بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

تلك صورته.. و هذه سيرة القصيدة:

بنعيسى بوحمالةجرى ذلك، على ما أذكر، أواسط عام 1983، على هامش ندوة القصة العربية القصيرة التي انعقدت بمدينة مكناس بتنظيم من اتحاد كتاب المغرب، لما رأيت الشاعر رؤية حية، مباشرة. كان لقاء مهيبا بكل المقاييس بحيث انحشر عدد لا يحصى من عشاق شعره، قدم بعضهم من مدن مغربية أخرى، بينما اصطف في صدر القاعة جمع من ألمع الكتاب و المبدعين العرب، منهم محمد برادة، مصحوبا بزوجته ليلى شهيد، و إدوار الخراط، و غائب طعمة فرمان، و برهان الخطيب، و هاني الراهب، و إلياس خوري، و يمنى العيد، و كمال بلاطة.. كان اللقاء أشبه ما يكون، بطقس، بقداس آيل إلى الأزمنة الغابرة: الحضور صامت، بله متخشع، وكأنما أصابه مسّ، و الشاعر ينشد، متألقا، متوهجا، ممتلئا، ينشد ملحمته المزلزلة "مديح الظل العالي"، و يمعن في تأميم القاعة، فضاء و منصتين، بنبرة قرائية متعالية تستحث في الذهن سلالة المنشدين الكبار في تاريخ الشعر الإنساني: هوميروس، لو يو، الأعشى، المتنبي، الجواهري، أدونيس، عبد الرزاق عبد الواحد، غارسيا لوركا، تيد جونز، إيمي سيزير، ألان غينسبرغ، يفغيني يفتشنكو، بيلا أخمادولينا، سيرج بّي..
لقد كانت لحظة استثنائية بالنسبة لي، لحظة لسيادة الكلام، الشعر، والإنشاد، و في كلمة واحدة لسيادة الجمال. إنها، بتعبير مواز، لحظة من جنس اللحظات الوجودية الأصيلة التي تنبثق من صلب غبار الأرض، مثلما تحدث عن ذلك الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، ذلك أنه بقدر ما تنزع الأرض بالكينونة منزع تضاؤل و انطماس يعمل الفن، و منه الشعر، على انبثاق هذه الكينونة، على مصالحتها مع شرطها الوجودي الأصيل. لكن قبل أن يكون لهذه اللحظة مفعولها الروحي في كياني، باعتباري منصتا من بين آخرين، فهي، عمقيا، إحدى لحظات التجذر الوجودي الخلاق ليس للذات الشاعرة / القارئة و كفى، بل و لهوية وطنية بأسرها كان الوجدان العالمي، و النزوح الثالث، التراجيدي، عام 1982 للشعب الفلسطيني، بعد نزوح عامي 1948 / 1967، من بيروت المحاصرة إلى مغتربه القرطاجي، ما برح طريا، قد اختزلها في مجرد شعب من اللاجئين. يقوى التاريخ، كما الأرض في التأمل الهيدغري، على إبطاء، إن لم يكن إعاقة الانبجاس الهوياتي لشعب ما، سوى أن الفن، و منه الشعر ، هو من يقوى على مطاولة مشيئة التاريخ، على تفنيد إملاءاته، و يفسح لاسمه الرمزي الفارز بالتشكّل، و لتطلعاته الدفينة أن تنبلج في منتهى عافيتها الأونطولوجية.
و أنا في غمرة تلك اللحظة المتنائية لم تنقطع صورة الشاعر المنتصب قبالتي، قارئا بصوته و بجسده في آن، الشاعر و هو في الأوج من فتوته البدنية و النفسية، عن الإلحاح عليّ بنثار صورته الأخرى، الأقدم، التي ياما اقتاتت عليها الصحافة الأدبية العربية خلال الستينات و السبعينات: أقصد صورة الشاعر الشاب، الغضّ، النحيف.. ذي الشعر النافر.. اللصيقة عيناه بنظارة طبية، و هي الصورة التي ستغدو قرينة أساسية لأسطورته، بالمعنى البارتي للكلمة، التي وضبها له المتخيل الثقافي العربي، أي أسطورة شاعر الأرض المحتلة الذي أخذ بزمام خرجته الشخصية، الموسوية المضادة، من مسقط الرأس، الأرضي و الرمزي، "البروة" الجاثمة على مرمى حجر من عكا، ياقوتة أرض كنعان، إلى أين؟ في اتجاه مصر المحروسة، و ياللمفارقة، أي إلى من حيث خرج النبي موسى منذ قرون ببشر مضطهدين (بفتح الهاء) لن يتأخر التاريخ، تاريخهم، عن أن يلقي في بالهم الجمعي ألاّ ضير في أن ينقلبوا بدورهم إلى مضطهدين (بكسر الهاء)، و أن يسلّوا مزاجهم المرهق، جراء السفر، باضطهاد ذرية كنعان، مستخدمين آخر تكنولوجيا التطهير العرقي والثقافي، هناك في أرض الرب الموعودة !
قبل تلك الخرجة الدالة و بعدها، بمعنى و الذات الشاعرة في اللب من الرزء الوطني الباكر، لم تكن القضية الفلسطينية، على نحو ما عنّ لتفكير جان بول سارتر الشقي، قضية اصطراع بين عدالتين متكافئتين، و إنما كانت، بالأولى، و هي لا تزال كذلك قضية تنازع بين مضطهد (بكسر الهاء) و مضطهد (بفتح الهاء). أثناءها كان المجال العربي منفصح اللسان، من حيث الأهواء الإيديولوجية و الولاءات السياسية، حد البراءة: اليمين يمين و اليسار يسار، الثورة ثورة و الاستسلام استسلام، المعتنق القومي العربي في مدار و الأصوليات الوطنية المختلفة في مدار آخر.. بل و حتى المحيط الدولي كان على قدر من الاتضاح: اتخاذ تقاطب القوتين العظميين وجه حرب باردة ترين يمناخها المرعب على سكان المعمور قاطبة.. برلين الشرقية و برلين الغربية.. اقتصاد الرفاه أو اقتصاد الكفاف.. إرادة الاستعمار في مواجهة الحق الثوري.. فاشية سالازار مقابل تقدمية ماوتسي تونغ.. و من ثم فقد كان الشاغل المركزي، و الوضعية المحلية والعربية و الإنسانية منكشفة المعالم و القسمات، هو رفع نازلة اضطهاد لا يتوقف ممارسوه عن تطوير أدائه و أشكاله و استزراع الأمل في ذاكرة شعب مقتلع من أرضه و تاريخه.
في غضون توضّع كياني جمعي عنوانه الاضطهاد سوف لن يكون عصيا، إذن، على وعي الشاعر / الفتى، الذي كانه، أن يدرك، من فوره، ما تحوجه قصيدة البدايات على وجه الإجمال: فالأولوية هي، من حيث المبدأ، للشاغل الوطني، أما التأنق الجمالي فلا غضاضة في إرجاء أمره إلى حين. في هذا المساق تخلقت مجاميع: "أوراق الزيتون"، "عاشق من فلسطين"، "آخر الليل"، "حبيبتي تنهض من نومها"، "العصافير تموت في الجليل"، "أحبك أو لا أحبك"، "محاولة رقم 7"، "تلك صورتها و هذا انتحار العاشق". إن الوطن كتلة تراب و ليست جسما طائشا في الهباء، و لأن الأمر كذلك ستوطن القصيدة، ساعتئذ، على تعضيد تعالق الشعري مع الأرضي: فالمفردة الشعرية كانت مدعوة، و بقوة، إلى الانغراس في تربة أرض مصادرة و المتح من لغة بيارات البرتقال و حقول الزيتون و كروم العنب.. كانت مطالبة بالسياحة في مدائن الخليل، بيت لحم، الناصرة، القدس، و تهجية هامات الأنبياء و الكهان و الحكماء و الحالمين، و تشمّم عرق المحاربين الكنعانيين القدامى العظام، الوديعين.. أن تمجد مرقد إبراهيم، كنيسة القيامة، زقاق الجلجلة.. أن تحدج بنظرتها الرؤوم القوامات الباذخة للجدات السحيقات.. كانت ملزمة بتغوّر بلاغة الأسطوري، المقدس، و التاريخي، باستنصات الميثولوجيا الكنعانية و المحكي الإنجيلي.. كان عليها أن تدمن استذكارها لأمومة رمزية وحدها الأنا الشعرية من تدرك فداحة افتقادها، و تصون نكهة قهوة صنعتها يدا أم ليس مثلها سائر الأمهات، نكهة لا تتوانى عن تبديدها النكهات المتشابهة لمرطبات - منغصات مقاهي المنافي الباردة.
و بصيغة رديفة سيكون على المفردة الشعرية، و هو ما ينطبق على المجاز الشعري أيضا، أن تركز نشاطيتها التعبيرية على تفعيل استراتيجية متماسكة للحنين الروحي إلى مسقط رأس أرضي و رمزي غير قابل للإلغاء ، و أن تشكل، كنتيجة، رأس حربة تمرين غواري، استشهادي، طويل الأمد و باهظ الكلفة، تباشر معه الشبيبة الفلسطينية الحانقة إجادة فرقعة قنابل المولوتوف، و إتقان تصويب قذائف الكاتيوشا، و التوقح القتالي على الغطرسة العسكرية الإسرائيلية، الطبعة الحديثة، المنقحة و المزيدة، للغطرسة الآشورية و شقيقتها الرومانية. و إذ هي، أي المفردة الشعرية، تحرض و تؤازر.. تنبئ و تبشر.. تحتفي بشقائق النعمان و تجنح بإشاريتها، و بالمناسبة ليس ثمة من شاعر عربي معاصر، فيما نرى، بلغ مبلغ كلّ من بدر شاكر السياب ومحمود درويش في الاعتناء بشقائق النعمان، هذه النبتة الخرافية الدامية، و الإفراط في استثمار رمزيتها، إنها و هي تفعل هذا كله لا تني تستبصر، في الجوهر، طلعة بعل، إله الخصب الكنعاني، من العتمات، وذلك بتصميم من آنات، عشتار الكنعانية، زرعا و نضارة و ضياء بما هي المضارع المجازي للحق و الحرية و الكرامة في لاوعي القصيدة، المنضوية، دونما قيد أو شرط، إلى الرؤيا الشعرية التموزية.
على أن انكباب القصيدة، ضمن هذا الطور من سيرورتها، على خدمة هاجس نوستالجي مكين يتوسل بالثورة و بالعنف من أجل استعادة الجدارة الوطنية لم يجعلها تسقط من حسابها أبدا، خاصة و الأمر يهم شاعرا موهوبا له ما يكفي من المؤهلات المعرفية و الكتابية، مختلف الوسائط و الممكنات الأسلوبية التي في مكنتها الارتقاء المتواصل بأدائها و تدريج منسوب شعريتها. و هكذا فلئن كانت المجاميع الشعرية المذكورة قد تجاذبت نصوصها، في تفاوت لا تخطئه القراءة، حاجتان اثنتان شرعيتان، واحدة نضالية و الأخرى جمالية، فممّا لا شك فيه أن الدواوين الموالية، مثل "مديح الظل العالي"، "حصار لمدائح البحر"، "هي أغنية، هي أغنية"، "ورد أقل"، "مأساة النرجس، ملهاة الفضة"، "أرى ما أريد"، وبصفة أخصّ الدواوين المتأخرة ك "أحد عشر كوكبا"، "لماذا تركت الحصان وحيدا "، "سرير الغريبة"، ثم "جدارية"، تؤكد، بما لا يدع مجالا لأيما احتراز كان، أن شاعرا، من طينته، معتنقا، بما يشبه الوثنية، لسؤال الشعر لقادر، من غير أن يتنصل و لو لدرة من نكبة شعبه، على المواءمة النابهة بين سطوة الأنا الشعرية و تعددية الضمائر الشعرية، بين صرامة التفعيلة وبين دفقان التلفظ الشعري و سيولته، بل و أن يفحم عن قريحة و معرفة الدعوى المتهافتة إلى إبدال قصيدة التفعيلة بقصيدة النثر، بين التخييل الكلياني و بين تشذير الوقائع و مفصلة السرود و تدقيق المحكيات.. قادر، بالتالي، على منح الشكل الشعري الغنائي كامل جاذبيته القرائية و التذوقية، تماما كما قدرته على الإيفاء بالمستلزمات النصية للقصيدة الملحمية و باشتراطاتها الجمالية، أي اختراق المنطقة الأعوص في التعبير الشعري و التحرش بعسورة التوليف البنائي المديد النفس،و الزج بالمخيلة، المهتدية لزوما بالنماذج العليا في الكتابة الشعرية المحسوبة على ثقافات متباينة، في استشكال تخيّلي واستبصاري يستلزم وافر الحساسية لتدبّر إكراهاته و تصاريفه واستعدادا واثقا، كذلك، للمجازفة بمطلق أرصدة الذات الكاتبة. و إذا كان لابد من التأشير على أمثلة في هذا الباب حسبنا أن نمثل ببعض من قصائده الطويلة الذائعة: "سجل أنا عربي"، "أحمد الزعتر"، و "مديح الظل العالي".. التي هي بمثابة عناوين دامغة في تراث الحداثة الشعرية العربية.
أمّا و أنا، في السنين الأخيرة، في مضمار لحظات قرائية، متقطعة، سيان لدواوينه أو لدراسات عن شعره في مظان أكاديمية و صحفية متعددة، فأجدني غالبا بإزاء صورة أخرى، بديلة، للشاعر تكاد تعفي، بسبب من تغايرها الحاد، على صورته الأثيلة التي ترسخت في ذاكرتي و ذاكرة جيل بعينه من قراء شعره و متتبعي أعماله: فهذه الصورة، أي الأخرى البديلة، تنم عن اكتهال، عن وهن، و عن تفاحش شديد لمخزون الحزن في دخيلة الشاعر، و لكون أيّ شعر متقدم إلاّ و يوطد التواشج بين الشاعر وبين أسطورته الشخصية فإن أي اقتراب سيميولوجي عميق من عالم محمود درويش الشعري لا يصح له، البتة، التغافل عن الصورتين الموصوفتين كلتيهما، باعتبارهما بوابة أسطورته، أو التهوين من قيمتهما العلامية. و حينما زعق الشاعر، ذات زمن ما، برما، محتجا: "انقذونا من هذا الحب القاسي !"، أو عندما صرح، مؤخرا، بأنه ".. ليس مراسلا حربيا للقضية الفلسطينية.."، فما ذلك إلا تعبير منه، و إلفات في آن، عن/ إلى خلل مأزقي في مسطرة التقبل النقدي و القرائي لشعره، و شعر زملائه الآخرين، بحيث يجري تغليب المقتضى الوطني في شعره على المقتضى الجمالي. مسعى كهذا لا يمكن أن يؤوّل إلاّ كوعي مقلق بتضخم أسطورته لدى متداولي شعره و خوف من تشويشها حقيقة مشروعه الشعري المفتوح على مزيد من التجريب و التجذير. إن الشاعر لمحق، تمام الحق، في إبداء قلقه و خوفه على شعره، لكن الظاهر أنه عاجز، و سيظل كذلك، عن تبديد صورتيه المتباعدتين، أي عن سحب فصلين من فصول تاريخه / شعره، و ضمنيا تاريخ شعبه، إذ كل شيء مودع في قسمات الصورتين المتفارقتين اللتين كرسهما الإعلام الثقافي العربي كمعبرين متوازيين إلى أسطورة شخصية واحدة متنفذة، غير مسبوقة في الشعر العربي المعاصر إلاّ بأسطورة بدر شاكر السياب، أبيه الشعري الروحي. و إذا ما كانت أسطورة هذا الأخير التي صنعتها الآلة الإعلامية و الثقافية العربية، بدءا من الخمسينات، فوجدت قبولا سحريا لدى الإنتلجنسيا و شرائح واسعة من القراء العرب هي، بصرف النظر عن منجزه الشعري الذي تكثفه قصيدته المذهلة "أنشودة المطر"، أسطورة الشاعر الذميم، المهزول، السقيم، الخائب عاطفيا، الفقير، المشرد، المنفي، المرتد عن الشيوعية، الميت ميتة مأساوية، فإن أسطورة محمود درويش تتغذى على جملة معطيات منها كونه شاعر الأرض المحتلة، الوسيم، المفوّه، المقتلع من رحمه الأرضية و الرمزية.. ثم الشاعر المكتهل، الواهن، الحزين، المستخلص من محنة مرضه القاسية أن قدرة الجسد تبقى أدنى من جموح الروح، و قبل هذا و غيره كونه الشاعر العائد إلى أرضه، المدرك، أكثر من أيّ كان، للذاذة هذه العودة ومشقتها، لحوافزها و تبعاتها دفعة واحدة.

هذه صورتها.. و ذاك شأن القصيدة:
على مدى المسافة الزمنية بين الصورتين لم يكن محيّا الشاعر من تبدل بمفرده و صار من هيئة إلى أخرى، بل و أيضا فلسطين و العالم معها. فقد تبدلت الأشياء تبدلا كاسحا: تغايرت الجغرافيات و التواريخ، التبست المواقع و المصائر، و اختلطت الأسئلة و الأفكار، و في حالة الشاعر وأرضه، بالتحديد، سوف تثمر تفاعلات اللعبة الدولية تلك المصافحة، التي شهدتها حديقة البيت الأبيض بواشنطن صيف عام 1993، و التي لم يكن أحد يتصورها، نوعا من انفراجة، مقيسة بالميليمتر، أريد بها اختبار إمكانية إبطال خطر ما كانت تسميه مراكز القرار السياسي و الإعلامي الغربي إرهابا فلسطينيا و تدجين ضغينة شعب موزع بين الاحتلال والشتات، أهين أكثر من اللازم و حرم لوحده بين كافة شعوب الأرض من حق تقرير مصيره، و ذلك عبر ما عرف باتفاقية غزة - أريحا أولا.

العودة من أين إلى أين ؟!
أن تسارع القيادة السياسية الفلسطينية إلى استلام جزء ضئيل من الجغرافيا المغتصبة و تقبل بامتيازات سيادية مقزمة فهذا لممّا ينسجم مع التفكير السياسي الذي يستحكم فيه الوازع البراغماتي و ليس الطوباويات الإيديولوجية، لكن بالنسبة له، شأنه شأن أي شاعر حقيقي، فإن الحذر، في منقلب تاريخي سريالي داهم الفلسطينيين نفسهم فأحرى الآخرين، أمر أكثر من طبيعي. هو من قضّى سني عمره حالما بفلسطين متعالية، موصولة بالذاكرة أكثر مما هي مرتهنة بما تمليه المسوّدات التفاوضية، كان محتما عليه أن يتريث، بل أن يماطل قليلا هاجس العودة، ذلك أنه مملوك لحلمه و ليس فقط لانتظارات شعبه القريبة المدى، أو لنقل إن كانت السياسة في غير ما حاجة إلى إضاعة وقتها و إفلات مواعيدها فإن القصيدة، على العكس، ليست في عجلة من أمرها، أمّا مواعيدها فتلبّى وفقا لمعايير مخالفة. من هنا اتخذت تجربة ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" مذاق قدح شعري مبطن و أليم للتدحرج المباغت، المريع، التي تحياها كل ثورة فتأتي على رحابتها، وتغتال ما فيها من طلاقة و اندفاع و شاعرية. فقد انتقلت المسألة الفلسطينية من صعيد الماهية الثورية إلى صعيد الكيان المؤسسي المسؤول، الرصين، المتعقل، الشيء الذي تصوره معادلة الفارس / الحصان، و ما انتصار الشاعر للحصان المتروك لمصيره الكابي، أي تعلقه بفلسطين الحلمية، إلاّ تبئير استعاري للحدّ الترميزي المضاد لدلالة الفارس الذي يختار، على حين غرة، الاستراحة من وعثاء حرب أبدية لا تنتهي و نفض يده من مستقبل بعيد المنال.

العودة من أين إلى أين ؟!
إن العملية الجراحية التي خضع لها قلب الشاعر، قبل مدة، كان يمكنها أن تلحقه، لولا لطافة السماء، بأولئك الذين سبق و أن تساقطوا، تباعا، وهم يذرعون طريق عودتهم الرمزية إلى فلسطين تعنيهم قبل غيرهم، بعبد الكريم الكرمي و إبراهيم طوقان و توفيق زياد و معين بسيسو وغسان كنفاني و إميل حبيبي.. أي بكل أولئك الذين غابوا و في مهجتهم شيء من حرقة فلسطينهم هم، فلسطينهم المستحيلة. وقبل هذا لم يكن صعبا على أجهزة الموساد، لو ارتأت ذلك مجديا، أن تردي صاحب "عابرون في كلام عابر" صريعا، لكنه الآن حيّ، يدب على وجه البسيطة، بل و خائر الإرادة أمام نداء أرض تدعوه إليها، هو الذي حلم بها كما لم يحلم بها غيره.
بيد أن العودة شيء و المواطنة شيء آخر، فأيهما تليق بأحلامه، هل المواطنة الأرضية القنوع أم المواطنة الشعرية المجنحة ؟ لذا فإن لم يكن هناك من خيار أمام الذات سوى استيطان الأرض فإن موطن مخيلته سيظل، كما عهده، هو الحلم أولا و الحلم أخيرا: فلا يزال لغصن الزيتون ألق البارحة و للعشق الفلسطيني القديم جذوته.. لا تزال لقهوة الأم نفس النكهة الرائقة و للفتى سرحان نفس النهم و عين الشهية.. لا يزال أحمد العربي مواظبا على نسبه العربي و لقامة الظل شغفها بالأعالي.. لا تزال الحبيبة قيد النهوض من نومها و ما لبثثت العصافير مضربة عن الحياة في الجليل.. لا تزال بالورد غصة أريجه المسروق بينما النرجس لم يبرح مأساته بعد.. ما انفك كل شيء في موضعه حتى لكأنما الشاعر مقيم بأرضه باستمرار و شبّه له فقط أنه غادرها ذات تاريخ، في حين لم يبرأ شمشون أبدا من نكاية دليلة، الفلسطينية، بجبروته و لمّا يزل لدى أحفاده فائض غيظ على أنوثتها المتقاسمة، بالقسطاس، بين حفيداتها الفلسطينيات الجميلات !

العودة من أين إلى أين ؟!
و عليه ففلسطين الذاكرية، أرض العودة المخمنة مهادا عدنيا تريثت الذات الشاعرة في القدوم إليها و ماطلت رغبتها في ملاقاتها، لم تبق تلك الجغرافيا الهلامية التي كان يدري سبيلها الحلم الشعري دون سواه، بل هي الآن تستقيم أمام بصر الشاعر العائد، و بصيرته بالضرورة، محفلا لبشر لن يخسروا شيئا إضافيا، هم الذين اختبروا جل ضروب الخسران، إن هم تماهوا مع إقامة دنيوية، مثلهم مثل باقي البشر في بقاع الدنيا، تطاوع إيقاع المعيش اليومي و ليس هرطقة الاستعارة، إقامة تخاض فيها حرب ضروس، هذه المرة، لانتزاع كسرة الخبز و حقنة الدواء و جهاز التلفزيون.. و ليس ضد المزاج السياسي الدولي الذي عاركته أجيال من المقاومين.

كانت خرجة الشاعر الأولى، منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، شخصية، موسوية، وجهتها الأرض التي قدم منها من قاموا باضطهاده و هو شعبه، أمّا خرجته الثانية، منذ ما يقرب من عشرين عاما، فكانت من بيروت، أي من نقطة أخرى من أرض كنعان، في خضم النزوح التاريخي الثالث للشعب الفلسطيني، أو ليس هذا التصادف الصاعق بين الأحداث، إن قلبا أو انطباقا، إصرارا من التاريخ، بله مكرا، على إعادة صياغة دوراته، و معها دورة القصيدة، الفائتة ؟ و بصدد الخرجة الثانية بالذات أو ليس الأمر استعادة لنفس المسار الذي سلكه أسبلاف الشاعر الكنعانيين لما سرق من أميرتهم الجليلة إليسّا (ديدون)، أخت بغماليون و عشيقة إينياس الطروادي في "إنياذة" فرجيل، فأزمعت أمرها على ذلك الرحيل الاضطراري يصحبها فتية من صور و حيفا و أوغاريت، أي من أطراف أرض كنعان الواسعة، إلى هناك، إلى الساحل الإفريقي الشمالي (تونس)، إلى حيث مغيب شمس العالم لتشيد مدينة قرطاجة؟ و على شاكلة مسار الشاعر و شعبه في هذه الرحلة التراجيدية، من بيروت إلى تونس مرورا باليونان، فقد عرجت إليسّا على بلاد الإغريق، بحيث يأخذ هذا التعريج، في الحالتين معا، دلالة استرجاع رمزي، عرضي، للموطن الأصلي، أرخبيل إيجه، لجزء من الشعب الفلسطيني سيحمل معه تسمية فلسطين و يعمّد بها أرض اقتباله، كما تذهب إلى هذا الأدبيات التاريخية، و يندمج مع جزء آخر سبقه إليها كان مقدمه من الخليج العربي و سيعرف بالكنعانيين!

من جسامة الخرجتين، من مأساويتهما، سيجترح الشاعر لنفسه، ولقصيدته، عودته التخومية، القيامية الكبرى التي تضاهي، بملابساتها، عودات رمزية استثنائية تركت أثرا بالغا في المتخيل الإنساني. لنترك لنفسنا تأمل هذه التقاطعات اللافتة بين عودة الشاعر و بين أخريات، من جنسها، اقترنت بأسماء إبداعية أو بنصوص- محطات اجتازها الخيال الإنساني: أن تتواقت عودة محمود درويش إلى فلسطين مع عودة الكاتب الروسي المنشق ألكسندر سولجنتسين إلى روسياه التي استبشعها بقوة في "أرخبيل الكولاغ"، روسياه التي تركها، في نفس فترة خرجة الشاعر الأولى، متوجا بجائزة نوبل للآداب لكن متخما بندوب الاستبداد الستاليني، و لأن بياض الثلج في ولاية فيرمونت الأمريكية ليس في نصوع ندفه في التايغا الروسية فقد آب، رغما من بحبوحة الجنة الأمريكية، إلى وطن لم يشف بعد من أسقامه المزمنة ! عودة الشاعر الألماني فريدريش هولدرلين، راجلا، من مدينة بوردو الفرنسية إلى وطنه ألمانيا، و لأنه شاعر حقيقي لم يكن عتها أن يعود تلك العودة العالية إلى مسقط الرأس و لا أن يتوقف في متحف اللوفر كيما يشحن روحه المتطلبة بما يكفي من جرعات الفن الإغريقي وقاء لها من الخواء الأرضي الذي يخيم على عالم استرق منه حبيبته سوزيت غونتارد، آخر التماعة لعتاقة الأزمنة القدسية.

و صعدا في التاريخ لربما أمكننا استحضار عودة غلجامش، الملك - الإله، من أرض رجل الطوفان، أوتنابشتم أو نوح السومري، إلى أروك حسيرا، يائسا، و موقنا بأن مآل الإنسان إلى الموت المحتم. و مثلما لم تبق أوروك لصق الصورة التي تركها عليها غلجامش، مدينة ساكنة يرعاها أرباب سومر و تنتظر متلهفة نبوءة الخلود، لن تبقى لا طيبة التي غادرها أوديب وليدا إلى كورنثه، دفعا لشؤم توقعته الأسطورة، وفية لذاكرة العائد، أي ملاذا رحيما من ركاكة الوجود، و إنما ستتحول، إثر عودته، إلى فضاء فاجع تلطخه نزوة القتل و التسلط و تنغص فيه الندامة و وخز الضمير على العائد هناءته في انتظار النفي ثانية، و لا أيضا إيثاكا التي أودعها عوليس في حناياه باعتبارها ركنا كونيا آمنا لزوجته بنيلوب و ابنه تيليماك ريثما ينهي مهمته البطولية في طروادة و يرمم ما فضل من كرامة للإغريق فانتقلت إلى موئل للدسيسة و التآمر و الخيانة.. تلك تراجيدية هذا الجنس من العودات و تلك تداعياتها المتنايذة و المفجعة.
العودة من أين إلى أين ؟!
بعودة الشاعر إلى فلسطين فإنما هو ينضوي، شعريا، إلى راهن اشتغلت رؤياه لصالح تحققه على امتداد نصوص و تجارب متلاحقة، لعله راهن تاريخي منقوص، مخيف، غير أن القصيدة ليس بوسعها تناسي ما استنزف منها بلوغه من حدوس و استشرافات. إن الراهن الفلسطيني، المبهج و المقلق في آن، كان إلى الأمس القريب، أي إلى حدود مصافحة واشنطن، يدخل في عداد تاريخ غيبي ليس إلاّ. و عندما ميز أرسطو، قبل قرون، بين التاريخ من جهة، كحاصل معرفة ناجزة في الواقع، و بين الشعر و الفلسفة من جهة أخرى، بما هما معرفتان تعثران على ضالتهما في رحاب اللامعلوم و الممكن فما ذلك إلاّ تنصيص منه على تورط التخييل الشعري و الاستغراق الفلسفي في تعيين مآل البشر و استشفاف سيرورة معيشهم الأرضي.

العودة من أين إلى أين ؟!
إن انضواء الشاعر إلى الراهن الفلسطيني معناه حلوله في أرض عودة لا تتردد، يوما بعد يوم، و ذلك على الضد من حلم العائد، في مقايضة جسدها الغابر، المدسوس في حقيبة مواطن قديم اسمه كنعان، بمزق تراب، بكانتونات، ببقع دنيوية تسري فيها الحياة، على شاكلة أية حياة، وتنغل بالمفارقات والمتناقضات: أناس مؤتمنون على خزائن الإكراميات الدولية و آخرون مقصيون، إلى حين، من أطايب جنتهم المستعادة.. مواطنون معتدلون و آخرون متشددون.. لاجئون يستعجلون، متلهفين، الرجوع إلى وطنهم بعد أن أضناهم متاههم المستديم و آخرون يستكشفون، غير متحرجين، ملجأ سياسيا يسع حرية يبتغونها غير مقننة أو مبعّضة.. انسحاب رموز رعيل قدامى المناضلين إمّا إلى دائرة الغياب أو نحو منطقة الظل، كأبي جهاد، جورج حبش، خالد الحسن، خالد الفاهوم، فاروق قدومي.. و تصدّر أسماء أخرى للبانثيون السياسي الفلسطيني، كأبي مازن، و صائب عريقات، و نبيل شعت، و حنان عشراوي.. أسماء تتضافر المقاولة الإعلامية الغربية، سواء القنوات الفضائية الكوكبية، مثل "سي. إن. إن" أو "ب.ب.س".. أو الصحف السيارة العابرة للقارات ك "الواشنطن بوست" و "التايمز".. على تلميعها إخباريا وتأهيلها لأدوارها التنفيذية و التواصلية المنتظرة.. أرض غير متراخية عن الانحشار، باعتبارها قطعة لا غير في رقعة الشطرنج الدولية، في إيقاع التحول الحضاري و القيمي الخارق و حفظ جزء من السيناريو الكوني الشامل: سقوط جدار برلين، اندحار الاتحاد السوفياتي، نهاية التقاطبات والأحلاف الإيديولوجية، تلاشي الحدود الوطنية و الإقليمية و الدولية، النظام العالمي الجديد، اقتصاد السوق، تفوق سلطة البورصات والتروستات العملاقة على سلطة الدول و الكيانات، وباء الإيدز، ثقب الأوزون، استشراء المد التواصلي و دمقرطة الحاجات الإخبارية (الأنترنيت، الهاتف النقّال، الصحون المقعرة..)، الثورة الرقمية، الجريمة المنظمة، اتجار الأفراد و المجموعات، بدل الدول، في المواد المشعة وغدا في الأسلحة الباكتيرية و منظومات الصواريخ الباليستية.. بمعنى اندماجها القسري في عالم يتلقص، شيئا فشيئا، إلى هيئة قرية صغيرة، أو، بالأدق، إلى محض سوق تستوجب من فلاحيها التشمير عن ساعد الجد و ترجمة برتقال بياراتها إلى رزم من العملات الصعبة !

العودة من أين إلى أين ؟!
أرض عودة الشاعر هذه من كان يصدق أن أمريكا، عرّابة الطاغوت الرأسمالي و الاستعماري، أمريكا المستهجنة عرفيا في المتخيل السياسي الفلسطيني، قد يخامر قادتها، يوما، اللهج باسم فلسطين فأحرى أن يزمع أحد رؤسائها على زيارتها، لكن فعلها بيل كلينتون، حالاّ، هكذا، بخطوته الدبلوماسية المثيرة عقدة الإدارة الأمريكية، المزمنة، حيال القضية الفلسطينية، و خطب في ممثلي الشعب الفلسطيني بالمجلس التشريعي بنبرة لا تخلو من لياقة، بل و من تودد!
فأيّ سؤال يمكن، و الحالة هذه، أن تعتنقه المخيلة، و أيّة مهامّ تليق إناطتها بالقصيدة في أرض عودة تتهاوى، رويدا رويدا، من علياء التجريد إلى انبساط الدنيا ؟
أيّ خبر بمقدور الجملة الشعرية إنشاءه لمبتدأ تاريخ لم ينته بعد، كما تنبأ بذلك فرانسيس فوكوياما، بل لربما قلنا إنه يبدأ، و الآن فقط، بدايته الفعلية، كل ما هناك أنه يفضل إجراء شغله على واقعة كونية واحدة بدل تبديد وقته في ما لا يحصى من الوقائع الوطنية ؟!
انعطاف بهذه الحدّية، و واقع على هذه الدرجة من الغرائبية، شيء لم ليغرب نهائيا عن ناظر القصيدة، و من ثم كان لابد و أن تستنهض الذات الشاعرة، دونما تنازل أو مسالمة، سؤالها الاحتياطي الكبير، سؤال هاملت المنشدّ إلى دانمارك على مقاس أحلامه المتشامخة: "أكون أو لا أكون، تلك هي المشكلة". و هي إذ تستنجد بهذا السؤال لتدرك بأن التمركز الوجودي و الرؤياوي هو منفذها، و منفذ الذات الجمعية أيضا، إلى فلسطين أخرى لامرئية، غير مطروقة، و على هذا النحو يتم ترحيل الشاغل الوطني من أفق النوستالجيا الخالصة إلى أفق الإعمال الفلسفي، من مدار التذكر إلى مدار المحاورة مع التاريخ و الزمن.
فالسياسة يستهويها أن تقسط تحقيق الحلم إلى مواعيد ترتئيها أجندة المتفاوضين، المبرمج ناموسها بالدقة السياسية العالية، لا اختراقات الخيال الشعري و أسفاره في التواريخ و الأزمنة، و بما أن الراهن الفلسطيني لا يرتفع فالأنسب للقصيدة أن تستحلب اختلاطه، ضحالته، و تنكب، ثانية، على صوغ مستقبلها، و مستقبل الذات الشاعرة و أرض العودة و أرض الإنسانية جمعاء: مفاد هذا اندراجها، أي القصيدة، إلى مواظفة احتفارية ذكية في المكان و اللغة، في حمولة الاسم الشخصي و ماضيه الوجودي، في احتدام الذات و قلقها الروحي.. مثلما فعل الشاعر في ديوان "سرير الغريبة"، و الخوض في معضلات الحرية و الفناء و الخلود، في معنى الشعر و الكتابة و البطولة، ضمن شكل ملحمي متماسك، يشي بطاقة تخيّلية لن نبالغ إن احتسبناها نسيج وحدها، وذلك في ديوان "جدارية".
لقد أبان الشاعر، في هذين العملين، عن اقتدار لافت على استنبات لغة شعرية شديدة الكثافة و الانزياح ، عن مراس و دربة قويين ب / على تصريف كبريات الشجون الفردية و الوطنية و الأممية استعارات و مجازات و ترميزات، سهلة و متمنعة في آن، و عن مهارة مقنعة في استثمار مكتسبات الفنون التعبيرية الموازية و التفعيل الشعري لطرائقها وأساليبها. و في هذا المنحى حقيق بنا الإلماع إلى الحيوية الفائقة التي اصطبغ بها التعبير الشعري، في ديوان "جدارية"، و هو يدفع بالمعجم والتركيب و الدلالة و الإيقاع و التخييل.. إلى عاملية بنائية و نصية تتقصد تخويل الديوان / القصيدة صفة صنيع إستيتيقي مقنع، أي خلقة جدارية متصالبة لا يمكن للزمن النيل منها. لدى الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه سيتخذ الأمر، و بخاصة في أعماله الأساسية "قصائد جديدة" و"مراثي دوينو" و "أغنيات إلى أورفيوس"،مجرى إعادة بناء شعرية مراوغة للجدارية الرهيبة "بوابة الجحيم" التي استوحاها النحات الفرنسي أوغست رودان من نص دانتي "الكوميديا الإلهية"، أمّا عند محمود درويش فستجعل المخيلة من التاريخ، و من فائض شعريته المستفزة، لحمتها ومادتها، ألم يعتبر ريلكه رودان منشئا لمظاهر الفن المتحدية لصلابة للزمن، واستلاف الشعر، في موقف شعري كهذا، لإهاب فن تشكيلي بالأساس إن هو في الحقيقة إلاّ تعلق خفي بمبدأ الصلابة، الصلابة الرمزية للكلمة الشعرية، و تعلق، بالتالي، بالديمومة.

أما و قد وطّنت الذات الشاعرة على المشي مع الجميع لكن خطوتها لوحدها، كما قال سعدي يوسف، أمّا و أنها ارتأت الإيغال، رفقة القصيدة، قصيا في مستقبل واعد، أما و أنها ركبت رأسها و انحازت إلى رهان كتابي و رؤياوي من حجم ما يجلوه الإصداران الشعريان الأخيران فإن أرضا بالمواصفات المتاحة قد تضيق عن الشاعر و قصيدته سواء بسواء، ومع ذلك فبإمكان الاثنين أن يجدا متسعا في ما تطفح به أرض عودتهما من حدّية و غرائبية.
في الفجوة بين خطيئة بلفور التاريخية و مروءة ضمير مواطنته، الممثلة السينمائية التقدمية فانيسا ريدغريف.. بين إعلان بن غوريون الآثم عن قيام إسرائيل و أثقال الحزن التي تداعب خاطر أطفال لم يولدوا بعد.. بين هندسة مفاعل ديمونا النووي و طبغرافيا القرية الأولمبية بميونيخ.. بين وضاءة الجليل و كآبة أوسلو.. بين أحراش غور الأردن و أقاحي واي ريفر.. بين كوفية ياسر عرفات و يده الممدودة إلى الممكن جزاء مرارة النكبة.. بين أنامل أبي مازن و ما خربشه قلمه السحري من هيروغليفية إمضائية.. بين بروتوكولات التداول السياسي في الكنيست و سيمياء اللجاج الرفاقي و البوح الأخوي في المجلس التشريعي الوطني.. بين معبر إريتز و غيتو غزة.. بين مدرجات جامعة بيرزيت و صالات كازينو أريحا.. بين لهيب النار المضرمة في جسد إليسّا التياعا منها على عشيقها إينياس، المقاتل الطروادي الذاهب إلى حال سبيله و قشعريرة برد ينزل بها برد قارس على بدن مواطن محت منزله جرافة صماء و أسلمته إلى عري الأرض.. بين عذوبة أهزوجة "على دلعونة، على دلعونة" الشجية وفظاظة أزيز سرب من طائرات ف 16.. بين حجارة نبيلة، مارقة، تطلقها يد صبي في الخليل و مجنزرة عمياء تخبط من غير هدى.. بين نكهة قهوة الأم في "البروة" و نكهة قهوة تحضرها، لامبالية، نادلة في مشرب برام الله.. بين خرجة الشاعر الأولى و الثانية.. بين الخرجتين كلتيهما والعودة.. بين صورة الشاعر الأولى و صورته في السنين الأخيرة.. بين صورة الأرض المتروكة و صورة الأرض المستعادة..
في هذه الفجوة إذن، في المواظبة على التقاط المجاز المتربص بضيقها وإدمان الانتباه إلى حركته المخادعة يمكن العثور على مستقر أرضي تقيم فيه القصيدة و كاتبها.
إن تعايشا هشا لن تتوانى معه " لارمادا " الإسرائيلية العاتية، حالما يتكدر مزاجها، عن معاودة التفكير في التشطيب على الرقم الفلسطيني من المعادلة الإقليمية الشرق أوسطية لاتواني كاميكاز فلسطيني محتقن الروح، كلما آلمه جرح إهانة تاريخ ظالم، عن تفخيخ سيارة يلخبط دويها سكينة الحروف في المسوّدات التفاوضية لن يعمل، ما دام الأمر يتعلق بمضطهد (بكسر الهاء) و مضطهد (بنصب الهاء)، إلاّ على تعميق يأس خلاق بواسطته تستطيع القصيدة و كاتبها،متخففين من أيّما إكراه ومستنيرين، في نفس الوقت، بمغزى احتراق روما نيرون و تألق شهوة قصيدة سنيكا.. اندكاك غرناطة الكاوديو و توهج أغاني غارسيا لوركا.. انهيار سانتياغو بينوشي و استمرار أناشيد نيرودا.. صغار لينينغراد هتلر وائتلاق مراثي أخماتوفا.. مراجعة صورتي الشاعر و أرضه، تملّي ماضيهما و حاضرهما، و البت في الكيفية التي يمكن أن تنبثق عليها صورة الأرض، لا صورة الشاعر لأنه غير معني كثيرا بشأن الصورة عنايته، بالتساوي، بصورة الأرض و شأن القصيدة، تفكيرا و إنشاء و إلقاء، انبثاقها معافاة، أصيلة، و مسمّاة، شعريا، تسمية لائقة برمزيتها.
حقا لا (أحد يندم على الحرية) ،و القصيدة تعد أولى من غيرها في احتلال أيّ نقطة (1) ضوء ينحسر عنها ظلام الاستعمار، غير أنها لا تقنع، كما نعلم، بما دون حريتها المطلقة، أي بأنصاف الحلول، لذا فإن كل حرية متحققة هي بالنسبة إليها مجرد عتبة إلى أفق حر، متراحب سرعان ما تستأنف فيه الذوات الحيوات و الأوضاع و الأشياء تشييد مصيرها القابع في ذمة المجهول:
هلّلويا،
هلّلويا،
كل شيء سوف يبدأ من جديد .(2)


إقرأ أيضاً: