متخذين صور المفارقة و الصور المتراسلة و الصور اللونية، و كذا الرمز و الميثولوجيا، متخذ حافزية مجازية، فإن الشعراء الحداثيين سيوغلون أعمق في هذا المضمار مستفيدين من الكشوفات التخييلية التي يتيحها النص الشعري العربي المعاصر على صواعد التكثيف و التغريب و الترميز، و ".. يستخلص ممّا سبق أن الرموز في الشعر الموريتاني المعاصر يغلب عليها البعد التاريخي، العربي الإسلامي، أو المحلي، و قد تنفتح بشكل محدود على التراث الإنساني (…) و يشكل الهمّ الوطني و القومي (فلسطين، لبنان، سيناء..) و قضايا الصراع مع الغرب و قوى الابتزاز العالمي، المحاور التي وظفت الرموز للدلالة عليها في الشعر الموريتاني المعاصر" (ص 215).

و لكي يخوض على نحو أرحب في انفعالات و مواجد الشعراء الموريتانيين و يلتقط الكيفيات التي تجسدت بها، كموضوعات و قضايا، في الفضاء الشعري سوف يقتطع لهذه الغاية الفصل الرابع من الكتاب. و إجمالا، و فيما يثبت، فإن ".. مشكلة الهوية العربية بإفرازاتها المختلفة، و إشكالية الدولة في موريتانيا، و ما أحدثه قيامها من أخلاقيات و قيم جديدة مغايرة إلى حد كبير لعادات المجتمع البدوي و تقاليده، كانت أبرز القضايا التي شغلت الشاعر الموريتاني و سيطرت على اهتمامه و تفكيره، فصاغ تصوراته عنها شعرا يحمل في مجمله تجارب حية نابضة بالحياة" (ص 227).

فبأثر من الاعتناق القومي، العروبي، الأصيل للشعب الموريتاني لن تفعل النخبة المثقفة، و منها شريحة الشعراء، شيئا من ترجمة هذا الاعتناق أفكارا و طروحات و شعارات و أنساقا تعبيرية. و حتى و هذا الهاجس يخبو، نسبيا، لدى شعراء الجيل الثاني جراء ما ران على الواقع العربي من انتكاسات و هزائم، و أيضا بسبب من الميول القطرية الانطوائية التي تسود مختلف بلدان العالم العربي، فما من شك أن الهمّ العربي قد استأثر بقطاع واسع من شعراء الجيل الأول و علا، في بعض قصائدهم، إلى مرقى القضية الأمّ، و هو ما يظهر في تشبثهم بحلم الوحدة العربية أو في ولائهم لرمزية جمال عبد الناصر و رمزية فلسطين اللتين صارتا إلى أيقونتين دالتين في التعبير الشعري الموريتاني المعاصر، و حسبنا أن نطّلع على القصائد التي أوردها المؤلف لشعراء كأحمد ولد عبد القادر و محمدي ولد القاضي و محمد ولد الطال و بات بنت البراء..؛ لنقف، و من خلال إحصائيات، على الحضور المهيمن للهاجس العربي في أشعارهم.

و عن موضوع الدولة فإن جدّة مفهوم السلطة المركزية في بلد قبلي كموريتانيا و انعدام تقاليد مدنية باكرة تذيب متفرق العصبيات القبلية في بوتقة المجموعة الوطنية الواحدة و المتماسكة لممّا سيستحكم في المتخيل الوطني العام، السياسي و الثقافي، و يرجئ، بالتالي، الموقف من الدولة، ككيان و هوية، و يفاقم من وضعية التردد بين قطب القبيلة و قطب العائلة السياسية. فحينما أرست فرنسا بنية إدارية جنينية نظر إليها السكان، القبليون، بحذر و احتراس و لمّا قامت الدولة الوطنية، عام 1960، لم يفرق الناس بينها و بين الإدارة الاستعمارية. و مهما يكن فقد ".. قامت الدولة و كان الجفاف الطاحن منذ عام 1969 أول اختبار لصلابة هذا الكيان الوليد، فقد تدافع مئات الآلاف إلى المدن هربا من قساوة الطبيعة و جدب الأرض، و حبس السماء، و نشأت حاجات جديدة، و بدأ الإنسان يعي وجوده و يدرك أن ثمة دولة يتبع لها و نظاما يحكم حياته و ينسق حركاته، و أن له حقوقا و أن عليه واجبات.. و تزامن هذا مع تصاعد حركات المدّ التحرري الاشتراكي في العالم، و بروز حركات اشتراكية قومية في الوطن العربي، فنشأ لدى القلة القليلة من النخبة ذات التعليم العربي المحدود إحساس بغبن المواطن و انفراد الطبقة الحاكمة بمقاليد الأمور و نهب الشركات الاستعمارية لخيرات البلاد، و كأن الاستعمار السياسي ارتفع و حلّ محله استعمار اقتصادي أقوى و أعتى يسلخ الجلد و ينفد إلى المخ" (ص 229 - 230).

في غضون انعطاف مؤسّسي و فكري و مادي بهذه الجسامة و هذا المفعول كان لزاما أن يجد الشعر الموريتاني أو، بالأولى، جزء كبير منه نفسه في هذا المعمعان و أن يأخذ الشعراء على عاتقهم، بإغواء من مقولات الالتزام و الثورة و التغيير التي هي عماد الواقعية الاشتراكية، نبل مناصرة الجماهير المهضومة الحقوق و تعضيد كفاحها التاريخي من أجل نيل جدارتها و كرامتها المستحقتين لتكون النتيجة، في غمرة تموقف شعري كهذا، فائضا من النصوص ذات النبرة الخطابية و التحريضية، هذه النبرة التي لا يعود معها محل لأيّ تطلّب جمالي كان لأنه يمسي، و الحالة هذه، مرادفا للترف الشكلي و الميوعة التزيينية ليس أكثر.

كانت تلك هي الخطوط العريضة لكتاب "الشعر العربي الحديث في موريتانيا.." لمحمد الحسن ولد محمد المصطفى، و بغض الطرف عمّا بسطناه من احتراز في شأن الاستعمال غير الملائم لمصطلح الحديث و كذا فيما يخص فكّ الارتباط اللاّمناسب بين المستويين الفني و الدلالي، ممّا تجافيه المقاربات النقدية الجديدة للنص الشعري، أضف إلى هذا النزوع الملموس، رغم الكياسة التصورية و الائتلاق المصطلحي، نحو الشرح و التعليق على النصوص الشعرية بدل نمذجة بنياتها و توصيف أداءاتها، فإننا لا نجد غضاضة في تثمين مشروع أكاديمي / نقدي كالذي تدبّره المؤلف لأنه يشكل، و على أكثر من صعيد نوعا من قيمة مضافة إلى الرّيبرتوار النقدي العربي في الحقل الشعري و يوسّع مداركنا للامتدادات الإقليمية القائمة للشعرية العربية المعاصرة كما يحتم علينا تنسيب قيمها و كلياتها و ذلك بما يرفع من سهم الخصوصيات و المحليات و يجعلها تؤخذ بعين الحسبان و النظر. بهذا المعنى فقد أمكننا، و الفضل يعود للكتاب، أن نتعرف، من خلال قرائن و دفوعات لها صدقيتها، على ".. أن الشعر الموريتاني جزء مهمّ من الحركة الشعرية العربية في الوطن العربي يتفاعل معها في نفس الهموم و يسير معها في الإبداع الفني حيثما سارت دون أن يفقد أصالته و خصوصيته النابعة من البيئة و المجتمع و تعدّد المؤثرات و أنماط الاحتكاك مع ثقافات الشعوب الأخرى" (ص 282).

ليس هذا فحسب، بل و أمكننا أن نعاين كون ".. الظاهرة الشعرية الموريتانية الحديثة نشأت متأخرة عن شقيقتها المشرقية بقرن من الزمن تقريبا، و أنه جرت محاولة اختصار و عبور سريع إلى الاتجاهات و التيارات و الطروحات التي أفرزتها" (ص 275)، و فوق هذا أن نضع في الاعتبار عسورة ولادتها في سياق مجتمعي و سياسي و ثقافي ما انفك تحت إمرة التقليد و الاتباع، سياق تكرسه موازين قوى غير متكافئة بين رأي عام جمعي محافظ و نخبة مجتمعية و سياسية و ثقافية قلقة، متسائلة، و مهمومة بالتغيير و التحديث. و إيجابا كان صنيع المؤلف و هو يفرد، في نهاية الفصل الثاني، مبحثا مستقلا لإشكالية استقبال الشعر الموريتاني المعاصر و تلقّيه في الوسط الثقافي المحلي، في الحرم الجامعي و المنتديات و وسائل الإعلام، حتى نكون على بيّنة من شتى الضراوات الإيديولوجية و الأخلاقية و الثقافية و الإعلامية التي واجهت قصيدة موريتانية مختلفة عن السائد الشعري، كانت قيد التبلور، و نقيس حجم المعيقات التي كان على الشعراء المجدّدين مغالبتها و التصدي لها. و ما من شك في أن ما يتحلى به هؤلاء الشعراء المجددون من إصرار على صون و إنضاج قصيدتهم إصرارهم على تتبّع ما يجري شعريا، إن عربيا أو كونيا، و جملة التحولات التي تغشى المجال الموريتاني، المجتمعي و السياسي و الثقافي (15)، و تجعل منه أكثر ديناميكية و انفتاحا و إثارة لهي ما يضمن مزيدا من الإنجازات و العطاءات، الشيء الذي سيكفل التحاق الشعرية الموريتانية المعاصرة بالشعريات العربية المعاصرة الأخرى و التي حسمت أمر تأهيلها، بله شرعيتها، في وقت مبكر فاكتسبت بذلك حنكة أكثر و حظيت برواج أوسع.