بنعيسى بوحمالة
المغرب

مقاربة لـ / مقارنة بين
ديوان "كتابات خارج أسوار العالم" لمليكة العاصمي
و ديوان "آخر الحالمين كان" لسعدية مفرّح

-1-

بنعيسى بوحمالةالظاهر أنه في مقام كالذي يؤمّنا، نعنى منتدى آسفي المكرس للكتابة النسائية، لابد وأن نعاود مطارحة السؤال، المزمن والإشكالي في آن معا، حول موجودية كتابة شعرية مخصوصة من عدم موجوديتها.. حول مدى صدقيتها المعيارية، نصّيا وتخييليا ورؤياويا.. أي لابد من التساؤل عن حدود ناجزية لغة شعرية نسائية منفرزة النبرة والأداء، سواء بسواء، اقتصاد شعري مائز من حيث اعتماداته وإثماراته..عن حساسية شعرية نسائية تتمتع بإبرائية من الإفحام بمكان وبالتالي، عن تمثّل شعري نسائي مشبع أنوثة، أو لنقل مؤيقن أنثويا، للعالم..؟
وعلى أهمية هذه المطارحة فليس ما نبتغيه، هنا، استثارة التراث النسواني المثقفي الذي تتوزعه جغرافيات وثقافات عدة ويقترن بأسماء فكرية وإبداعية ذات ذيوع قومي، كالمصرية نوال السعداوي والمغربية فاطمة المرنيسي..؛ أو كوني كالفرنسية سيمون دي بوفوار و الأمريكية إنجيلا ديفز..؛ والذي قد يتخذ، في الغالب الأعم، ملمح بذخ متزيّد أو فائض حاجة في المجتمعات الذكورية التي تسودها إيديولوجيا الفحولة والتسلط والاستقواء، بل إن ما نوده، ببساطة، لهو التقاط النبض المستدق، إن شئنا، لكتابة شعرية تنتجها ذوات مبدعة أنثوية عربية، بمعنى كينونات منشرطة بهويتها الجسدية والروحية المسطورة، ومنفعلة، بقوة الأشياء، بمجريات واقع عربي رجّالي، عن الآخر، وبتعبير مواز التقاط قرائن متخيّل شعري رديف لمتخيّل شعري يؤول إلى خانة الذكورة وذلك ضمن تداعياتها المادية والرمزية المتراكبة. لكن ونحن نستعمل نعت "رديف" فمن باب التسخير الإجرائي ليس إلاّ ما دام الأصوب، في ضوء المعادلة المختلة، أصلا، بين حدّي الذكورة والأنوثة، القول بخطاب أو متخيّل شعري ذيلي أو رافد.. أو لم تنسلّ حوّاء، الأنثى الأولى السحيقة، من كيان آدم مثلما نلقى في النصوص الدينية؟ أو لم تنبلج منيرفا من ذهن زيوس، عظيم أرباب الأولمب، على نحو ما ترويه الميثولوجيا الإغريقية؟ هذا ولو أن اختلال المعادلة لا يعفي، مثلا، على ركنها المفارق الذي يشير إليه نموذج المجتمعات الأميسية في الأعصر القديمة وبخاصة المرتبة الرفيعة التي منحتها بعض الأمم والحضارات العتيقة للمرأة من مثال إينانا السومرية، الشقيقة السابقة على عشتار البابلية، التي جمعت، أسطوريا، بين وظائف الحب والزواج والخصب.. ووظائف الهمّة والبسالة والقتال !؟
على أيّ، واستئناسا منا بالمقولة النبيهة المأثورة للشاعر النمساوي الكبير راينر ماريا ريلكه التي يذهب فيها إلى أن الوظيفة الجوهرية للشعر هي التعرية، دونما هوادة، عن آفة الهشاشة بما هي القدر الأونطولوجي للذوات و التّوضعات والمصائر..؛ ومؤازرة الكائن في تعاسة انهشاشه -مماته الخاص، لربّما احتسبنا واحدا من مشخصات النص الشعري الأنثوي ليس فقط ما كان من مثول هواجس الجسد والرغبة و البوح والحميمية.. ممّا درجنا على اعتباره دوالّ مهيمنة على التخييل الشعري النسوي، بل واستفحال عنصر الهشاشة المذكور فضلا عن تحمّل الشاعرة عبء تفتّتها - تلاشيها العضوي والرمزي، هذا في ظل انتفاء، وهو أمر لافت حقا، ما يمكن وسمه بميتالغة خاصة، مقننة، ومسعفة في هذا النطاق أولى أن تستثمرها الشاعرات في نصوصهن والإعلان من خلالها عن تصورهن للكتابة و نواياهن بصدد القصيدة، اللغة، والخيال.. على شاكلة ما نلفي لدى شعراء، على ندرتهم، كسعدي يوسف ومحمود درويش وقاسم حداد ومحمد بنيس، وفّقوا، بهذا المقدار أو ذاك، في استدماج ميتالغات دالة في منتسج بعض من نصوصهم، و كذا اقتدارهن، أي الشاعرات، على الارتقاء بنصوصهن إلى مستوى اللعب الإبداعي الخلاق، الماكر، بله الراقص، بتعبير كلّ من فريدريش نيتشه ورولان بارت، اللعب على اللغات - السّلط الذكورية بلغة نزقة، مراوغة، لأن ما من لغة إلاّ و هي تمثّل، في الجوهر، سلطة فعلية و رمزية متنفذة.
لكن، وبصرف النظر عن هذا وذاك، فقد درجت الأدبيات الأكاديمية و النقدية والإعلامية على استعمال مفهوم الكتابة النسائية، تمييزا لها عن نظيرتها الرّجالية، سيان تعلق الأمر بالكتابة الشعرية أو السردية، وبمجرد ركوبنا للمفهوم إلاّ وتحضرنا أسماء عالمية أساسية ونصوص و خبرات ترسّم معها المفهوم و امتلك بداهة لا يطولها الاحتراز. ففي المجال الشعري قد تحضرنا الشاعرات: الروسية آنا أخماتوفا (زوجة الشاعر الرمزي الروسي أندري غوميليك)، و مواطنتها بيلا أخمدولينا، الأمريكية سيلفيا بلاث (زوجة الشاعر البريطاني تيد هيوز)، الشيلية غابرييلا ميسترال، اليابانية كازوكو شيريشي، البنغالية تسليمة نسرين، الكرواتية لانا ديركاك..؛ أما في المجال السردي فقد تحضرنا بالمقابل الروائيات: الفرنسية ناتالي ساروت، الأمريكية طوني موريسون، النمساوية ألفريدا يلينيك، الجنوب - إفريقية نادين غورديمير.
وعلى المستوى العربي قد تفضل الأسماء التالية النواة الصلبة للصوت الشعري النسوي: نازك الملائكة، عاتكة الخزرجي، لميعة عباس عمارة، فدوى طوقان، سلمى الخضرا الجيوسي، جويس منصور، ملك عبد العزيز (زوجة الناقد محمد مندور)، سنية صالح (زوجة الشاعر محمد الماغوط)، آمال الزهاوي، ميّ مظفر، مليكة العاصمي، فاطمة قنديل، ظبية خميس..؛ إضافة إلى أخرى تنتمي إلى الرعيل اللاحق: عناية جابر، جمانة حداد، آمال نوار، دنيا ميخائيل، آمال الجبوري، مرام المصري، مرح البقاعي، فاطمة ناعوت، ميسون صقر، فوزية السندي، سعاد الكواري، سعدية مفرّح، خلات أحمد، ثريا ماجدولين، عائشة البصري، وداد بنموسى، فاطمة الزهراء بنيس، نصيرة محمدي، آمال موسى..؛ اللائي يناظرن أخريات ينشطن في حقل السرد، إمّا في الرواية أو في القصة القصيرة، مثل غادة السمان، سميرة المانع، سحر خليفة، رضوى عاشور، هدى بركات، ليلى العثمان، سمية رمضان، فاطمة العلي، رشيدة الشارني، أحلام مستغانمي، خناثة بنونة، ربيعة ريحان..؛ هذا دون نسيان الأم الرمزية الكبرى، ميّ زيادة، التي كان لإقدامها الروحي والفكري والخيالي دور وأيّ دور في تمهيد سبل وانعطافات الكتابة النسائية العربية.

-2-

وإذن فإن ما نوده، تدقيقا، لهو الوقوف على أحادية المتخيّل الشعري النسائي، في الشعرية العربية الراهنة، أو تعدّديته وكثاريته، أي افتحاص فرضية المتخيّل المفرد أو المتخيّل الجمعي وذلك بالمقارنة بين تجربة شعرية نسائية مغربية (1) وأخرى كويتية (2) استطلاعا منا لما يمكن اعتباره تقاطعات/تصاديات أو، على العكس، تباينات/تعارضات، سافرة أو مستضمرة بين التجربتين، لها ما يفسرها تصوريا ويسوّغها نقديا، أو، لنقل، الوقوف، من يدري، على ما يليق وسمه بالواحد المتعدّد، ربّما، تماهيا منا مع اللغة المصطلحية للناقد السوري كمال أبوديب، الواحد المتعدّد الذي تعدّده جملة الحيثيات الجغرافية و التاريخية والمجتمعية و الثقافية و القيمية، وفي كلمة دعونا نتساءل: هل هناك كيان أنثوي واحد، وبالتبعية نص - متخيّل شعري أنثوي واحد هو الآخر، أم أن هناك كيانات أنثوية عديدة تضارعها، بالتالي، نصوص - متخيّلات شعرية عديدة هي الأخرى؟
وليكن منطلقنا هذا الملحظ الدالّ الذي يستقيم أمام عياننا بمجرد المقارنة بين الشرطين المجتمعيين لكلتا الشاعرتين. فالشاعرة المغربية مليكة العاصمي، تباشر الكتابة، التي تنتظمها تجربتها الشعرية في كليتها و ليس فقط في الديوان موضوع المقاربة، أولا، من داخل خصاص اجتماعي حاد، مضافا إليه أشكال ومظاهر لا تحصى من الحجز الأخلاقي، و، ثانيا، من داخل هاجسها الفكري الذي تؤشر عليه بعض من مؤلفاتها الفكرية (3) والسياسي الذي نستدل عليه بانضوائها الإيديولوجي والنضالي، منذ وقت باكر، إلى حزب الاستقلال، أحد الأحزاب الوطنية في المغرب. أمّا الشاعرة الكويتية فهي تكتب من داخل شرط الوفرة و الرّفاه الاجتماعيين، مردوفا إليهما، كما قرينتها المغربية، ألوان و صنوف لا تحصى من الإكراه الأخلاقي، بحيث إن ديكور الحداثة، أو بهرجه الصاعق بالأصح، وتسيّد هندسات التعمير الغربي واستشراء قيم الاستهلاك، لا تلغي سطوة التقليد والمحافظة وجماعا من المنظومات السلطوية المتجذرة التي تؤول إلى لاوعي ذكوري-بدوي، والحال ألاّ تحديث بالكامل ما لم يرفق بماهيات الفرد، الحرية، المسؤولية، الجدارة، التكافؤ المنابذة لأخلاقية القطيع بما تفيده من خنوع واستتباع وسلبية.
وعند تقرّينا لديوان مليكة العاصمي فنحن نلقاها تتمثّل العالم، توسلا بتفضية شعرية رامزة، نطاقا مسيّجا، متضايقا، ومحاطا بالأسوار، وما إلحاحها، فيما نرى، على لفظة "خارج" إلاّ شغف بمنطقة الخطر و المجازفة الرمزيين، أي بما وراء الحدّ وفقا لمنظور يوري لوتمان أو بأفق الانفساح والعراء ضدا على مقتضى التكوم والانحجاب، الشيء الذي ترجّحه المحايثة الملموسة لرمزية "الجدار" في متن الديوان، وذلك وفقا لتحليل غاستون باشلار، وفي المقابل فإن سعدية مفرّح تنحو، في ديوانها، منحى التعاطي مع العالم كمتاه أو، بالحريّ، كصحراء متراحبة، ملغّزة، حافلة بكل ما يبعث على القلق، الرهبة، الضياع، و الاندثار.
فالشاعرتان سوف تنيبان منابهما، كل من ناحيتها، في رحاب التجربتين الشعريتين اللتين ينهض بها الديوانان، أنا شعرية تتخذ صفة النواة الصلبة للتلفظ والتعبير الشعريين و تمسك بزمام استراتيجية تذويت جلية تروم ابتناء أسطورة ما للشاعرة واستجلاب ما به قوام مغالبتها للمحرمات المجتمعية والأخلاقية ومناوءتها للمسبقات والمفارقات والاختلاطات التي يحبل بها الواقع و ذلك بوصفها كينونة حرة، إلى أقصى حدود الحرية، مستشعرة، في ذات الوقت، أكداس الكوابح التي تلجم تحررها الجوهري، والتي ترتدي معنى الوباء، مثلا، لدى مليكة العاصمي، والتنافر عند سعدية مفرّح، لذا فإن كان البلسم الشافي من هذا الوباء يتجسد، في موقف الشاعرة الأولى، في المطر، ضمن إشارياته الرمزية المتعاضدة دلاليا من ارتواء و خصب وينوع وامتلاء وعافية، فإن الوثوق في الذات، منتهى الوثوق، لهو المخرج الكياني والأونطولوجي، في موقف الشاعرة الثانية، من دوامة تنافرات واقع كسيح ومن مطب تناقضاته القاتلة، وبطبيعة الحال فما من مكوّن معجمي، توليفي، أو عنصر إيقاعي، تخييلي في فضاء التجربتين إلاّ و سيوضع رهن جملة شعرية لا تتوانى عن اجتراح شبكة إيهامية - ترميزية تبئّر اصطراع الأنا، الشعرية، الملمع إليها، مع عالم مسوّر في "كتابات خارج أسوار العالم" ومع المتاه في "آخر الحالمين كان".
أما وقد وطّنت مليكة العاصمي مخيّلتها على مخاصمة عالم يتدثر، تنغيصا على أحلامها وتطلعاتها الهادرة، بهيئة قفص رمزي يصادر حلمية الكينونة الأنثوية وطلاقتها وحيويتها، مخلية، هكذا، السبيل لأناها الشعرية - قناع، كيما تدبّر فصول هذه المخاصمة و ترعى أطوارها فما من مانع لديها، البتة، في استقطاب بعض الأقلام الرّجالية النّيرة من النخبة الثقافية المغربية إلى صفّ قضيتها وانتزاع تعاطفها الدال مع شواغلها وتطلعاتها، التي هي شواغل الشريحة النسائية و تطلعاتها، ومن هنا عدم تحرّجها في تأثيث ديوانها بمجموعة من التقريظات، ستثبت في ظهر غلاف الديوان، لأسماء أدبية ونقدية وازنة (4)، كمحمد الصباغ و محمد السرغيني و إدريس الناقوري، بل و أن تعمد، تأجيجا منها لهذا المسلك الكتابي الموازاتي، إلى استهلال الديوان بكلمة، اختارت لها عنوان "رؤيا"، هي بمثابة ميثاق قرائي يأخذ بيد القراءة رأسا إلى الصميم من موضوع تجربة الديوان.
فالشاعر والناثر محمد الصباغ سيمنح تقريظه نبرة دعوة جماعية مفتوحة وملحاحة إلى الانغمار في تجربة الديوان قائلا:"تفضل، تفضلوا، مرحبا.

أدعوكم إلى حفل موسيقي للاستماع
إلى سمفونية "القدر يقرع الأبواب"
للاستئناس بها داخل "الأسوار".

أمّا الناقد إدريس الناقوري فسيلجأ إلى اعتبار ""كتابات خارج أسوار العالم" صرخات تطلقها قصائد الديوان في وجه الجدار متحدّية صمت الواقع وتكلّسه وما كرّسه من صنوف الخنوع وألوان الخضوع. إن قضية الشعر هنا هي التغيير والتطلع إلى الأفضل، لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ يطرح الديوان القضية في أبعادها الثلاثة عبر أطراف الصراع: فالذات المحرّضة، الداعية إلى اليقظة والبعث، المبشرة بالخلاص تصطدم بالجموع المستكينة وبالجبن والإنكار وصفاقة الواقع. والنتيجة هي الإحساس بالخذلان والإحباط. على أن الشعور بالحزن والعجز حتّى، لم يمنع الذات من مواصلة السير ونشدان الحلّ، لذا قرّرت أن تخلع الثياب المهترئة وتستبدل الاسم لتدخل في عهد جديد وتضطلع بمهمّتها وتضع الجموع على طريق التاريخ. قرّرت الذات أن تكون مطرا يهمي فيبعث الحياة والخصب والأمل. ألم تكن تلك مهمة الشعر منذ أقدم العصور؟ ".

وإذا كان هذا شأن الكلمتين المرفقتين فما الذي يمكن توقعه من كلمة الشاعرة التي تكثف، في غير قليل من الشفوف والاحتداد، معتنقها الرؤياوي القائم في ثنايا تجربة الديوان والذي ينصب في شمولية التحرر الإنساني لأن تحرّر الرجل من إرغامات البؤس والظلم والمهانة يفضل، مثلما ترى الشاعرة، المدخل الطبيعي إلى تحرر المرأة ونيلها لحقوقها المستحقة. فهي تصرح، دونما مواربة أو التفاف، بأنه "يجب أن نتعلم كيف نرفض أن تداس إنسانيتنا. الكرامة قبل كل شيء والكرامة لا تتحقق إلاّ بالرفض والثورة. في الإنسان، كلّ إنسان، جذور عميقة للأنانية والاستغلال، لكن ما دامت هناك عناصر قابلة لهذه الإهانة وهذا الاستغلال هناك دائما سيّد ما دام هناك عبد (…) دورنا في هذا العالم كدور المصارع، يجب أن نكون على استعداد دائم للكفاح من أجل الحصول على حقوقنا ضد قوى الظلم الكثيرة، وضد أنواع الحرب المختلفة التي تحطم قوى الإنسان في هذا العالم المتحضّر".
وإذن في كنف عالم منغلق يأخذ فيه المعيش الإنساني طعم الوباء أو الجائحة تلتئم خيوط مأساة أنا شعرية ترى في سقمها وكدرها وانهيارها جزءا لا يتجزأ من وهن تاريخي وسياسي.. من تختر مجتمعي وأخلاقي كاسحين يستبدان بالأجساد والأرواح ولا يسفران سوى عن حالة مسخ أقرب إلى اللامعقول أو السريالية تتغذى على مثالب السخرة والرضوخ والهوان:

الداء ينتشر
داء التّحامر
ينفثه المريض في النهيق
أعراضه: أن يتبلّد الإحساس،
ثم تموت النظرة الحنونه،
وتستطيل الآذان،
وينبت الشّعر على الجلود،
ثم يصير الشخص من فصيلة الحمير،
يليق للركوب،
يحمل أثقال السادة الكبار
يظل خانعا، و ظهره مطيّة للآخرين،
وينقل التراب و الحجر،
والجير والمتاع
………………………
لهفي عليك أيها الشعب الحزين
يعمّ داء العصر
يقتل كلّ إنسان بهذا العصر.
- قصيدة "الوباء"، ص 40 - 41

حيال عالم مجتفّ، متيبّس، و طاعن في إنهاك الذوات وتدمير الأرواح ليس هناك أنجع من رمزية المطر، لكن من جنس المطر الأسطوري الذي لا يبقي ولا يدر، في إنقاذه من إفلاسه الرمزي، إعادة ابتعاث حيويته الخلاقة، ومصالحته، بالتالي، مع معاني الرواء والنضارة والأريحية، أي تأهيله، مجازيا، لصالح معيش يليق بالكائن الإنساني ويتاح معه للأنا الشعرية أن تتجوهر في اللب من هويتها الوجودية الأصيلة وجبلّتها الكيانية المهدورة:

غيرت اسمي منذ حين
حينما العواصف
تقذف الأغصان للأغصان،
حينما الرياح
تسوق من فوق المحيط كتلة السحب
لتنزع الأحزان من فوق الزهور
سميت نفسي كالمياه تنظف الأغصان و الشجر…
وتكنس الأدران في القلوب
والثياب و الحجر…
قررت أن أدعى…
"مطر".
- قصيدة "اسمي مطر"، ص 56 - 57

ولئن اختارت مليكة العاصمي إدراج كلمات لأسماء أدبية ونقدية رجّالية في المدار القرائي الشامل لتجربة الديوان، بالموازاة من هذا ستنزع سعدية مفرّح، من باب الإرفاق النصي أو الفني، إلى تدشين الديوان بإهداء هذا منطوقه:

"… إلى
نخلة شامخة، ورجال طيّبين
هي أمي، وهم إخوتي".

أمّا محموله فلا يحيد عن التوكيد على ولاء الشاعرة، ذهنيا ووجدانيا، للنساء، كافة النساء، اللائي تختصرهن أمها، والرجال، سائر الرجال، الذين يختزلهم إخوتها، سواء بسواء، وفحوى هذا أنها، أي الشاعرة، لا تفصل همومها كامرأة عن هموم كلية المجتمع الذي قد يقهر نساءه ويعنّفهن جراء وقوع أفراده أجمعين تحت نير قهر وتعنيف أنا عليا، تاريخية ومجتمعية وأخلاقية وثقافية، تنتج عنهما جملة من الاختلالات و التفاوتات والانقصاءات التي يا ما تكون الشرائح الهشة، وفي مقدمتها النساء، عرضة لها وأكثر اكتواء بمفاعيلها.

بينما ستلجأ، في متن الديوان، إلى خفر القصائد بمجموعة من الرسومات والتخطيطات، المؤطرة برؤية تشكيلية ذات مضمون تجريدي - سريالي، للرسام سامي البلشي، وهو مسلك إخراجي دال لكونه يحلّ محلّ مجاورة، وعمقيا تفاعل و تبادل، خطابين فنّيين لكل منها أدواته وأساليبه ومقاصده بيد أنهما يستلزمان، بأثر من هذه المجاورة، أخذ وارد التّضعيفات الدلالية والتخييلية والرؤياوية المثمرة بعين الحسبان.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحقيقة حتى والشاعرة تستنكف عن افتتاح ديوانها، على شاكلة مليكة العاصمي، بكلمة - مفتاح، مركزة، قد لا تخلو، بحال من الأحوال، من مردود توجيهي ما لفاعلية القراءة والتأويل والاستخلاص واكتفت، على نحو ما أشرنا، بإهداء لا يعدم فائدته، لا منطوقا ولا محمولا، ضمن السياق العام لتجربة الديوان، ففي حوزتنا العودة إلى بعض من مقالاتها أو حواراتها و الاجتزاء منها بأقساط يسيرة لنلفيها تصدر عن ذات الاعتناق الفكري والروحي الذي تخدمه هذه التجربة. وعلى سبيل التمثيل فقط لا بأس في أن نمعن النظر في ما تقوله، ضمن مقالة لها بعنوان: "شغف شخصي يقترحها فضاء ثالثا.. قراءة في افتتاحيات نوري الجراح لفضاءات "الكاتبة""، منوهة بالدور الثقافي والرمزي الذي كانت قد أسدته، في فترة ما، مجلة "الكاتبة" النسائية العربية ومستثمرة المناسبة للتنصيص على أن "… الثقافة في مجتمعاتنا (…) لن تعتق نفسها بالتأكيد قبل أن تعتق المرأة العربية من قيودها بأشكالها المتعددة وتجلياتها المختلفة (…) لكن السؤال الحقيقي المطروح من بين ركام الأسئلة المتصلة بذلك يقول: هل نحن بحاجة إلى مشروع "كاتبة" منفصل عن "الكاتب"، بما يحفظ خصوصية المرأة ؟! أم أننا في معركة لا تسمح لنا بهذا التمايز، خصوصا وأننا منذ مائة سنة لازلنا نعيش مطمئنين في مرحلة الحداثة الأولى ؟ " (ص 7 - 9).

ولتمرير هذه الحساسية وهذا الانفعال سيستقر ناظرها الشعري، في أحياز بعينها من متن الديوان، على ركوب نفس منحى قصيدة مليكة العاصمي القائمة على عنصر الإيقاع التفعيلي و عاملية البناء والتخييل المستمدة من جماليات القصيدة العربية الجديدة التي أرستها شعرية الريادة، وفي أحياز أخرى منه على استثمار نموذج قصيدة النثر الآيل إلى الموجة التحديثية الثانية في الشعرية العربية والذي يجد أجرأته الكتابية في الإشاحة عن الإيقاع التفعيلي ورتوبه النغمي، إبدال الانسراح النصي بنوع من الكثافة والانضغاط والإيجاز ممّا تأخذ معه الجملة الشعرية ملمحا شذريا واضحا، والاحتفاء بمواظفات الحكي والتداعي والاستذكار والسخرية والمفارقة.. في شعرنة المواقف والحالات والتّوضعات.. التي تغشى أنا شعرية شقيّة موزعة بين همّها الفردي والهمّ الجمعي ويغلفها، أو يكاد، يأس ضاغط، تاريخي وثقافي، من قيام مجتمع منصف قد تستعيد فيه المرأة، المرأة إطلاقا، جدارتها، بله إنسانيتها. ولعل مجرد إلقاء نظرة عجلى على بعض عناوين قصائد الديوان قد يمدنا بجرعة من هذا اليأس الذي يخالطه شيء من الاستذمام إن لم نقل الهزء المرير على نحو ما في مكنتنا استشفافه، مثلا، من هذه العيّنة من المدونة العنوانية: "لم يكن فارسا"، "اعترافات امرأة بدوية"، "فشل"، "ضيق"، "قبيلتي"، "وحدة"، "حوار من طرف واحد"، "الأوتاد تموت انتحارا".

ففي عالم متاهي، صحراوي، متراحب، ملغّز، وحافل بكل ما يبعث على القلق، الرهبة، الضياع، والاندثار لا ينحصر خسران الأنا الشعرية في معاني الجدارة والحرية والتكافؤ.. بل وتتبدد أيضا حتى الالتماعات البارقة التي قد تبزغ أحيانا في سديم مجتمع ذكوري- بدوي لا حدود لسلطاته السافرة والخبيئة، التماعات قد تتجسد، ولم لا؟، في رجل حالم لا يشبه الآخرين، رجل من سلالة نادرة يبتلعها الغياب لكنه يعطي، قبل تواريه، الأمل في ممكن تعايش أبهى، أنبل، وأرقى بين الرجل والمرأة:

آخر الحالمين كان
بموت الرمال التي توّجتها حكايا الطيور
وهي تغادر شطآنها نحو ظمأ الأعالي
ورهج الغيوم الشقيّه
آخرهم كان
بانتحار الأغاني التي أيبستها رياح التحول، أنضجتها من
فوق جمر التكوّن، بدء التكوّن في قافلة الضوء الجديد
أسكنتها بطون التلوّن بين الصراخ و الحشرجات التي كانت
تصادرها آذاننا و أضلاعنا و أحلامنا و أقلامنا و تملؤها من
بقايا صديد
من بعيد…
- قصيدة "آخر الحالمين كان"، ص 15

لكن رغما من فداحة الخسران و انسداد الأفق تظل الأنا الشعرية مستميتة في الدفاع عن هويتها الأنثوية والانتصار لممكنها الجسدي والروحي المطمور، وبتعبير آخر تظل مستنفرة لكامل قواها، معتدّة بنفسها، واثقة في أنوثتها، و، بالتالي، في اقتدارها على الاستمساك بحلم تحقّقها الكياني والأونطولوجي، الجميل، الممتلئ، والخلاق، وليكن من داخل برهة عشقية حميمة ومعتنفة، وما أغزر مشهدياتها في الديوان، تنفصح معها المشاعر والأبدان انفصاحا لا مجال معه للتلعثم أو الاصطناع وتسود فيها لغة بكر، صافية، وعارية من أيّما انتواءات، لبوسات، وتقننيات تماما كما العراء الذي ابتغاه شارل بودلير، الأب الروحي للحداثة الشعرية، بصفته انجرادا أقصى من سائر الملبوسات - التقنيعات القيمية الزائفة:

في أفق شفاف لا يتكلم
ما شأني به
وأنا أملك هذين الكونين ؟
فالصمت سلام و أمان
ثوب شفاف تلبسه اللغة العارية لتزداد به عريا
لون آخر
ليس له ألوان
بل لغة أخرى
لا أحرف فيها أو كلمات
لا أسماء و لا أفعال و لا أصوات
لا نلحن فيها أبدا
لا نخشى غضب النحويين الحمقى
المشغولين برفع الفاعل
أو كسر المجرور و نصب المفعولات
فقط الحب هو الفاعل
فقط القلب هو المفعول.
- قصيدة "عندما يتكلم الطير"، ص 26

أفليس الحب فسحة لتكافؤ الذوات العاشقة و انغمارها وتفانيها في بعضها البعض ؟ بل أو ليس العالم المستحضر في تجربة الديوان، على شسوعه اللاّيحد، أضيق من أن يقسّط، فعليا ورمزيا، بين كينونتين لا تقبلان الفرقة والانفصال ما دام قدرهما التّحاب و التّوادد:

رجل و امرأة ؟
إنكم تعمهون
إن ما بيننا
لا يتسع لواو العطف !
- قصيدة "ضيق"، ص 89

- 3 -

ما قمنا به في هذا المقترب المقارني لهو نوع من جس نبض تجربتين شعريتين لشاعرتين عربيتين ليس إلاّ وذلك لكون المقام لا يسمح بما هو مأمول من توسع وإفاضة. ولقد تقصدنا أن يكون انتماؤهما الجغرافي مختلفا، واحدة من بلد في أقصى المشرق العربي والثانية من بلد في أقصى المغرب العربي، سعيا منا إلى اختبار الأدوار المحتملة التي قد يلعبها عامل الجغرافيا، و ضمنيا التاريخ والاجتماع والثقافة، في إنتاج نص -متخيّل شعري أنثوي واحد أو نصوص- متخيّلات شعرية أنثوية عديدة. وممّا لا شك فيه أن تحليل التجربتين بقدر ما يقنعنا، بهذه الكيفية أو تلك، بالحضور الثابت لكتابة شعرية نسائية عربية منفرزة النبرة والأداء فإن هذا الاعتبار لا يكفل، في ذات الوقت، الحديث النقدي المطمئن عن متخيّل شعري نسائي واحد، جاهز، منمّط، يعاد إنتاجه حذافيريا بصرف النظر عن الأصوات الشعرية النسائية وخبراتها الشعورية والحياتية المحكومة باشتراطات الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والثقافة. وفي الحالة التي رأينا لم نكن لنتوقع تطابق نبرتين وأدائين شعريين لشاعرتين واحدة منهما تكتب، كما أوردنا، من داخل نقمة الخصاص الاجتماعي بينما تكتب الثانية من داخل نعمة - نقمة الوفرة والرّفاه الاجتماعي ولو أنهما تتشربان عين الانحجاز الأخلاقي بما هو نصيب المرأة في أيّما مجتمع ذكوري، بل ما كنا نرجّحه هو محايثة جملة من التشابهات أو التناظرات على أكثر من صعيد بحكم هويتهما الأنثوية الموحدة.

إن الوعي الباطن الممسك بتلابيب التجربتين يبقى، خارج السطح التعبيري وتضاريسه الناتئة، موصولا بجرح الانهشاش- الممات الذاتي، الذي يأخذ أكثر من وجه وسمة، والذي تحياه المرأة ضمن أية ثقافة ذكورية منغلقة وغير متسامحة، ويكفي أن الشاعرتين، كل من موقعها الشخصي، قد تحمّلتا، بغير قليل من التجاسر الجسدي والروحي، ثقل تفتّتهما -تلاشيهما العضوي والرمزي والالتفاف عليه بالمفردة الشعرية البليغة، بالتوليف المتماسك، وبالتخييل الضارب في آفاق استعارية ومجازية بديعة ومتأنقة. وريثما يتأتى للشاعرات، والكاتبات العربيات عموما، أن يحظين بغرفة فرجينيا وولف الحلمية، أي بوطن رمزي مخصوص للكاتبة وموقوف عليها، حسب الشاعرتين انخراطهما الآني في عنت الكتابة، وما أدراك ما عنت الكتابة، ومجاهدة ضراوة اقتضاءاتها الفاتكة ولو عبر الإقامة المكلفة، المضجرة، ما في ذلك ريب، في خيمتين رمزيتين، خيمة العمل الفكري والسياسي بالنسبة للشاعرة مليكة العاصمي وخيمة العمل الإعلامي بالنسبة للشاعرة سعدية مفرّح.