لا يختلف المجتمع العربي في البحرين والكويت عن المجتمعات العربية الأخرى التي استحدثت الفنون الأدبية الحديثة كالقصة والمسرح وهي تمر بعملية التطور الشامل حتى أنه يمكن القول بأن الاتصال بالثقافة الغربية لم يكن العامل الوحيد في نشأة هذه الفنون لديها ، بل إن هذا الاتصال جاء منضوياً في مرحلة المخاض والتغيير الذي أصاب شتى البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعبر نشأة القصة القصيرة في الخليج العربي عن ذلك تعبيراً واضحاً فقد جاءت متجاوبة مع المرحلة الحديثة التي بدأ يتعرف عليها المجتمع بكل ما رافقها من عوامل التغيير الاجتماعي والاقتصادي وبكل ما اقترنت به من نوازع في تمزيق جدار العزلة ، وهتك سياسة التجزئة الاستعمارية التي كرست روح الولاء القبلي في المنطقة . بل لقد استمدت القصة القصيرة نشأتها الفعلية من خلال فترة تتبلور فيها كثير من المواقف التاريخية الحاسمة في الشخصية المحلية (الموقف من النظام السياسي ، الموقف من الاستعمار ، الموقف من القومية العربية ، الموقف من المرأة ، الموقف من التقاليد) . حتى باتت هذه النشأة تعبر في حقيقتها عن حصيلة من الظروف العديدة في سنوات العقد الثالث والرابع والخامس من هذا القرن . وخاصة ما يتصل بالدور الإصلاحي ، أو ما يتصل بارتباط القيم الثقافية بردود فعل التغير الاجتماعي. وفضلاً عن ذلك فإن هذه النشأة تعد مؤشراً هاماً في تطور التجربة الثقافية والفكرية في الخليج العربي ، بعد أن بدأت المرحلة التقليدية المـــمعنة فـــي فن الشعر تستنفد موروثها من الأساليب والمضامين حيث استجدت كثير من الموضوعات التي لم يعد الشعر قادراً على استنباطها ، الأمر الذي جعل من ظهور فن القصة القصيرة وغيره من الفنون النثرية الحديثة ظرفاً تاريخياً شاملاً وحاسماً. ومن هنا نرى ضرورة الوقوف مع جميع العوامل التي خلفت وراءها أثراً بعيداً في نشأة القصة القصيرة في البحرين والكويت والتي نراها عبارة عن مجموعة من المؤثرات تبلورت جميعها لتكون بوابة تنفتح على مصراعيها في استقبال الفن القصصي ، وتساعده على أن يكون فناً متطوراً بظواهره وخصائصه المغايرة لما هو سائد في الحياة الأدبية. ونحن نطلق هذه التسمية ) النشأة ( ونعني بها جميع تجارب كتاب القصة القصيرة التي نشرت في الفترة الأخيرة ما بين 1928 - 1959 أي منذ صدور أول صحيفة في الخليج العربي وهي مجلة ) الكويت ( وحتى نهاية الخمسينات عندما توقفت الصحافة في كل من البحرين والكويت بعد أن ضربت الحركة الوطنية والثقافية في البحرين عام 1956 . كما تعرضت ذات الحركة في الكويت للانكسار في نهاية الخمسينات وكان ذلك إيذاناً بانتهاء هذه المرحلة بكل غليانها الوطني والثقافي وبكل صراعها الاجتماعي الذي دفع به اكتشاف النفط دفعات قوية حادة. ولقد أطلقنا على تلك الفترة الزمنية هذه التسمية ) النشأة ( نظراً لأن كتاب القصة جاءوا وهم يحملون هاجساً مشتركاً وهو محاولة إيجاد هذا الفن وغرس جذوره في الحركة الأدبية .. أي أنهم أرادوا أن يشقوا للأدب في منطقة الخليج العربي رافداً جديداً يستوعب التعبير عن مشاكله وقضاياه التي حملتها رياح التغيير المستمرة. وحتى بعد أن تتجاوز القصة في هذه المرحلة شكل البدايات الساذجة تظل التجارب فيها حتى نهاية الخمسينات معبرة عن حصيلة ظرف تاريخي واحد تسيطر عليها محاولات التأسيس لفن القصة القصيرة في أدب المنطقة .. وذلك رغم ما سنجده في قصص هذه المرحلة من تأثر بالاتجاهات الأدبية السائدة في الأدب العربي الحديث. وفوق كل ذلك فإن القصة القصيرة في سنوات هذه الفترة تنتمي إلى جيل واحد من كتاب القصة في البحرين والكويت .. وهو جيل الرواد .. أو جيل النشأة فهذا الجيل لم يكن مسبوقاً بجيل آخر .. كما أن انتهاء تجربته في القصة كان مؤشراً لانتهاء مرحلة الريادة بأكملها بكل ما حفلت به من محاولات اختلفت في أشكالها ونماذجها بين القصة والصورة الوصفية ، والخاطرة المتلونة باللون القصصي .. والمقالة الإصلاحية أو تلك التي تستفيد من الخصائص الفنية للقصة (مثل خلق الموضوع القصصي ونحو ذلك). إن القصة في كل ما تواضعت عليه من خصائص فنية وفكرية لدى هذا الجيل تظل رغم كل الجهود المتواصلة تمثل الأطوار الأولى في نمو هذا الفن . ولكن يحمد لجهود هذا الجيل أنها تجمع بين منطق الريادة في فن القصة .. ومنطق التأسيس ووضع الأصول ، وفتح المنابع الأولى للقصة القصيرة في منطقة الخليج العربي . ولا تقتصر الريادة والتأسيس على مستوى التجريب في خوض هذا الشكل الفني الجديد والتعرف عليه بالممارسة .. بل إنه يشمل أيضاً وضع اللمسات الأولى للاتجاهات الفنية والفكرية في أدب القصة القصيرة .. ومحاولة الدفع بهذا الفن الحديث للتعبير عن روح المجتمع وتناقضاته وخصائصه الاجتماعية والإنسانية .. وذلك من خلال ما يفرضه العصر الذي عايشه هذا الجيل من اتجاهات وظواهر أدبية يستشف الكتاب مفاهيمها وقيمها من الصراع القائم بين التيار الواقعي والتيار الرومانسي. ونحن نعتبر اقتحام هذا الجيل لمثل تلك الاتجاهات منطقاً طبيعياً لا يخرج عن روح المرحلة التاريخية التي لعبوا فيها دورهم وفق طاقاتهم الفكرية وملكاتهم الأدبية في أدب القصة .. لذا فإن جيل النشأة هذا يحمل لنا أيضاً التباشير الأولى لميلاد القصة الواقعية والقصة الرومانسية .. ويضع اللبنات المبكرة لنشأة مثل هذه الاتجاهات للقصة القصيرة في البحرين والكويت .. وهذا في الحقيقة يدعم معالجتنا التاريخية والنقدية لهذه المرحلة الأولى .. كما أنه يدفعنا بالفعل إلى وقفة متأنية مع تلك الاتجاهات. ولعل المتتبع لمسار القصة في الخليج العربي يلاحظ بوضوح تأخر ظهور القصة القصيرة عن غيرها من الفنون .. حيث يمضي الثلث الأول من هذا القـرن دون أن نجـد بدايات واضحة لفـن القصـة يمكـن أن تشـير إلـى ميـلاد حقيقي .. ولعل هذه الظاهرة لا يمكن إرجاعها إلى سبب واحد أو بعض أسباب طارئة بل إنها ترجع في حقيقة الأمر إلى مجموعة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تأخر انبثاقها وتبلورها في مجتمعات الخليج العربي وخاصة في البحرين والكويت .. إذ يظل باطن هذه المجتمعات سكونياً مستسلماً لحياة راكدة ومتوقفاً عند حدود ما خلفته له ثقافة العصور الوسطى وتركات العهد العثماني . كما يظل تحت وطأة تيار المحافظة والدعوات السلفية، وفضلاً عن ذلك فإن هذه المجتمعات تسيطر عليها عزلة سياسية وثقافية رهيبة فرضها المستعمر الإنجليزي بكل قوته ونفوذه عبر المعاهدات التي أبرمت مع شيوخ هذه المنطقة وعبر التدخل السياسي المباشر في حكمها وإدارة شئونها وتصريف خدماتها العامة .. وهو الأمر الذي أقام جداراً هائلاً حال دون انفتاح هذه المجتمعات .. أو اتصالها بالأقطار العربية التي بدأت فيها أصداء النهضة الحديثة تفعل فعلها وتنشر آثارها في كافة المجالات. كل ذلك يمكننا من أن نبصر بوضوح الخلفية الحقيقية لتأخر ظهور فن القصة القصيرة في البحرين والكويت . كما يمكننا أن ندرك الصلة المباشرة بين نشأة القصة والعوامل المؤثرة في ظهورها وتبلور نماذجها كما سنرى في دراستنا لهذه المرحلة .. وسنقف خلال ذلك على كثير من الإشارات الهامة التي يمكن أن تضيء لنا قضية تأخر ظهور القصة القصيرة .. وتكشف أسرارها وخاصة فيما يرتبط بطبيعة هذا الفن وسماته الفكرية .. وطبيعة مجتمع الخليج وخصائصه الثقافية . |