n11051707.jpg

هناء البواب

(الأردن)

 

صباح عمان الجميلة، صباح الوجوه التي تستقبلك في خاصرة شوارعها، صاحب عربة الكعك الذي نزعوه من زاويته، وقد امتهن الصراخ على حلقات خبزه، والصغار يتسابقون لشراء تلك الأطواق منه، ويطلبون فوق ذلك زيادة حصصهم من ورق الجرائد المملوءة بالزعتر المالح، ولكنه اليوم صامتٌ في اللوحة الكبيرة وهي تعج ّبأبواق السيارات ومخالب الجرافات حين تأكل الأرض تمهيدًا لبناء جديد. صباح ماسح الأحذية بعينه الكريمة حين يجثو الرأس ويقارب موطئ القدم، صباحات الأخرس بائع اليانصيب، تتفاءل به وبعافيته، لكنه لا يُربحك مرة، لتعطيه ما وعدته به.

صباح الكائن المشتكي دائماً من أوجاع الصحافة، وأثقال العائلة، ورسوم المدارس، وأعطال سيارته، وطلبات زوجته، والمستثقفين.

صباح الصديقة التي ما برحت تشكو من ضيق النفس، ومن زحمة عمّان.

صباح الضيق حين يعرفون أنك سعيد كما لو أنهم فقدوا الضحك، وصباح الفرح والألق حين يعرفون أنك مهموم وحزين، صباح الأعباء حين يسمعون أنك مسافر ليحمّلونك قهوة طازجة إلى صديق يحنّ إلى قهوة أمه، أو علبة من حلوياتهم إلى مهاجر متعب ويريد أن يجرّ الحزن في شرفته الفقيرة مساء، يحمّلونك حلوى ومكسرات من نكهة عمان، متوقعين أن تُردّ عطوراً، وملابس جديدة، وصرعة من صرعات العصر.

تلك عمّان التي أضاعوا بين دروبها ما تساقط من سجّادة الياسمين، وهدّتها شرفات خلتْ من نساء أزهرت أنوثتهن من سنين، وترجّلنَ من صهوة الجفون، هذه عمان بصباحاتها المتعبة حين يعتريه في الساحة دمعة. يرهقك الحنين، فتتوه في شوارعها كصمتك الوحيد، والصمت

فيرعبني وفاء هذا الحزن القاتل في شوارعها، الطاعن في شيخوخته، لعلها بدايات فصل الشتاء، تجعلني كئيبة بشكل لا يطاق، كشبح يمضي بين الأحياء الأموات.

عجيبة عمّان...لماذا نفتش دائماًعن وطن نرمي عليه همومنا، نرتمي فوق ترابه، ننام، نحلم، نبكي

نعري أرواحنا، نرفع أيدينا، ننتظر القدر، لماذا نرمي بأحلامنا على ظهروطن؟؟

فحين نحب نفتش فينا عن وطن نسير في طرقاته، ونشم عبير بساتينه، ونقطف عناقيد ثمره، ونفترش سماءه، ونستلقي على أرضه، نرقص على إيقاعه، ونتعبد بمحراب قلبه، لماذا نبحث عن وطن نفتش فيه عن ملامح طفولتنا، ودُمانا وآلاف الصور، لماذا نحضن فيه غربتنا؟؟

فقط لأنها عمّان...

فصباحات عمان مختلفة، طاعنة في الوجْد، لذلك علينا أن نقف ببابها فجرا بضع دقائق بانتظار أن تُفرج عن أشواقنا وتسمح لنا بالدخول. وكأنّ خيال قاماتنا الذي تعكسه مراياها كافيا لمضاعفة الشعور بالأسى والقنوط.

ستلوح لك على الزجاج صورة امرأة جاءت من الخلف لاهثة تخترق الصفوف، وثمة أصوات مدوّية تتطاير مع أنفاسها، كأن خزينة من عصافير محبوسة داخل قفص صدرها تحاول دفع الصباح بكف موشّاة بالنمش ومن تحت عينيها تفوح رائحة الفرح، وحدها ستشعرك أن عمان جميلة وصباحها مختلف، لأنها ستحتضنك بأشواقها، وتخبرك أن عمّان مختلفة بلون الجرح القاني، ستجدُ في حبيبتك ظلٌ، والظل. وطن.

كلّ ساحات الصبح هنا تنتظر، كلها غادرت في الليل أماكنها، مسكينة عمّان لا تدري

أن العشّاق، وأغانٍ تتردد في أيلول مسحتها الشمس.ليأتي الصبح على خجل يسترق النظر إلينا من نافذة البيت، مشفقا على العيون الساهرة ووشوشات الأسِرّة الدافئة، يعتذر منها، ويتنفس بملء رئتين عطوفتين بالحياة.

 ثم يحين الوقت، فنتركها حيث هي مُسّجاة بألحان أسطوانتها التي تُحب، مُتمعنين يديها القاطرتين بالحب باندهاش تام، فنغسلهما بزادنا الشحيح من الرحمة، ثم ننفث عن أوراقنا آلام المخاضات والليالي الطِوال.

سيركض العابرون الى أشغالهم بجنون، ككل يوم! ولا شيء مهم يتغير إلا حالة الطقس. وفي مسيرنا الطويل، قد يعبر أجسادنا النسيم البارد، يتسرب إلى هوة في أرواحنا تبحث عنا.

 عندها فقط عليّ أن أترك كفّي التي شابها شيء من الدم في كفٍ أخرى تراود الشجرة عن تفاحة.