يضربه بنبوته حتى أسقطه صريعاً، فيحمله على كتفه ويأخذه إلى أصدقائه الذين يبهتون عندما يكتشفون أن الشبح لم يكن إلا امرأة يعرفونها جميعاً تسكن بالقرب من الحفرة . إن البطل في هذه القصة يجسد فكرة واقعية أراد منها الكاتب أن تكشف عن سقم بعض المعتقدات المسيطرة على المجتمع، فهو بذلك يمثل الشخصية الجديدة التي يبشر بها المجتمع الحديث بعد التغير الاجتماعي والاقتصادي . فلقد جاءت هنا لترفض ما ورثه المجتمع من المرحلة التقليدية من مأثورات تتصل معظمها بالإيمان بالقوى الغامضة . فحتى فترة متأخرة كان مجتمع الخليج العربي يستقبل كثيراً من الأحاديث والروايات عن ( السعلوة ) و (الغول) ونحوهما . ولقد راعى الكاتب في هذه القصة ما يرافق عمليات الرفض والمجابهة لبعض الأفكار المتغلغلة في المجتمع والمترسبة في أذهان العامة من مظاهر القلق والتردد المشوب بالحذر، فهو حين آثر تصوير الحركة الداخلية لشخصيته، كشف لنا عما يساور الطبيعة البشرية في مثل هذه اللحظات الحاسمة من مخاوف رغم ما يغمرها من يقين . ونجد ناصر يقبل على لحظات شبيهة بذلك، حين يصف الكاتب مشهد وصوله عند الحفرة، لأنه أراد أن يضع أمامنا قواماً نفسياً متماسكاً في بناء شخصيته التي انطلقت نحو موقفها من يقين حقيقي، ولكن لا يسلم من الامتحان النفسي القلق الذي يضرمه ما علق في الذاكرة والوجدان من رواسب يرفضها، ولعل ذلك يؤكد لنا حرص الكاتب على سلامة البناء الفني للشخصية في القصة، فهو يريد لها أكبر قدر من الإقناع، وأكبر قدر من الصدق الواقعي، وأكبر قدر من التشكل في سياق قصصي مترابط . وفي قصة (الشيخ والعصفور) لفهد الدويري نجد نمواً حقيقياً في استيعاب المفهوم الواقعي في القصة القصيرة، وربما أشارت هذه القصة إلى تمثل هذا المفهوم بأسلوب يختلف عما جرى عليه كتاب القصة القصيرة خلال هذه الفترة، إذ أن الدويري يتوغل في جانبين متوازيين : يتصل الأول باستجلاء مظاهر البيئة المحلية وتسجيلها بصورة حية نابضة، تستمد حيويتها ورصانتها الواقعية عبر اتصالها الوثيق بموقع الشخصية، وإيقاع حياتها ودلالات وجودها. ويتصل الثاني بالتوغل الدقيق في تصوير النموذج البشري والدخول إلى جوانبه الإنسانية من خلال أكثر اللحظات شفافية وخصوصية . وقد رسم الكاتب هذين الجانبين وجعل شخصية (الشيخ) من خلالهما قريبة كل القرب من نفوسنا بما أشاعته من معاني صادقة محببة إلى النفس، حتى استحال الشيخ إلى لوحة فنية كاملة لا تنقصها اللمسات الأخيرة، فمنذ البداية يصف المظهر الخارجي الذي ينم عن الإحساس الداخلي للشخصية ويجعل صورته الخارجية هذه معبرة عن مشاعرنا الداخلية نحوها كي يجعلها أكثر قرباً وصدقاً : (سار الشيخ الأعرج متجهاً صوب دكان البقالة الذي يملكه في سوق المدينة، وصوت عكازه ينسجم مع صوت خطواته الهادئة، وقد كست وجهه سيماء الطيبة والبراءة واللطف ... كان من أولئك الناس الذين ما إن ترى وجه أحدهم لأول مرة حتى تشعر بالميل إليه، ميلاً مشوباً بالعطف والاحترام دون أن يكون لك به معرفة سابقة، ودون أن تدرك السر في حبك له) (26). وبعد أن يصور الكاتب جوانب من رتابة الحياة التي يمر بها يبصر هذا الشيخ صبياً صغيراً قرب (الدكان) يمسك في يده خيطاً ربطت في طرفه رجل عصفور صغير استسلم لتعذيب الصبي، بعد أن كساه البلل من الماء الذي رشته سيارة (البلدية) على الأرض، فاغتم الشيخ لهذا المنظر، وصمم على أن يفعل شيئاً لهذا العصفور. وبعد محاولات تمكن من شرائه من الصبي، وأخذه لدكانه وهو يحمله بيده في حنان بالغ، ولكنه رأى كسراً في جناحه فقام ليجبره حتى يلتئم الكسر ويطلقه في جو الحرية، وظل العصفور في دكان الشيخ يأكل مما يقدمه له، ويعبث معه، ويقفز من مكان إلى آخر حتى ألفه الشيخ وارتبط به وصار يبثه همومه ويحدثه وكأنه من البشر، وتمضي الأيام وهو يرقب جناحه المكسور حتى برئ . ورغم أنه كان قد ألفه وأحبه، فقد أراد أن يطلقه، ولكنه ما إن قذف به حتى هوى على الأرض وراح يقفز أمام صاحبه، فشعر الشيخ بالغصة لمرأى العصفور، وأدرك أن عظام جناحه التأمت على عظام الصدر فلم يستطع الطيران، وبذا ظل مع صديقه الشيخ في الدكان، وفي يوم جاء إليه صديق عرف بقول الشعر الشعبي وأحضر له عصفوراً آخر مكسور الرجل منتوف الريش، فأعطاه الشيخ كي يؤنس من وحشة عصفوره الذي كتب عليه العيش في(الدكان). ويتشاجر العصفوران في البداية ولكنهما لا يلبثان أن يتآلفا ويتسابقا في استقبال الشيخ عندما يفتح باب دكانه في الصباح، ويظلان كذلك حتى ينبت الريش في جناح العصفور الجديد، فيطلقه الشيخ لينعم بحريته، بينما قبع العصفور الكسير في ركن بين العلب وكأنه أحس بمرارة فقده للصديق الذي طار عنه، ويظل في عزلته وكمده لا يقترب من الطعام والشراب، حتى يفتح الشيخ دكانه يوماً فيجده قد مات، وحزن الشيخ، كما حزن صديقه الشاعر الذي وعده بأن يرثي الفقيد بقصيدة رائعة . ويمكن أن يكون الشيخ في هذه القصة، هو المثل الأعلى للصفاء الإنساني الذي تنطوي عليه الحياة الاجتماعية المحلية في الكويت، فهو بمثابة الوجدان البعيد العميق لهذا المجتمع، وقد جعل الكاتب هذا الوجدان في حالة من حالات البحث والشوق إلى معنى الحرية وأجوائها الطليقة، فالعصفور الذي تمزقت عظامه وقدر له العيش حتى الموت بين جدران مظلمة في الدكان،إنما يعبر بمعنى من المعاني عن الإحساس الداخلي لدى الشيخ بما يتعرض له جو الحرية في المجتمع من إجهاض وتمزيق . إن فهد الدويري يحاول في هذه القصة أن يبحث عن قيمة الحرية كما تتمثل في وجدان الشيخ الذي جعله مثالاً للصفاء والفطرة الإنسانية، فلا يمكن تفسير ذلك التواؤم الروحي بين الشيخ والعصفور إلا على أنه إطلاق لبعض الدلالات المفقودة في عالم هذا الشيخ، وتفجير لمواقعها في حياته الواقعية المألوفة، ويمكن أن تستشف ذلك من الارتباط الحادث بين الشيخ والعصفور، الارتباط الذي جعله الكاتب أكثر قوة مما يحدث بين الأحياء من الناس، ويصف لنا ذلك بقوله : (واعتاد أن يراه، وأن يحدثه كل يوم، مفضياً إليه بكل مالا يستطيع أن يفضي به لغيره، لقد كانت روح هذا الشيخ من الرقة والصفاء بحيث امتزجت مع روح هذا العصفور، فكان بين الاثنين ود غريب أخذ ينمو مع الأيام حتى صار ما بين الشيخ وبين الطائر أكثر ارتباطاً وفهماً مما بين الأحياء من الناس .. ولعل ما زاد في هذا الانسجام والود الرائع بين الرفيقين، أن العصفور قد ألف حياته الجديدة، وتكيف بها فلم يعد ينثر العدس على الحمص برجليه الصغيرتين، وكان يتناول الطعام من الإناء الذي خصصه له صاحبه فحسب في أناة وأدب، ولم يعد يزعج الشيخ بقفزاته المجنونة فوق العلب والرفوف، وما يكاد الشيخ يفتح دكانه في الصباح وفي المساء حتى يستقبله بزقزقة حلوة ينفتح لها قلبه، وتنتشي روحه . وما أن يجلس فوق دكته حتى يقفز الطائر وجناحه الكسير يتدلى بجانبه، ثم يحط على كتف الشيخ ويمد له منقاره الأشهب متطلعاً في وجهه كأنما يستطلع ما في قسمات الشيخ من انطلاق أو انقباض) (27). كل هذا يعني أن العصفور بدأ يبث معنى جديداً في حياة الشيخ لم يكن يشعر بها من قبل، أو أنه كان مفتقداً من حياته فعثر عليه الآن، لذا فليس من المستبعد أن يدل الوجود الشاعري للعصفور في القصة على شفافية الإحساس بمعنى الحرية والانطلاق لدى الشيخ، وأن يكون - أي العصفور - شهادة لها دلالتها على تمزيق أجواء الحرية، فنحن نشعر بقوة الارتباط والتماثل بين الصفاء الإنساني في الشيخ وبين رغبته في خلق الألفة والانطلاق والحرية لعصفوره الذي قيده الكسر، حتى جعل الشيخ همه الأول أن يرجع للعصفور قوته على التحليق والطيران، ويحقق له جو الألفة والبراءة والتفتح . وخلال ذلك يعطينا انطباعاً حقيقياً بأنه يبحث بالفعل عن منطق خاص لمعنى الحرية، فهو يقول محدثاً العصفور بعد أن فتح الدكان يوماً ولم يعثر عليه حيث كان مختبئاً : (لئن كنت أيها المجنون قد هربت تنشد حريتك فهذا هو الخطأ أيها الزرزور المسكين .. إن الهرب إلى الحرية ليس دائماً هو الطريق الصحيح ... كان الجدير بك أن تتقبل هذه العبودية حتى يقوى جناحاك ويشتد .. لقد بحثت عن حتفك برجلك). ويظل العصفور إلى أن يموت كمداً وهو يمثل قيمة من قيم الحرية المجهضة التي لا تجد أجواءها الحقيقية الملائمة رغم ما يبذله الشيخ من توفير جو الألفة والبراءة، وإذا كان العصفور قد كشف عن المعنى الممزق للحرية، فإن ذلك ما كان ليكون لولا اتصال الشيخ به اتصالاً أراد فيه أن يرتق المزقة المدمية التي أوحى بها العصفور الكسير ؛ والذي جاء في أكثر معانيه صفاء وبهاء وقرباً من تدفق النوازع الإنسانية في الحياة . ولعلنا نلاحظ من جهة أخرى أن المعنى الممزق والمكسور للحرية يتجلى أكثر في هذه القصة عندما أطلق الشيخ العصفور الثاني في جو الحرية بينما أصاب العصفور الأول غم شديد فامتنع عن الطعام حتى الموت .. وكأن الحرية بهذا المعنى لا تكون في الانفراد بالأجواء المطلقة وإنما في الاشتراك بها تحت سقف واحد . وبمثل هذه المعاني يتميز الأسلوب الواقعي طوال هذه القصة، فالكاتب لا يؤثر الأحداث الشاملة، ولا يرصد حضوراً عنيفاً لمشكلة بازغة ظاهرية، ولكنه ينفذ إلى لحظات في غاية الذاتية والخصوصية وكأنه في ذلك يحقق ما طالب به روجيه جارودي مرة حين رأى أن الواقعية ) لا تطالب العمل الفني بأن يعكس الواقع في شموله وأن يرسم خط السير التاريخي لمرحلة معينة أو لشعب معين، وأن يعبر عن الحركة الأساسية للمجتمع وعن أبعاد المستقبل . فكل ذلك مطلوب من الفيلسوف لا من الفنان . ومن الممكن أن يكون العمل الخلاق عبارة عن شهادة جزئية للغاية، بل ذاتية إلى أبعد الحدود عن علاقة الإنسان بالعالم في فترة معينة، ومع ذلك فمن الممكن أن تكون هذه الشهادة أصيلة وعظيمة ) (28). ويمكن القول أن الدويري في هذه القصة قد دل على أنه يتمتع بحس شعبي أصيل، تمكن به من أن يبث أعمق المعاني الإنسانية في شخصيته، التي عنى ببنائها الفني عناية دقيقة . وتحتسب له هذه من ناحيتين : جدية الموضوع واتزانه، وتماسك البناء الفني للقصة رغم أن الكاتب قد أعطى نفسه مجالاً واسعاً في استخدام التفاصيل الجزئية، ومظاهر البيئة في الحياة المحلية. ولقد جاءت التفاصيل تسجيلاً للواقع المحلي من ناحية، وتعميقاً للموقع الإنساني الذي يأتلق فيه الشيخ مع عصفوره من ناحية أخرى، ويمكن أن نقف مع جانب من السرد التفصيلي للكاتب ولغته في الحوار . فهو يقول بعد أن دخل الشيخ دكانه قبل أن يعثر على العصفور : (ونظر يستعرض كل ما في الدكان من مواد الطعام حتى إذا لم يجد شيئاً ينقصه راح يتطلع في المارة، وما عتم بعد قليل أن يتذكر أن ) المرأة ( قد سألته أن يشتري سمكاً للعشاء فأخذ يبحث بنظره بين المارة عمن يحمل سمكاً حتى إذا رأى شخصاً منهم يحمل سمكتين من ) الزبيدي ( العريض الأبيض صاح في مرح : - هه ... يا عم بكم السمك اليوم ؟ فأجابه الرجل وهو يتابع سيره دون أن يلتفت كأنما هو قد سمع هذا السؤال مراراً: - الوقية بعشر . فقال العجوز في سره : - عشنا ورأينا .. أما لهذا الغلاء من آخر ؟ صومي يا امرأتي عن السمك وليحتسبها لك الله حسنة ... وبعد قليل جاءه أحد أصدقائه ممن اعتادوا أن يجلسوا عنده كل يوم فترة قصيرة من الوقت يثرثرون أثناءها في شتى المواضيع، ثم جاء صديق آخر أيضاً ثم أقبل الصديق الثالث قام أولهم ليفسح المكان له. وارتفعت الشمس، وبدأ لهيب القيلولة يحرق رؤوس المارة وأرجلهم ومرت سيارة البلدية ترش السوق بالماء إخمادا للغبار وتلطيفاً لجو السوق الحار وتشتت شمل المارة يفسحون لها الطريق كي لا يصيبهم رشاش الماء المنطلق من خرطوميها كالميازيب . واحتمى البعض بأبواب الدكاكين وعرصاتها، وأسرع طفل في العاشرة من عمره يحتمي بدكان العجوز من شر هذا الماء المتدفق بقوة ) (29). إن الاهتمام بسرد التفاصيل التسجيلية ذات الحيوية وتوظيفها في القصة يقفان إلى جانب مظاهر تطور أسلوب الحوار لدى الكاتب، فهو - أي الحوار - ينبث من خلال الموقف القصصي فيكشف عن سلاسته وانسيابه العفوي، وإمكانياته الفنية في خلق أجواء الواقع التي تقترب كثيراً مما يألفه الناس ألفة شديدة . وفي ضوء ما سبق من تحليل فإن قصة الشيخ والعصفور تعد ذروة الجهود في القصة الواقعية القصيرة في الخليج العربي خلال هذه الفترة . وخاصة من حيث جمالياتها في السرد التفصيلي، وتغلغلها في الواقع المحلي، وتصويرها للخصائص الإنسانية في الشخصية المحلية، وإلباسها الواقع غلالة خفيفة من الرمز، لم يسبق لأحد من الكتاب أن استخدمها بتلك الشفافية. وهي بذلك كله تؤكد أن كاتبها قد تمثل بعض قراءاته في الواقعية الروسية(30)، والواقعية المصرية وبخاصة عند نجيب محفوظ، ولا ريب في ذلك فالشيخ والعصفور هي آخر ما كتبه فهد الدويري في القصة القصيرة سنة،1953 حيث توقف بعدها عن الكتابة نهائياً، حتى ليبدو في هذه القصة وكأنه استفرغ من داخله قلقاً عميقاً، وشهادة أصيلة حول موضوع الحرية، وظرفها النفسي الدقيق في مجتمع تلك الفترة. |