لا يقنع الرضا الشعبي الشاعرة الاميركية كاي راين. على نقيض ذلك، تظنه خطأ جسيماً. يتعذر على بعض القراء ربما ان يدركوا قصائدها، غير أن ذلك لا يبدو هو الآخر، مسألة ذات شأن في رأيها. ازاء هذا النوع من المعوقات، يعجبها ان تستعيد بيكاسو، لتستنير.
أفصح الفنان الاسباني مرة، ان ستة أشخاص كانوا يفهمون ما يفعله قبل أن يعرف احدهم من يكون، وعندما صار الملايين يعرفونه، ظل الاشخاص الستة عينهم، الوحيدين القادرين على فهم فنه! يتراءى ان شعر راين العصيّ على التهليل الشعبي، صار لقية جائزة "بوليتزر" للشعر هذه السنة، وهي ركنت اليها قبل حين عن مجموعتها "أحسن ما فيه: قصائد جديدة ومختارة". من الراجح ان يكون أعضاء لجنة التحكيم، جمهور راين الشعري المختار.
لا يقنع الرضا الشعبي الشاعرة الاميركية كاي راين. على نقيض ذلك، تظنه خطأ جسيماً. يتعذر على بعض القراء ربما ان يدركوا قصائدها، غير أن ذلك لا يبدو هو الآخر، مسألة ذات شأن في رأيها. ازاء هذا النوع من المعوقات، يعجبها ان تستعيد بيكاسو، لتستنير. أفصح الفنان الاسباني مرة، ان ستة أشخاص كانوا يفهمون ما يفعله قبل أن يعرف احدهم من يكون، وعندما صار الملايين يعرفونه، ظل الاشخاص الستة عينهم، الوحيدين القادرين على فهم فنه! يتراءى ان شعر راين العصيّ على التهليل الشعبي، صار لقية جائزة “بوليتزر” للشعر هذه السنة، وهي ركنت اليها قبل حين عن مجموعتها “أحسن ما فيه: قصائد جديدة ومختارة”. من الراجح ان يكون أعضاء لجنة التحكيم، جمهور راين الشعري المختار.
رأت كاي راين النور في منتصف الأربعينات من القرن المنصرم ونشأت في كاليفورنيا، الى حين استقرار أسرتها في روزاموند، وتلك قرية صغيرة في صحراء موجاف. التحقت بجامعة كاليفورنيا لوس انجليس، وكانت في صدد نيل دكتوراه في النقد الأدبي، الى حين إحساسها بالاشمئزاز، على قولها، من فكرة ان تصير حاملة شهادة دكتوراه “في شيء تعجز عن تحديده”. كانت الى ذلك الوقت على ما تروي، تقاوم إلزامات الشعر تجاهها وسطوته عليها. غير انها في احد الأيام، وفيما كانت تركب دراجتها الهوائية، ضرب ذهنها المشوّش ما يشبه شعاع لايزر، لتدرك ان الكتابة التي كانت تتفاداها في وسعها ان تمنحها الغبطة، كما لا يمكن شيئا آخر ان يفعل. وجدت الإجابة، غير انها لم تكن تملك أدنى فكرة عن السبيل الى ان تصير شاعرة بالمعنى العملي. كان هذا شأناً مختلفاً، من اصناف البحث والتمرس.
والحال ان قصائد راين اللاشخصية خلال العقود الخمسة الماضية، كانت نسخات أكيدة من الذاتية، وإن تبدلت في النوعية. يمكن فكاهتها ان تتبدى مستحوذة أو خجولة، ويمكن كآبتها ان تتشكل من معدن الدقة او حب العنف، ويبدو ان مجموعتها الاحدث، “أحسن ما فيه: قصائد جديدة ومختارة” بالانكليزية، الظافرة بـ”بوليتزر” 2011 لا تشذ على القاعدة. صدرت المجموعة لدى دار “غروف” المستقلة التي نشرت أعمالا لشعراء عدة من جيل الـ”بيت”، من بينهم جاك كيرواك وآلن غينسبرغ. والحال ان السحب والروزنامات والوقت والعصافير، اي كل شيء في المطلق، يجد في لحظة لقائه بنظرتها، صفاء كاملا.
تستر سطور المجموعة المنسقة ذكاء هائلاً ودفئا في النبرة، وثمة قدرة شرسة ايضا بغية ايجاد نواة الأشياء. تؤكد مجموعة “أحسن ما فيه: قصائد جديدة ومختارة” ان راين باتت شاعرة اميركية كلاسيكية. الاعلان مفاجئ بالكاد، ذلك ان السيدة تبوأت في الأعوام الماضية منصب الصوت الشعري الاميركي المكلل بالامتيازات. وعلى رغم مقارنتها بروبرت فروست لأسباب وجيهة، يشكل مؤلفها الأحدث تجلياً، بدءا من القصائد الجديدة، عمل شاعرة رعوية مرتاحة الى سبيلها الخاص وانما واعية تماما لتكلفة الاكتفاء الذاتي. تكتب في “لمعان وبلسم” وهي قصيدة في شأن لغز يحوط اغراض سيدة راحلة: “ليس ثمة مرطب/ في وسعه ان يسكّن رجولة/ التخلي”. تضيف في شأن تلك المرأة: “ادركَت/ اي لمعان/ وبلسم/ يخلفه مرور/ المرء البسيط/ في وسط اشيائه”.
والحال ان شعراء اميركيين قلائل استخدموا البيت المضبوب بهذه الحرفة، ليأتي الاثر الجنائزي بتلك الطزاجة.
من الراجح ان تكون كاي راين الشاعرة الاميركية اليتيمة التي تعدّ مسارها الكتابي “حالة طارئة مفروضة على نحو ذاتي”، اي المرادف الكتابي لايجاد احد الاحباء عالقا تحت سيارة تزن اكثر من طن. تسمح هذه الاوضاع الطارئة باستحضار امكانات ليست في حوزتنا في الاوضاع العادية، فيظهر من يرفع بيد واحدة المركبة الثقيلة. في حال راين، ان ما ينجو من اوقات الضيق تلك، نبرة فريدة ورؤيا غير مكرورة. دفع هذا بالنقاد الى الاحتفاء بقصيدة راين المضغوطة الحجم والمتمتعة بالدقة التقنية والفطنة والحكمة، لأن صاحبتها استطاعت ان تفعل امورا وأخرى، تعذّرت على مجايليها.
يدلل على الشاعرة الاميركية في حالات كثيرة "دخيلة". ولأنها من الناس الذين يصعب توقعهم، لا توفر السيدة الخارجة على التيار السائد، المنتسبين الى الفن الخارج على المألوف من ملاحظاتها اللاذعة، وهي تجزم ان ليس ثمة مساحة في وسعها ان تلبي حاجات هؤلاء. تحارب راين رغبتها في الكتابة بضمير المتكلم، وتفضل عليها القصائد الشخصية بأسلوب يشوّش المعايير، فلا يقدر احدهم على فهم ما يجري على وجه التحديد. عوضاً من السرد والسيرة الذاتية، تستخدم التهكم والفكاهة للكشف عن فرادة اللغة ونكبات وجود الانسان. تبدي شغفاً بالكليشيه والألفاظ المستعملة بطريقة سيئة، كأداتين يعدّهما شعراء عدة من المحرمات. تستخدم الايقاعات الخفية، اي تلك التي تظهر في وسط الابيات الوجيزة، عوضا من نهايتها، في حين جعلها ميلها الى الايجاز تعرَّف بأنها شاعرة التكثيف. يروق كاي راين أن تعصر الاشياء الى اللب حدّ الانفجار، غير ان ذلك لا يعفي قصيدتها، حتى أصغرها، من التهوئة والانسياب. ترى الشاعرة انه ينبغي للقصيدة ان تبدو كحقيبة المهرج. يفتح المهرج الحقيبة ويُخرج منها كمّا من الاغراض. القصيدة كالحقيبة، لا يسع المرء ان ينتهي من افراغها تماما.
كاي راين شاعرة وجدت درباً خاصة في الشعر، كما في معيش آثرته. على مر الاعوام، كان كل جديد في قصائدها يقرأ على نسق "المختارات" بسبب غناه. أما اليوم، في "أحسن ما فيه: قصائد جديدة ومختارة"، فتقطر راين جسد عملها المتقن، اكثر. ها هنا مختارات للشاعرة من أكثر من مئتي قصيدة، توفر للقراء الدؤوبين والجدد على السواء، مقاربة مذهلة لعملها المبكر، الى جانب مجموعة سخية من القصائد الجديدة. اما النتيجة فحدث منتظر في الشعر الاميركي، عمل ينبسط على خمسة واربعين عاما، له في الفطنة والتمرد ناهيك بالحنان والبهجة.
قصائد كاي راين هزيلة كعارضات الازياء بلا ريب. غير ان دسامتها اللغوية والصورية تناقض السهولة. وليس ثمة غرابة تاليا في مقارنة قصائد راين ببيض فابرجيه، ذلك انها أدوات صغيرة وذكية تخفي سحرا خفيا. ان صوت الشاعرة مستفهم وقح، وفكاهي ايضا في أساليب غير مريحة، يخدشه الفشل والفقد. اما البراعة ففي حمله شيئا من الغرابة، وتقديمه بعض الحركات الخرقاء التي تدفع بك الى ان تدنو منه. ان كتاب راين سخي ويعبّر عن مسارها. نقول انه أفضل الافضل ومن دون تردد. أما عنوان المجموعة "احسن ما فيه" فاستعارته راين مدمّرةً شعرية منمنمة من مجموعتها "نهر نياغارا" (2005)، وهي كناية عن قصيدة تامة حيث نقرأ: “قدر ما تشتتنا/ او قلّ شأننا/ نواظب على التصرف على أفضل نحو كما لو/ اننا لا نعير اهمية/ الى الفدّان الذي نملكه/ وصار بحجم القدم المربعة”.
لأن كاي راين ترعرعت في أماكن نائية، بعيدة من كاليفورنيا مسقطها، تُظهر تعاطفا جليا مع اولئك الذين يأتون الى الشعر كأنهم يصلون أرضا غريبة. غير ان قراءة “أحسن ما فيه” يثبت ان راين، على نسق الشعراء ذوي الموهبة الحقيقية، ديموقراطية، وإنما نخبوية ايضا، تؤمن ان كثيرين مدعوون، لكن القلائل سيختارون.
النهار
6-5-2011