-1-
لعل شاعرة في وضعية خلات أحمد، المحظوظة بقدر ما هي باعث انشراخ و تمزق شقيّين إلى أقصى الحدود، لتستدعي منا، من بين ما تستدعيه، و نحن نروم الاقتراب من منجزها الشعري، أن نأخذ في الحسبان، أولا و قبل كل شيء، انتماءها العرقي و الثقافي إلى كردستان، السوري تحديدا، و أيضا كونها تكتب باللغة العربية، شأن قطاع عريض من المبدعين الأكراد، السوريين و العراقيين، أي انضواؤها، بأثر من الأداة اللغوية المسخرة، إلى الأفق الشعري العربي الراهن، ناهينا، طبعا، عن مشترط كينونتها الأنثوية و ما يقتضيه من إنصات خاص إلى حساسيتها النسوية يستأنس، على هذا النحو أو ذاك، بالحساسية العامة التي تقترحها أقلام نسائية على سوق القراءة و التداول الشعريين في الأدب العربي الحديث.
و إذن، و من هذا الضوء، لا مندوحة لنا من التعاطي مع منجزها الشعري ضمن السياق الواسع للشعرية الكردية المعبرة عن هوية شعب تتوزعه جغرافيات مشتتة لكنه يصون ذاكرة تاريخية و لغوية و ثقافية موحدة و يسعى، دونما ارتخاء، إلى استعادة جدارته القومية. و في هذا الإطار تتقاطع روافد هذه الشعرية، سيان كانت اللغة هي الكردية أو العربية أو التركية أو الفارسية، أو الإنجليزية أو الألمانية أو الدانمركية أو السويدية بالنسبة لأكراد الشتات، و تنصبّ، كافتها، في مجرى الذوذ عن خصوصية شعب يتأبى على الذوبان في تواريخ و لغات و ثقافات ليست من صميم هويته الخالصة. بهذا المعنى تتبدّى تجربة خلات أحمد الشعرية، و لو من داخل اللغة العربية، وطيدة الصلة بذات الاعتناق التعبيري و الرؤيوي الذي كان قد أبان عنه، في وقت باكر، مواطنها، الشاعر و الروائي الكردي السوري سليم بركات، ذلك الساحر المذهل.. صانع المفردات و التوليفات و الأساليب الفذة و مجترح العوالم و التوضّعات و المقامات الباذخة.. أيقونة الأدب الكردي ذاك و سادن الثقافة الكردية بامتياز، انطلاقا من كتابه السير - ذاتي الجميل "الجندب الحديدي" و انتهاء إلى عمله الروائي - الشعري المتحف "السلالم الرملية"، و في حالة تناف، مثلا، مع الاعتناق الذي سيصدر عنه، في وقت أبكر، شاعر كردي عراقي، ألا و هو بلند الحيدري، لكونه سيختار، رفقة مجايليه من الرواد، استثمار أرصدته اللغوية و الثقافية العربية، و كذا مؤهلاته التشكيلية الوازنة و النبيهة، في إرساء قواعد الشعرية العربية الجديدة و ابتكار أشكال و صيغ جمالية كفيلة بالتعبير عن المتغيرات، لا الذهنية و لا الوجدانية، التي مست الحياة العربية المعاصرة.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى،و مثل سائر الظواهر الوليدة، في مختلف الآداب، ما من داع إلى الاستغراب، مثلا، بإزاء النشأة الوئيدة و المحتشمة للشعر النسائي الكردي، في سوريا تخصيصا ما دامت الشاعرة كردية سورية، ممّا تتعهّده بالاحتضان و النشر المجلة الفصلية "حجلنامه" الخاصة بالأدب الكردي، هذا رغما من أن هذا الملمح سيكون، مثلما يؤكد أحد الدارسين، "… مفاجئا لي في الحقيقة، و لن أكرر ما كنت درسته في العدد الخاص بالأدب النسائي الكردي ذاك، فما أريد التوصل إليه هو أنه برقت في جعبتي قصائد لشاعرة اسمها آخين ولات، من كرد سوريا، عفرين تحديدا… و أقصى معرفتي بشعرها هو ما صرت أقرأه على صفحات الأنترنيت، و على هذه القراءات بنيت انطباعاتي الأولى، التي ما لبثت أن توطدت في صيف تخمّرت فيه دراستي عن شعرهن، توطدت عندما قرأت مجموعتها الأولى المطبوعة (قصائد بلا لسان) المنشورة في عام 2000، حقا لقد سررت بشعر كردي نسائي مكتوب بالكردية رغم كل المعوّقات المعروفة التي كان يشترك فيها من يكتب بالكردية من الرجال و النساء، و بعض هذه المعوّقات كانت تخصّ الشاعرات تحديدا" . و عليه، و من حيث مشترط كينونتها الأنثوية، و بصرف النظر كذلك عن جدّة ظاهرة الكتابة النسائية الكردية و طراوتها، فهي، أي الشاعرة تنتمي، بحكم العرق، إلى ما يمكن اعتباره تيارا كتابيا نسائيا، قيد التبلور، في الشعرية الكردية الراهنة من ألمع ممثلاته، فضلا عنها، الشاعرة آخين ولات، التي تكتب أيضا باللغة العربية، و الشاعرة الكردية العراقية شومان هاردي، التي تكتب باللغة الإنجليزية، و المغتربة في لندن اغتراب خلات أحمد في مدينة زوريخ السويسرية، تماما كما انتسابها، بأثر من اللغة المتوسل بها في أعمالها، إلى الصعيد الأشمل للكتابة الشعرية العربية المعاصرة، و في نطاق أضيق، له مساس وثيق بالجغرافيا الطبيعية و الثقافية الكردية، إلى عين السلالة الفعلية و الرمزية التي تتحدّر منها، عراقيا، كلّ من نازك الملائكة و عاتكة الخزرجي و لميعة عباس عمارة و آمال الزهاوي و ريم قيس كبة و دنيا ميخائيل و آمال الجبوري و منال الشيخ..، و سوريا، كلّ من سنية صالح و مرام المصري و سلوى النعيمي و هنادي زرقة و جاكلين سلام.. على سبيل التمثيل لا الحصر.
لكنها، في الحالتين كلتيهما، تبقى، بوصفها امرأة - مبدعة، مرهونة إلى الماهية المجردة، المتعالية، للكتابة النسائية، إن من زاوية ما تستتبعه هذه الماهية من تقاطبية حادّة، مزمنة، بين عنصري الذكورة و الأنوثة في الكثير من المجتمعات و الثقافات و المتخيّلات، أو من زاوية جملة التداعيات المادية و الرمزية التي تلازم عادة الوضع الاعتباري لأيّما امرأة - مبدعة، و تكيّف لها طبيعة فاعليتها الكتابية و حدود هذه الفاعلية و أدوارها المرتقبة في أوضاع، وطنية أو قومية أو كونية، تتنفّذ فيها إيديولوجيا ذكورية ماحقة لا تتنازل للمرأة، بعامة، سوى عن الهوامش و الفضلات، إذ ".. هناك، بالطبع، صعوبات تواجهها النساء و لا يواجهها الرجال. فقد أقصيت النساء عن الكتابة، و أرغمن على التكيّف للنماذج الذكورية، و جرى التحكم بنتاجهن، و استغلال هذا النتاج من جانب الجماعة السائدة، بحيث إن النساء يعرفن - كما يعرف الرجال أيضا - أن هناك تناقضا في أن تكون المرأة كاتبة. غير أن النساء، رغم ذلك كتبن" . لذا، و أملا في أن يستفرغن طاقاتهن المحجوزة في الكتابة و ينتجن، بالتالي، نصوصا أجود و أفضل و أرقى، سوف تهتدي مخيلة الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف، في نصّها - بيانها النقدي الذائع حول الكتابة النسائية، إلى المخرج العملي - السحري لمأزقية التعبير الأدبي لدى بنات جنسها و الذي ستحصره، مظهريا، في حاجة المرأة - المبدعة إلى غرفة مستقلة في منزلها تخول لها الاستغراق في كتابتها، بينما هي تعني، عمقيا، تنصّلها الواعي و الجسور من إكراهات نظام السّخرة الذكوري الذي يصر على تقييد، بله تأبيد، إقامتها و حركتها بين المطبخ و غرفة النوم. فحيازتها لغرفة، أي لفضاء مخصوص و حميمي، لهي العتبة الأولى، في تحليل الروائية، إلى استكشاف كيانيّتها الصميمة.. إلى التصالح مع جدارتها المهدورة.. أو، لنقل، إلى مباشرة تجوهرها الأونطولوجي الأصيل، و حيث ترتفع الكتابة عن كونها فائض ترف أو تزجية للوقت ليس إلاّ لتصير إلى مسلك إنساني نبيل، خلاّق، و دالّ، و بتعبير رديف فإن ".. ضمان الشروط المادية للحرية و صفاء الذهن، بالنسبة للكاتبات، هو وحده الذي يسمح لهن بالمشاركة في إنتاج الأدب" .
- 2 -
موصولة إذن بوضعيتها المحظوظة هاته، على ما تحبل به من تصدّع، لم تتورع الشاعرة عن طرق بوابة المشهد الشعري العربي المعاصر مرفقة بسندات هذه الوضعية التي لا تخرج في شيء، على نحو ما أومأنا إليه، عن هويتها الكردية الضاربة، عن اختيارها اللغوي العربي المتقصد، و عن واقع حالها الأنثوي الذي لا مفرّ لها عنه. و إذ سعت إلى الإعلان عن برنامجها التعبيري و الرؤيوي المرسوم منذ ديوان "أوشحة الفجر.. الترياق" ، (95 صفحة من القطع المتوسط)، السابق على الديوان موضوع هذه المقاربة، فهي لا تتوانى، و لو قيد أنملة، عن إنضاج هذا البرنامج، عن تصليب مادته، و تمكينه، اطرادا، من دفعات أدائية و أسلوبية و جمالية ترتقي به نحو مزيد من التماسك و الأيقونية.
هذا و إذا كان الديوان الأول قد جاء أقل حجما و أنزع إلى التقتير إخراجا و طباعة فإن الديوان الموالي سيؤمم زهاء 147 صفحة من القطع المتوسط، كما أنه سينال نصيبا أوفر من الاعتناء الطباعي و الإخراجي، ثم إن كان التشكيلي رشيد حسو هو من تولى تصميم غلاف الديوان الأول و إنجاز رسوماته الداخلية، ذات الميسم التجريدي، السريالي، فإن تصميم الغلاف، في الديوان الثاني، سيتكفل به الكاتب الأردني إلياس فركوح بينما سينهض بمأمورية لوحة الغلاف الرسام السوري بشار العيسى، و هي اللوحة الوحيدة المؤثثة للديوان ما دام قد تم الاستغناء عن الرسومات الداخلية، و التي لا تليق سوى لقراءة متواطئة، و ذلك استسعافا بما تصوره من نسوة متحفزات، متوثبات، مشرئبات الأبدان و الأرواح، يصدرن في نظرتهن عن انكسار يستحث الأمل، مع الترسيمة الدلالية الماثلة في الديوان.
و الظاهر أننا بمجرد ما نقرأ الإهداء الذي يفتتح به الديوان الأول، ألا و هو "إلى قلب ديرك النبيل محمد أمين علي"، و ذلك بوصفه عتبة دلالية أو ميثاقا تأويليا يستلزم الانتباه حتى نتبيّن القسمات المركزية لما أسميناه برنامجا تعبيريا و رؤيويا مرسوما، و حالما نوالي المسير في متنه النصي حتى تنجلي، سافرة، هيئة هذا البرنامج و كذا طرائق مواظفته الشعرية و استهدافاته التخييلية و الترميزية. أمّا و نحن نقرأ قصائد و نصوص الديوان الثاني حتى تتكرس لدينا ليس فقط صدقية البرنامج و جديته بل، و لعل هذا هو الأهم، امتداده الدال إن لم نقل تفاقمه و استفحاله، على أكثر من صعيد، الشيء الذي يؤكد وجاهة الفكرة التي يا ما ألحّ عليها، تنظيرا و أجرأة، السيميوطيقي و الناقد الأمريكي مايكل ريفاتير و التي مفادها أن النواة أو البذرة الشكلية و الدلالية لأيّما مشروع شعري مديد تكمن في صلب المدرج التدشيني لهذا المشروع و بهذا المعنى لا تعدو المدارج الموالية كونها تمفصلات معمقة لتلك النواة أو البذرة الأوّلية.
من هنا فإن كانت قصائد الديوان الأول ميّالة إلى الانضغاط و القصر النصيّين، فيما خلا جملة قصائد طويلة نسبيا، من مثال "بقليل من الدوار"، "الطمي الناعم بين يدي"، الحنّاء على كاحلي"، "أيها الغريب في المدائن البعيدة"، "عصفور ينقر قدمي"، "قريبا سأنجب مهرا"، و أخرى مفرطة الطول، مثل "مستلقيا في صباحي، منساقا للوعول"، "الترياق"، التي يذيّل بها العنوان الناظم لقصائد الديوان، فإن الأمر سيتخذ، في هذا الديوان، متخذ انفجار نصي عارم ستكتسي معه القصائد صبغة طولية لافتة، و الأبلغ من هذا انعطاف بعض القصائد، علاوة على مساحتها التحريرية المفتوحة، إلى مجرى نصي هجين و مركب يوائم بين الشعري و السردي على نحو قد تتبلبل معه المعيارية المحددة للقصيدة لتفسح المجال لمعيارية النص الأكثر مرونة و اتساعا لتأطير هذا الضرب من القصائد المؤشر على قلق بنائي يحث عليه قلق تعبيري و رؤيوي لم تعد تستوعبه التصييغات و الأداءات الاعتيادية أو، بالحريّ، المنغلقة، و في هذا المضمار لا بأس في أن نلمع إلى السّجل العنواني لمتن الديوان حتى يتضح أكثر هذا الإبدال مقايسة مع متن الديوان الأول:
فالقصيدة الأولى: "غابة مني".. تنقسم إلى ثمانية مقاطع أو قصائد شبه مستقلة هي كالآتي: "عصافيرها"، "بما يكفي"، "بأني سأمطر"، "توت شامي"، "الطور بظلي"، "سفرجلة"، "من فرط الحب"، "غابة أم"، و الثانية: "صهيل القيقب" تنشطر هي بدورها إلى نفس العدد من المقاطع أو القصائد شبه المستقلة التالية: "أفعم من وجعي"، "لأنعم عليك"، "حكايتك بعيدا"، "البارحة"، "ظلالي التي"، "ذاهبة في تفتحك"، "يا أمنا الأرض"، "البارحة" (يتكرر هذا العنوان لمرتين اثنتين)، أما قصيدة "كلما أرادوا لي" فتتوزع من جهتها إلى عناوين فرعية هي: "زيورخ"، "في أصابعه"، "أكاد إليك"، "ربما أكثر"، "دون ارتباك"، "أعلى"، "ملء القلب"، "أنا الدائرة"، في حين تتألف قصيدة "الذي أنا أرملته الآن" هي الأخرى من ثمانية مقاطع أو قصائد شبه مستقلة تتوسل بعناوين من قبيل: "مرآة"، "نبيذ"، "خريف"، "غمام"، "صمت"، "زئبق"، "قلق"، "عشق". و بالنسبة للنصوص الأوفى انسهابا، و المشتغلة على الواجهتين الشعرية و السردية، يهم الأمر خمسة نصوص تكاد تؤمم جل مساحة الديوان و هي كالتالي: نص "الزيزفون المائل علينا بضوئه"، المردوف بعنوان ثان هو: "سيرة نهر.. أنا كوردستان أيها النهر، إلى من تسيل ؟ "، و بإهداء هذا نصه "لك، لي، لديرك، كل هذا الحب"، و هو النص الأول المقرون بإهداء، و قوامه عشرون نصا مرقّما، و نص "أنا صباح الأضحى في هولير"، المصدّر بنداء هذا منطوقه "افرط خرزي، لنرتعش أكثر"، و المؤلف من أحد عشر نصا مرقّما، ثم نص "ستمطر علينا أرواحا أخرى"، الذي يأخذ طابعا كتلويا واحدا تنتفي معه الحاجة إلى الترقيم، فنص "قامتي الرمح المزيّن بألف جديلة"، الكتلوي هو أيضا، و أخيرا نص "مذكرات زهرة الأوكاليبتوس"، المصحوب بالإهداء الآتي: "لدهوك.. لديرك التي في دهوك" و هو بذلك ثاني نص مهدى في الديوان، و المنزوع من أيّما ترقيم جراء بنيته الكتلوية هو الآخر.
فما نعتناه بقصائد في الديوان سوف لن يضيرها في شيء أن توائم، ربّما من فرط دفقانها النصي فيما نرجّح، بين الصيغة التفعيلية و الأخرى النثرية فيما يتعلق بعامليتها الإيقاعية في مرمى استحصال مناوبة تزمينية خليقة بأيقنة Icônisation نشاطيات التسمية، و الوصف، و المشهدية، و الاستذكار، و الترهين، و التداعي، و الحوار..؛ بما هي الإواليات الغالبة في رحاب الديوان و المسخرة لفائدة الثنائية الدلالية التي سنعرّج عليها بعد حين. أمّا ما صنفناه كنصوص فتبين، بغير قليل من الاقتدار، عن إمكانية الذهاب قصيّا في مناوشة أيّما معيارية أو قاعدية في الكتابة و التعبير و ذلك بتحطيم الحدود الفاصلة بين الأجناس و الأشكال الأدبية و اختبار ممكن المجاورة النصية بين الشعري و السردي، بين ضمير الأنا الشعرية، الذي هو عماد كل خطاب شعري و أسّ ملفوظيته المائزة، و ضمائر أخرى، يعتبر السرد مجالها الحيوي، تكثّف ضميرا جمعيا واحدا في الجوهر.، أي بين المكوّن السير - ذاتي و المكوّن الروائي. ليس هذا فقط بل و اختبار ممكن شعرنةPoétisation السرد بعينة و تلقيحه بجرعات من الإيقاع الشعري، الداخلي، و التشذير، و الحكي، و المفارقية، و السخرية، بمعنى تطعيمه بجماع الخواصّ و المواصفات التي تنماز بها قصيدة النثر، و بالمناسبة فلسنا نحوج التنصيص، في هذا المقام، على أن ".. الشيء المذهل - حقا - هو أنه، عبر طريق النثر، تمّت العودة إلى أصول الشعر العميقة" ، و النتيجة كانت هي انفراز جملة شعرية، في قسم واف من الديوان، منزاحة، بالقوة و بالفعل، عن النمط المسنون تكتسب ديناميتها الأدائية من طابعها التهجيني والمركّبي، إن شئنا، و على أيّة حال فإن ".. مجرد الانكباب على إرساء شعرية مغايرة للتخييل السردي ليستوجب تقبّلها و كأنها بمثابة نوع مميّز يحوز على خاصّياته الذاتية، مشكلاته الضّمنية، و كذلك على ممكناته الخالصة" .
ومن حيث المدوّنة اللفظية أو المعجم المفرداتي المواظف في رحاب القصائد جدير بنا أن نسجل بأن العديد من مكونات هذه المدونة أو هذا المعجم يتشبّعها نسيج الديوان السابق ممّا يفيد نشاط لاوعي لغوي ينتقل إلى فضاء الديوان الثاني و ذلك ضمن تنويعات و إبدالات، في هذه الجملة الشعرية أو تلك.. في هذه الصورة التخييلية أو تلك، لا تخلّ، جذريا، بالثنائية الدلالية التي تمسك بتلابيب هذا اللاوعي و تعتاش على حدّي الوطن والأنوثة.
فعلى شاكلة الديوان الأول تحضر، لكن بشكل أغزر، مفردات: التراب، الماء، الثلج، النهر، الموج، الندى، النسيم، الشذى، النسغ، الشجر، الثمر، الخميلة، السنبلة، الحنطة، الزهر، الورد، الحبق، الياسمين، البنفسج، القرنفل، المسك، النعناع، القرفة، السّمسم، الظل، النوروز، الزيتون، السفرجل، الزيزفون، اللوز، الليمون، التين، الكرز، المشمش، التفاح، الرمان، الكروم، البلوط، الأبنوس، الكستناء، الميموزا، شجر الزان، شجر الديندار، شجر الجنار الخيار، الحليب، الجبن، العسل، الخمر.. الحقول، المروج، البساتين، الجنان، الغابات، الزرائب، الأحواش، الخانات.. المساجد، الكنائس، المدارس، الجسور، الأهل، الجيران، المزارعون، مربّو الماشية، قطعان الغنم و الجاموس، الظباء، طيور السّنونو، الفراشات، العجائز الحكيمات، الفتية المتأججون، العذارى البهيات، الأعراس، المباهج، الأغاني، التهاليل، الاندياحات.. كقرائن لعالم شعري رعوي، فردوسي، تستهيم فيه الأنا الشعرية، بما هي قناع الشاعرة في تجربة الديوان، و تشتهيه في مقابل واقع أرضي جحيمي لا يمنح المأسورين إليه، و في مقدمتهم هذه الأنا الجريحة، سوى الموت البطيء، الحقيقي و الرمزي، الاقتلاع و النفي، و ألوانا من الحرمان و الهوان و اليأس. وإلى الجوار من هذه المفردات تحايث، و بقوة، مفردات أخرى تؤول، تلقائيا، إلى الحقل الدلالي للأنوثة، للجسد كجغرافيا فيزيقية لها متعيّناتها أو مشخّصاتها النوعية، كالفم، والشّفة، و الرّيق، و العين، و الخصر، و الرّدف، و الحلمة، و الشّعر، و الذراع.. محايثة بقدر ما تستحكم فيها حافزية عشقية إيروتكية تترجمها إشاريات الرغبة و الوله و الاشتياق والانتشاء و الامتلاء و التشوف و الذوبان، بالتالي، الحميمي في معشوق متخيّل، لربّما كان وطنا مؤمّلا في نهاية المحصّلة، تتراءى مندغمة، بهذا القدر أو ذاك، في حقل دلالي لصيق يغذي معاني الفراق و الفقدان و الغياب و الوحدة و الحزن و الصمت و الحلم..
أكيد أن وجهة لغوية كهاته لابد و أن تثمر أخيلة و مجازات و ترميزات لا تشتطّ بعيدا، من زاوية الإيهام التخييلي، عن دائرة الثنائية الدلالية الآنفة الذكر، و هو نلفيه أحياز واسعة من متن الديوان، إذ يتداخل الوطني مع الأنثوي ضمن ألاعيب كنائية و تلوينات استعارية و إيحاءات مجازية و، أحيانا، إسقاطات أليغورية تجعل من تأوّل الأرض في الديوان برزخا إلى تأوّل المرأة، و العكس صحيح، لكن ضمن أفق تصويري ينتشل الحدّين كليهما من ملموسيتهما أو، بالأولى، من واقعيتهما. لذلك فحتى عندما تتقصد الشاعرة إيراد أمكنة بمسمّياتها المعروفة في كردستان، كجبل آغري، و نهر دجلة، و بحيرة وان، و سهل نيزان، و غابات ديرسم، و عامودا، و حسيجا، و هولير، و آمد، و مهاباد، و سرخت، دهوك، و القامشلي، و كازية "سيد أحمد"، و عين ديوار، و حارة المسيحيين.. انتهاء إلى ديرك، مسقط رأسها و مهاد تماسّها البهيج / الأليم مع أرضها الأولى، بل و حتى عندما تتمطى التفضية المكانية في الديوان خارج تخوم كردستان إمّا لدافعية دينية، كما يدل على ذلك رمز "الجودي" كلازمة لرسولية نوح و قصة الطوفان الذي سيعفي على البسيطة ريثما تتفتق ثانية دارة للفضلاء و النّاجين، أو لجاذبية ميثولوجية، على نحو ما يشهد عليه رمز "طروادة" كمستودع كنائي لأفكار الحب و الاستماتة و البطولة و السؤدد و الحرب و الحصار و الخديعة و الدمار، أو لاعتبار سير - ذاتي يخصّ الشاعرة، و ذلك عندما تستدرج رمز "زوريخ"، كأفق لمعانقة الحرية لكن كمغترب أيضا لمفاقمة حنين جارف إلى مسقط الرأس، إلى اللب من مكانية شرقية بالأساس، أو أسماء لأعلام، سواء كانت لثوريين أكراد، كخالد الجبرانلي، و فرهاد، و الشيخ سعيد، و إحسان باشا، و إسماعيل خان الشكاكي، و سيّد رضا، و القاضي محمد رئيس جمهورية "مهاباد" الكردية، التي لم تعمّر سوى لأشهر معدودة، أو لتنظيمات سياسية كردية مثل تنظيم "خويبون"، أو لأمراء أكراد كمير شرف خان، أو لشعراء أكراد، كالجزري الذي يعتبر من كبار المتصوفين.. وصولا إلى بروين، ابنة الشاعرة و مجلى استدامة نكبة السلالة. أو لمّا تستقي، أي الشاعرة، شذرات و عناصر من طفولتها أو تستنطق حيوات و أحداثا و ووقائع صحيحة تاريخيا، أو تسترفد لقصائدها و نصوصها، بوازع من ضرورة التعالق النصي، في إطار مسلك تناصّي يلجأ إمّا إلى الحذافيرية أو التحوير أو الامتصاص في توظيف مستقطعات دينية أو تاريخية أو شعرية أو ثقافية بعينها، هذا على شاكلة ما فعلته مع أحد الأقوال النبوية، و كتاب الدكتور نور الدين زازا الموسوم ب "حياتي الكوردية"، و مصنف "الحركة التحررية الكوردية في العصر الحديث" الذي حرّره جليلي جليل و خمسة من الباحثين الروس، و الخبر الصحفي الوارد بيومية "الديلي تلغراف" البريطانية، و عمل سليم بركات المعنون ب "ديلانا و ديرام"، و قصيدة الشاعر من أحمد الحسيني، التي تولت ترجمتها من الكردية، و قصيدة الشاعر حسن سليفاني، إضافة إلى ما كان إلحاق مقاطع و أجزاء من الأهازيج و المردّدات الغنائية الكردية.. و إذن و هي تلحّ على تسمية الجغرافيا الكردية كيما تبقي عليها حيّة، نابضة، بإزاء موات تاريخي و ثقافي لا يبقي و لا يذر، أو هي تتشبث بتوثيق سيرتها الطفولية، من خلال بورتريهات شائقة تستضيف الأم، الأب، و الإخوة.. الجيران، الأصدقاء، الشهداء.. شأنها شأن أغلب المبدعين الأكراد منهم حرصا على صيانة التاريخ الشخصي و التاريخ الجمعي سواء بسواء، فإنما هي تقتطع، من واقعها الذاتي و واقع أمّتها، القاعدة الصلبة لابتناء أرض حلمية بديلة و إعادة تهجية هويتها الأنثوية داخل اللغة الشعرية المنذورة، بطبيعتها، للممكن، للمشتهى، أكثر من ارتدادها إلى القائم، إلى المتاح. و من ثم فمهما استقام أمام القراءة من عناصر لا مراء في وثاقة ارتجاعها إلى / تصاديها مع أمكنة و أسماء و حيوات و ووقائع و نصوص و ثقافات.. فإنها تصبح، و قد استدمجت في القصيدة، ذات دلالة مستجدة لا تلبث أن تتلاشى، أو تلتبس في أضعف الأحوال، معها بداهتها الدلالية المسبقة، و مردّ هذا، بطبيعة الحال، إلى كون ".. هوية المعنى - في القصيدة الجديدة - هوية تركيبية، و هي شبكة متداخلة من اللامتناهي و اللاوعي و نقضيهما، و كلماتها لا تكشف عن نفسها إلاّ في بنية القصيدة ذاتها" ، هذا إن لم نجنّح بهذا الطرح بعيدا لنقول بأنه ".. في كثير من شعر الحداثة العربية المعاصرة تغيب الدلالة غيابا كاملا، سواء كان ذلك بسبب غياب الموضوع أو بسبب أشياء أخرى" .
في إهاب تخريج شكلي و جمالي كالذي وصفنا ستطلق الشاعرة العنان لأنا شعرية معنية، عن الآخر، بأنوثتها، كجسد و روح.. ككثافة حسية و اختلاجات عاطفية، مثلما هي معنية بمسقط رأسها الوجودي، كجغرافيا و تاريخ.. كبشر و أحوال. كذا فإن كانت ضمائر الأم، الأب، الجدة، الإخوة، تحضر بقوة تكاد تغطي على حضور الذات المتكلمة ففي هذا الديوان يتم تبئير هذه الأخيرة و مركزتها إلى حد أنه و لا ضمير آخر، يسند إليه دور تلفظي ما في تضاعيف المواظفة الشعرية في الديوان، بحوزته التنصل، نصيا أو تخييليا، من هيمنتها التلفظية على كامل الضمائر و، بالتالي، على أدوارها المترسمة. في هذا الاتجاه نلفيها تستفرد، مثلا، بهذا التوضّع العشقي / الفردوسي الدال و تتقاسم مع الشجرة، التي هي إحدى لوازم النضارة العدنية، سيرة تراب مسقط الرأس.. التراب الذي تشرّب الماء الزلال، أصل الحياة و الخصب، و ذلك بمقدار تشرّبه الدمع و الدم، نذيري المواجع المستديمة و الآلام اللاتنتهي:
الشجرة…
التي سأغرم بها بعد قليل
داعبتني بكل عصافيرها
غردتك لها
صدقتني
المجنونة !
و قاسمتني سيرة التراب.
- "عصافيرها"، قصيدة "غابة مني"، ص 7
أو، أكثر من هذا، تتقمص هيئة شجرة الرمّان فتتلاشى الحدود بين الأنثوي و النباتي و تمسي للشجرة نتوءات مغوية و تضاريس مشهّية و لكأنما هي امرأة محتقنة بالرغبة، طافحة بالالتياع:
قانية
كانت أزهاري هذا العام
موسمي زاخر
أفلا تمرّ من هنا ؟
لأبذل لك حبّاتي
حلمة، حلمة
كم ذراعا تودّ لو يكون لي ؟
لأضمّك بما يكفي
أنا
شجرة الرمّان النحيلة.
- "بما يكفي"، قصيدة "غابة مني"، ص 8
و لأنها تستشعر هويتها الأنثوية، كما الوجودية، في أيّما عنصر محسوس أو مرئي في جغرافيا مسقط الرأس الوديعة، المعطاء، و الحنون فلم لا ترتدي، هذه المرة، سيماء سفرجلة لا يضيرها في شيء أن تتأجّج لذائذ و انتشاءات:
كاد القلق يفلق قلبي
هل أنزلق إلى أعماقه ليخبر قطري
أم أبقى في فمه لأخبر لذّته ؟
كلانا صعب.
- "سفرجلة"، قصيدة "غابة مني"، ص 12
اختلاج عشقي بهذا الاحتدام لا يمكنه أن يتحقق إلاّ في نعيم / ضيق مسقط الرأس، إذ هناك يصبح للحب مغزى كطاقة للتسامي الكياني و الاغتباط الأونطولوجي، كموقف تصالحي، تواددي، مع الآخرين و مع العالم، لذلك فحالما يقتادها، أي الأنا الشعرية، قدرها الأهوج إلى حاضرة:
تنهض
بيضاء تقطر
و الريح بأدب جمّ
تمسح النعاس عن الأشجار
…………………
…………………
المتروكة لحريتها.
- "زيورخ"، قصيدة "كلما أرادوا لي"، ص 27
حاضرة ترشح اتساقا و نقاوة و لا تكدّر صفحتها نشازات البؤس و لا تبقّعات العسف التي تمسك بتلابيب ذاكرتها المتيقظة حتى توقن في انشدادها الوثني، أكثر من أي وقت مضى، إلى مسقط الرأس.. إلى تلك القارة المتنائية، على شراسة طبيعتها و بدئية معيشها، و تعلقها بترابها، مائها، و هوائها.. بلغاتها، نبراتها، و مروياتها.. بالحلم الجمعي المنتكس الذي يبقي، رغم كل شيء، على حيز للحب و الهيام و الوصال الخلاق و لا يمحوه، امّحاء وطن برمته، كما قد تجني على ذلك، ياللمفارقة، حرية الحياة، هناءتها، و نعماؤها، أو، بالأصح، تشيّؤها البارد:
حين أنت لست الحب
و كلماتك زبد
لماذا عصرتني في زاوية المطار
و سقيتني من فمك حتى اللظى ؟
حتى أنت لست لي
لماذا لوّحت
من خلف زجاج الشهر السابع،
انتفضت لرائحتي في أصابعك
و أنا أنزل الدرج
وحيدة ؟
- "نبيذ"، قصيدة "الذي أنا أرملته الآن"، ص 38
و لأن الماء إكسير الحياة و شريان استمرارها فما من استحضار لمسقط الرأس إلاّ و يسوق المخيلة، بالتبعية، إلى استحضار موئله الأزلي في الجغرافيا الكردية، ألا و هو نهر دجلة. لذا سيغدو لوذ الأنا الشعرية باستعارة النهر لوذا بصميم الحياة و نسغها و تموقفا دالا من جماع صنوف الموت التي يكابدها الوطن، أرضا و بشرا و ذاكرة و أملا. إن استعارية النهر في الديوان لتجنح به من درك الكينونة المائية الصماء إلى علياء الأسطورة العارمة، المرخية بمفاعيلها على الأشياء و الآدميين و المآلات، و من ثم سيمتلك، و هو ينتقل، استعاريا، من طور إلى آخر أعقد، أسباب مضاهاته الرمزية المستحقة لأنهار حولّها الخيال الشعري، أو الروائي، إلى أمثولات ميثولوجية حية. في عداد هذه الأنهار لنا أن نذكر، مثلا، "دانوب"فريدريش هولدرلين.. "كونغو" جوزيف كونراد.. "الدون الهادئ" لدى ميخائيل شولوخوف.. "ميسيسيبي" مارك توين".. "أمازون" خورخي أمادو.. "كانج" طاغور.. "لاغارون" سيرج بّي.. "بويب" بدر شاكر السياب.. "نيل" محمد عفيفي مطر..
نهر يتمظهر مقطعا هيراكليطيا متجبرا على هذا المنوال لابد و أن تكون له اليد العليا في جسد الأرض و جسد ساكنتها دفعة واحدة، إذ يمسك بخيوط الحياة في كلياتها و مستدقاتها، فهو من يفصّل الفضاءات و يرتب الأرزاق.. يعيّن الأثرياء و المعدمين.. يصطفي الطيّبين من الأراذل.. ينتقي الثوار من الخونة.. لكنه هو من يوحدّ، فوق ذلك، المشاعر و يعضَد إيمان الجميع بالحرية و الجدارة و لو كان الثمن هو الموت و يؤجج، في شغاف قلب الأنا الشعرية، ذات الهوى المبذول لحبيب يتقنّع بأكثر من قناع:
أمعنت في الشرود مع العجائز، يشربن
الشاي حول المدفأة، ينسجن الجوارب الصوفية للرفاق في
الجبال، و الرفاق في الجبال استشهدوا، تركوا زهورهم على
أيدينا و انطفأوا.
دفعت العجوز شرودها إلي و قالت:
- من له بزهور ابني يا بنية ؟
- ابنك، حبيبي يا خالة
حبيبي أطفئت عيناه
لمن أستحم بالقرفة بعد الآن ؟
لمن أدهن قدّي بالنعناع ؟
حبيبي صار حجل
اسدلوا الأسود على المرايا
اسندوني إلى النهر
قولوا
هذي كردستان أيها النهر
فإلى من تسيل ؟
- نص "سيرة نهر"، ص 82 - 83
و النهر، الذي هو جزء من تراث كردستان الطبيعي بل و أحد أوجه هويتها، لا ينثني عن ركوب مزاجه الأزلي و ينحدر جنوبا، مباعدا ما بينه و بين شمال أصيل، كيما ينهرق جزافا في نقطة ما على شطّ العرب ليستحق سؤالا استنكاريا، تأنيبيا، كهذا الذي تصوغه الشاعرة: "هذي كردستان أيها النهر.. فإلى من تسيل ؟ ". إنه ناموس الطبيعة الذي يأخذ هنا رمزية التّنكر لأرض، تركها و شأنها، و الأمرّ من هذا تحويل خيراتها المائية إلى جغرافيات محسوبة على جنوب صحراوي، مستذمّ، يستقر في المتخيّل الكردي كمصدر لكثير من الخطوب و المكابدات. إن تقاطبية الجنوب و الشمال تلوح دوما محسومة لصالح هذا الأخير، و نظرة سريعة إلى الأدب الكردي تؤكد، بما لا يدع مجالا للتردد، على الانحياز الروحي القوي، نظير ما نلقاه في الأدب الياباني كذلك، الذي غالبا ما يعرب عنه المبدعون الأكراد، و هو ما يمكن العثور عليه في أعمال سليم بركات بل و يكفي أن نتأمل عنوان ديوان الشاعرة آخين ولات "ريح الشمال" حتى يتضح لنا رسوخ هذا الانحياز اللافت، إلى شمال يتجسد، إبداعيا، كوجهة كوسموبوليتية استثنائية مشرعة على الفتنة كما على الفاجعة، كمناداة باطنية غامضة تستوجب الانصياع و تمام الإيغال، صعدا، في شمال أرض عذراء لا تضارعها و لا أية بقعة أخرى.. فكّ طلاسم طفولة شعب فريد، مأساوي.. و تلمّس نكهة المحضن الأول الذي آوى أسلاف السلالة و إدراك كيف انبجست ملحمتها الهادرة و الحزينة و انطلقت تغريبتها في منقلبات التاريخ و مطبّاته. فشغف الكردي بالشمال لهو توثيق لعرى تواشجه مع جذوره، حقيقته، أو، بالأدق، مع أوّليات نازلة وجوده بالأصل:
عاريان من كل حب، تعال نعبر للخيال، نمتحن أصابعنا، هل تكفي لتدوين كل هذا الدم ؟
إنهم هناك، على أطراف دجلة ينتظرون، يسقون أطياف
خيولك العائدة، ينفضون الرماد عن لحاهم، يعطرون
الأغاني، يلقّنون الدفوف قصائد "الجزري" متيّمين بالرب
الذي قادك جنوبا و ينتظرون
ترجّل عن اليرموك و تعال نمضي للشمال..
- نص "أنا صباح الأرض في هولير"، ص 87
قد يذعن النهر، أو لا يذعن، لرغبة شعرية مكينة و رعناء من هذا النوع، و قد يصبح الشمال ملء البصر و البصيرة أو يخلد حلما عصيا و متعذرا، أما الأنا الشعرية فقد وطّنت نفسها على الإقامة الرمزية في حدود هويتها، موتورة على عشقها و مداومة على تصاريفه و أنوائه، و لا يهم أن تتواجد، لفينة، في ما يشبه أرضها، أو أن تستضاف، لفينة أخرى، في أرض ليست بأرضها:
كوردية من نرجس أتقدم في الأسرار لأولي وجودي متاهة
المعنى. أناديك بأعذب الأسماء في خفقة جناحيك خارج
دائرتي. أسند قلبك كل مساء، و أظل كالشرانق أستسقي
اللون في شهوة الحرير لتنضج لك كل نساء الأرض فيّ حين
أنت لي.
و أنسى
أن أسير مستقيمة منذ علمتني الدوائر.
- نص "قامتي الريح المزيّن بألف جديلة"، ص 126
- 3 -
ولأنها فعلت كذلك، أي الأنا الشعرية، فما من شيء أليق، في الواقع، بمصطنعتها، نقصد الشاعرة، من الإقامة الرمزية في فضائية الكتابة و رحميّتها. فهي لم تكفّ، من خلال تقنية مرآوية سافرة أحيانا أو مستضمرة في أحايين أخرى، من استمراء أنوثتها في آمال وطن و نكباته و تمرية هذا الأخير في توجّسات الأنوثة و تشقّقاتها العشقية الفادحة، ملقية بكامل عتادها التخييلي في هذا المعمعان المكلف، لكن هل في مكنتها، و مكنتنا نحن أيضا، القول بتملّكها لأحد الطرفين، أو لكليهما، و تصفية الحساب معه فعليا و بالمرة؟
لعل موقفا إشكاليا كهذا لهو أدعى إلى التّنسيب و التّواضع لا لشيء سوى لأن قدر المبدع هو أن يهندس حقائق إبداعية، لا دنيوية، و لأن مأواه إلى هذه الحقائق دون سواها. من المحقق أن الشاعرة لم تتوان عن الأخذ بيدنا، بمزيج من الرفق و الاندفاع، إلى تخوم عالم مستهام تتداخل فيه الأمكنة و الأزمنة و الضمائر.. تسري فيه أحداث، مجريات، و سيرورات.. تواريخ، محكيات، و مفارقات.. لذاذات و أتراح و تطلعات.. يقيم فيه الأهل، الجيران، و الأصدقاء.. الزعماء، الثوار، و بسطاء الناس.. أحبّة متنوعون تنخرط معهم الأنا الشعرية، المفطورة على البوح و الشكوى، في تجاذبات كلامية حول الجسد، الحب.. الأرض، التاريخ، الثورة.. بيد أنه يظل، مع هذا، عالما مستحيلا، متمنّعا، استحالة و تمنّع كردستان عن الانبساط وفقا لما ترغب فيه القصيدة و استحالة و تمنّع الحب عن الحلول أعزل من المعاناة و الاحتراق.. من التمزق و البرحاء.
إن قدر الشاعرة هو أن تقيم في قصيدتها ما دامت هي موطنها الرمزي، و أن تحيا أنوثتها داخلها لكونها المدى الذي بمقدوره إتاحتها و الإفراج عن مخبوئها المرجأ. أمّا خارج هذا فلا حرج في أن تغنم مزيدا من الحرية في مغتربها - غرفتها المتراحبة، أي مدينة زوريخ الموضّبة، مجالا و معمارا و بشرا و علائق و قيما.. على مقاس عقل تدبيري صارم حدّ الضّجر.. زوريخ المنمّقة، المتنعّمة فوق اللزوم، من فرط التقدم و الحداثة، حدّ القنوط.. كيما تستنصت جيّدا تراجيديا شعبها، ذلك ".. أن المرأة، كما تشير وولف في (الغرفة) منتمية و لا منتمية، صامتة و منتجة كلام في الوقت ذاته. إنها كائن تشكّل اجتماعيا لكي يصغي، بصبر، إلى الرجال، و لكنها تستخدم فضاء الإصغاء الهادئ لتخلق فضاء لنفسها تستطيع أن تفكر فيه" ، أن تفكر، ضرورة، من مسافتها هاته في لماذا ".. تراوحت حظوظ الأكراد في النجاح و الفشل في نضالاتهم في الأقطار الأربعة، فكان أقصى نجاح لهم في غرب إيران في أربعينيات القرن الماضي، حيث أعلنوا تأسيس جمهورية على طراز الجمهوريات السوفييتية أطلقوا عليها اسم جمهورية مهاباد، و لكنها لم تعش إلاّ لمدة 14 شهرا، قبل أن تقضي عليها حكومة طهران بمساعدة بريطانيا. و في تركيا ما يزال حزب العمال الكردستاني يقاوم السلطات التركية في عصيان مسلح يتصاعد و ينحسر. و في سوريا تحدث انتفاضات محددة بين الحين و الآخر من أجل حقوق المواطنة أو من أجل حقوق ثقافية، أمّا في العراق فكان حظ الأكراد هو الأفضل نسبيا" .. و أيضا في لماذا، باعتبارها كردية سورية، حصل ".. منح هويات سورية لبعض الأكراد دون بعضهم الآخر ما أسفر عن وجود أكثر من 250 ألف كردي لا يتمتعون بالمواطنة و حقوقها في البلاد" .. ثم أن ترعى نوستالجيا الذات، المعتنفة، إلى الوطن بترابه و مائه و حجره و هوائه.. و أسبق من هذا إلى الوطن بأناسه.. أي إلى تلك السماء الأولى، بتعبير سعدي يوسف، المدثرة لقارة في ضيق و اختناق كردستان صودرت، قسرا، حتى من الدّياسبورا الكردية المطوّح بها في أرجاء المعمورة و مناكبها.. لها كذلك أن تمجّد مآثر القاضي محمد، رئيس جمهورية "مهاباد" الكردية، و تحتفي بنضالات عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، و الناشطة الكردية الكاريزمية سيباهات تانسيل، أي بكل أولئك الذين آلوا على أنفسهم البحث عن طريق إلى كردستان، أي إلى أرض الكرد، و أن تؤبن جموع الشهداء الذين دفعوا مهجهم فداء لهذه الأرض.. لها، في كلمة، أن تنجح، في هذا الديوان بخاصة، في تشييد رواية شعرية مؤنثة، مكتنزة و نوعية، لتاريخ شعبها، من عيار ما صنعه الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في كتابه "داغستان بلدي" و الروائي الجنوب - إفريقي ألان بّاتون في عمله "آه.. إبك بلدي الحبيب".. لها، إذن، سائر هذا و أكثر، لكن بالنسبة إليها، هي بالذات، هي الشاعرة، فلا فوزها بمزهرية، مموضعة بعناية في غرفتها، تسهر على كدس متضائل من تراب مسقط الرأس ،و لا حتى ترضيّتها، مثل جدتها الكردية السحيقة، بحدائق بابل الغنّاء المعلقة ، تلك الأعجوبة الحضارية الخالدة، لا هذا و لا ذاك بقادرين، فيما نرى، على تمكينها من أرض، و أيضا من حب، بالكثافة، الائتلاق، و اللانهائية التي تتأتى، في البدء و المنتهى، من انغداق الكتابة و أريحيتها، بله مأساويتها، ما دام فيها لوحدها متّسع للمواطنة الحق و الحب اللامعلوم بعد. أفليست القصيدة وطنا رمزيا يستعاض به عن أوطان حقيقية و تدارى في حميميته محن الوقت و شدائد التاريخ كما ترمّم في هدأته جراحات الروح و أعطابها مثلما قال الشاعر الألماني المأساوي فريدريش هولدرلين:
و كانت جدتي تزور الشيوخ، تكمل على زجاجة حبري ماء
من ثقوب أضرحتهم تعيد إليّ الزجاجة و تقول:
- ليكون لك علمهم و صلاحهم
ها أنت تنهض فيّ نورا، ها أنت تعصرني إلى صدرك لأسيل
حبرا، تدخل نداوة الفجر لتسبغ الدمع على أصابعي و أنا
أدوّن المرايا لأخرج من عتمة عينيك و أكون نقيّة كقلب أمي.
- هل أنت دعاء جدتي ؟
- نص "سيرة نهر"، ص 80