برناردو برتولوتشي..
بين الامتثال والتمرد
"آخر تانغو في باريس" فيلم صادم، مقلق، أثار الكثير من النقاش والجدل. وهو فيلم مربك أيضاً، لأنك في كل مرّة تعيد مشاهدته، تستجيب لكل شيء على نحو مختلف عن المرّة السابقة. العمل يتسم بالقوة والثراء والعمق، ويجعل حاجاتنا وتخيلاتنا الخاصة، بشأن الجنس والحب والموت، مشدودة بقوة إلى الرؤى الخاصة للفيلم.
إحدى نواحي فهم الفيلم تكمن في النظر إليه ضمن سياق أعمال برتولوتشي السابقة. التعارضات المحورية في "آخر تانغو" نجد لها تماثلات قريبة في أفلامه: Before the Revolution (قبل الثورة – 1964) The Spider's Stratagem (خدعة العنكبوت – 1969) The Conformist (الممتثل – 1970)
في كل تلك الأفلام نجد إحدى الشخصيات الرئيسية تحاول الإفلات من طبقتها الاجتماعية، من بيئتها وخلفيتها العائلية، لكنها تمارس قيم الماضي على نحو يتعذر اجتنابه.
في فيلم "قبل الثورة"، ينضم الشاب فابريزيو إلى الحزب الشيوعي، لكنه في النهاية يرفض الحزب بسبب النواقص والشوائب ليعود إلى حضن عائلته البورجوازية.
في فيلم "خدعة العنكبوت" ينجذب البطل الشاب، لا إرادياً ودون أن يرغب في ذلك، إلى اللغز المحيط بموت والده، الذي اغتاله الفاشيون كما يُشاع، محاولاً اكتشاف حقيقة ما حدث والثأر لأبيه. عبر هذه المحاولة تندمج هوية الابن مع هوية الأب إلى حد بعيد.
في فيلم "الممتثل" يحاول مارشيلو الهروب من جنون والده وتهور حالة أمه ذات الأطوار الغريبة، ولكي يبدو "سوياً" فإنه ينضم إلى الحزب الفاشي. لكن مع سقوط موسوليني، يرتد عن الفاشية، وينسحب نحو الجنون مثل والده.
في فيلم "آخر تانغو" نرى جين، ابنة الكولونيل الفرنسي، تتلذّذ بخلق الصدمة لأمها المحافظة من طريق سلوكها المتحرّر وأسلوب حياتها. لكنها في ما بعد تدمّر عشيقها الفاضح، المنتهك، وتختار الزواج التقليدي.
في كل هذه الأفلام، الفجوة بين المحافظة والتمرد، بين المظهر الخارجي والواقع العاطفي الداخلي، تجعل الفرد خائفاً وخطراً، خصوصاً تجاه أولئك الذين يحبونه.
في "قبل الثورة" و "الممتثل" و "آخر تانغو"، يتعيّن على الشخصيات أن تختار بين الزواج التقليدي، المتمسك بالأعراف، وعلاقة الحب المحفوفة بالمخاطر. برفض العاشق الرومانسي (الذي هو عصابي أو منحرف جنسياً، وفق معايير وعادات المجتمع) والدخول في مؤسسة الزواج، تدمّر الشخصيات أية إمكانية للنضوج.. إذ لضمان نهائية القرار أو الحكم، يبدأ كل منهم في تدمير المحبوب.
في "قبل الثورة" الفتاة كليليا كان مقررا لها منذ الطفولة، وبحكم العلاقات العائلية، أن تكون زوجة لفابريزيو. لكنه يهجرها، مؤقتاً، ليقيم علاقة عاصفة، محرّمة، مع خالته التي هي عصابية، مضطربة، مشوشّة، تكره البالغين وتفضّل أن تبقى طفلة. إنها تهجره في البداية، لكن فابريزيو يجعل الانفصال نهائياً حين يتزوج كليليا. ينتهي الفيلم بحفل الزفاف، وفيما يبتعد الزوجان بسيارتهما، تنشج الخالة وهي تغمر وجه شقيق فابريزيو الأصغر بالقُبل.
في "الممتثل" مارشيلو يتزوج جوليا، المرأة البورجوازية، الشهوانية، السطحية، التي توفر له مكانة رفيعة في المجتمع. لكنه في الحقيقة يحب "آنا"، زوجة الأستاذ الجامعي الليبرالي، الذي يسعى هو إلى اغتياله بأمر من الحزب الفاشي. آنا تدير مدرسة لتعليم الصغار فن الباليه، الأمر الذي يجعلها تتصل بعالم الأطفال بعمق. في المشهد الختامي، يجلس مارشيلو داخل سيارة مغلقة النوافذ، بينما آنا في الخارج تنشج على نحو هستيري. إنه لا يرفضها كحبيبة فحسب بل يتركها فريسةً بين أيدي القتلة.
في "آخر تانغو" يتعيّن على جين أن تختار بين خطيبها توم، الذي شغفه يتركّز في تصوير فيلم عنها وعن عائلتها، و بول الغريب الذي يصرّ على عدم معرفة أي شيء عن ماضيها أو حياتها الخاصة. إنها تلتقي به في شقة خالية، حيث يلهوان مثل طفلين، ويرتادان ويستكشفان الحدود القصوى من التخيلات الجنسية.
مع توم هي من الممكن أن تحرز "زواجاً" على الطريقة المعهودة، حيث الشباب المبتسم، بالبزّات العمالية، الذين يشتغلون على علاقاتهم كما لو كانت سيارة. لكن جين تدرك أن الحب ليس هكذا، بل يعني أن "العمال يذهبون إلى مكان سرّي، يخلعون بزّاتهم، ويعودون رجالاً ونساءً مرّة أخرى".
هذا ما اختبرته مع بول، لكن حين يحاول أن ينقل حبهما خارج الغرفة السرّية، أن يكشفه للمجتمع، فإنها تهرب في ذعر.
في داخل كل هذه الشخصيات تعارض وتضارب متواز بشأن الشكل السلطوي الذكوري.. الأب المثالي البديل الذي يوقظ مشاعر متناقضة، وفي النهاية يتعرّض للرفض والنبذ. هذه الثيمة رئيسية أو محورية في فيلم "خدعة العنكبوت"، حيث يحاول الابن أن يكتشف ما إذا كان والده خائناً بالفعل أم بطلاً. وفي "قبل الثورة" يتجاهل فابريزيو والده البورجوازي، موجهاً حبه واحترامه إلى المدرّس سيزار، الذي كان معلمه في فترة الطفولة. وسيزار هذا، بعكس فابريزيو، يوحّد أيديولوجيته الشيوعية بالنزوع الإنساني العاطفي والواقعية.
حين يترك فابريزيو الحزب ومُثُله الفتية ليتزوج كليليا، فإن مشهد الزفاف يتقاطع مع لقطات لسيزار وهو يقرأ للتلاميذ الصغار في الفصل مقطعاً من رواية "موبي ديك".. وهو المقطع الذي يصف مطاردة "أهاب" الاستحواذية للحوت الأبيض.. إنها الرحلة المجنونة، لكن الباسلة، التي تماثل رحلة شخصية براندو في "آخر تانغو".
إن شخصيات برتولوتشي تعاني من ذلك التعارض بين رفضها للأب وبحثها عن أب آخر بديل هو بدوره يتعرّض للرفض أو التصفية.
في فيلم "قبل الثورة" كان سيزار هو الأب البديل. في "الممتثل" يتحوّل إلى كوادري، أستاذ الفلسفة اليساري المثالي الذي يهرب من إيطاليا الفاشية ويستقر في باريس. مارشيلو كان أحد أفضل تلامذته، لكنه يرفض كوادري ويختار، كمرشد جديد، مونتاناري، ذلك الفاشي الذي عاهته البدنية (العمى) تعزّز تأويل كوادري من أن الإيطاليين الآن يرون الظلال فقط بدلاً من الحقيقة.
في طريقه لارتكاب الاغتيال، يسرد مارشيلو حلماً رأى فيه نفسه وقد صار أعمى لكن يسترد بصره على يد الأستاذ الجامعي، ثم يهرب مع زوجة الأستاذ (هنا نجد قلباً لحبكة أوديب). إن ارتباط مارشيلو بالأستاذ على مستوى علاقة الأب – الابن يوحي بأن علاقة مارشيلو بزوجة الأستاذ (آنا) هي بالنتيجة علاقة محرّمة.
عوضاً عن تمثيل ذلك الحلم، مارشيلو يتفرج ببرود على مقتل الأستاذ وزوجته، رابطاً على نحو جليّ وصريح بين رفض الحب الصادق والأب المثالي (كما حدث في "قبل الثورة").
في "آخر تانغو"، الحبيب والأب البديل هما الشخص نفسه. بول في عمر والد جين. وفي الشقة السرّية، هي تعود إلى طفولتها حيث تمارس رغباتها المحرّمة. حين تتحدث عن أبيها قائلة: "الكولونيل.. كنت أحبه إلى درجة العبادة". يرد عليها بول صائحاً: "أي هراء هذا.. كل البزّات هراء. كل شيء خارج هذه الشقة هراء".
لكن في ما بعد، عندما يلاحقها حتى يصلا إلى شقة أمها، فإنه يضع على رأسه قبعة والدها العسكرية في تهكم صارخ. إنه يهزأ بذكرى الأب ويجسّده في آن. وهي تستجيب بإطلاق النار عليه من مسدس والدها وترديه قتيلاً.
في كل هذه الأفلام يتم التعبير عن التعارض الجنسي والسياسي في مشاهد الرقص الرائعة، حيث البهجة الرومانسية والعقم التقليدي في حالة استقطاب.
قوى العقم، في "آخر تانغو"، تتمثّل في راقصي التانغو الذين يؤدون من غير استعداد كاف، في أوضاع طقسية، وبوجوه عابسة، متنافسين على جائزة مقدّمة من المؤسسة البورجوازية.
في هذا المحيط يعرض بول على جين التسليم والاعتراف بالأسلوب القديم والمألوف. لكن سلوكه يُظهر بوضوح أن أياً كانت مساهماته مع الماضي، فإن ذلك الماضي لا يعني الموت المطلق. ومع أنها ترفضه، إلا أنه ينجح في جذبها نحو حلبة الرقص، والذي سيكون الاندفاع الأخير للتلقائية الطفولية العابثة.
بينما تتقاسم كل هذه الأفلام أسلوباً مبنياً على نحو مدروس ومتقن، فإنها أيضاً توحي بأن الأسلوب يجب أن يعبّر عن الميول السياسية والعاطفة لكي يتخطى الشكلانية الفارغة.
في "قبل الثورة" هذه النقطة مدرَكة على نحو بيّن وجليّ. عندما يكون صديقه أوغستينو في قبضة يأس انتحاري، فإن فابريزيو يحثه على مشاهدة فيلم "النهر الأحمر" (للمخرج هوارد هوكس) كما لو أن مشاهدة فيلم جيد هو كل ما يحتاج إليه. في ما بعد، عندما يعاني فابريزيو بسبب خيانة جينا (خالته) له، فإنه يمضي لمشاهدة فيلم جودار "المرأة هي المرأة".. ثم يلتقي بأحد مدمني مشاهدة الأفلام والذي يصر على أن حركة (البان) التي استخدمها المخرج نيكولاس راي هي "حقيقة معنوية"، ويضيف قائلاً: "من المستحيل العيش بدون روسيلليني".
الضعف الذي ينشأ من مثالية فابريزيو الشاحبة هي في حالة تباين وتغاير مع جسارة أسلوب برتولوتشي الخاص. كان برتولوتشي في الثالثة والعشرين من عمره حين حقق "قبل الثورة"، وكان قادراً أن يدمج تأثيرات روسيلليني وأنتونيوني، وجودار بشكل خاص، في أسلوب ذاتي موسوم بالتجريب.
أحياناً تكون النتائج تحايلية، لكن عادةً تكون التجديدات أدوات مؤثرة وفعالة لنقل أفكار ومشاعر هامة. في اللقطات المتعاقبة الغنائية، المصورة عند ضفة النهر، نجد أن حركة الكاميرا الرشيقة ودرجات اللون الرمادي والموسيقى الرومانسية تعبّر بقوة عن الحزن وجمال المشاعر.
في المشهد الذي يدور في دار الأوبرا، عندما تلتقي عينا الخالة (جينا) بعينيّ فابريزيو، تتراجع الكاميرا فجأة بحركة زوم ثم تتحرك (بان) لتصور دار الأوبرا، ولتسبّب لنا الدوار تأثراً بصدمة مشاعرها.
دار الأوبرا هي أيضاً الموقع الذي حدث فيه الاغتيال، وإعادة تمثيل الاغتيال في فيلم "خدعة العنكبوت". لكن في المشهد السوريالي، حيث أهالي البلدة جالسون في الساحة العامة يصغون في انتشاء واستغراق إلى الأوبرا التي تصل إلى مسامعهم، نجد أن الشغف الجمالي لعشاق الفن هؤلاء يتباين على نحو تهكمي مع الجبن والخيانة التي وسمت سلوكهم إبان حكم موسوليني.
في "الممتثل"، التكوينات المبهرة والمؤثرات البصرية تبدو كما لو أنها تعلّق على الاهتمام بالجمال السطحي، والتي توازي رغبة مارشيلو في الظهور بمظهر الفرد السويّ والطبيعي. بالتالي، فإن برتولوتشي يوظّف البصريات الفارغة من أجل التهكم على البصريات الفارغة. لكن المفارقة هنا، أنه يجعلها حافلة بالمعنى.
مع أن "آخر تانغو" أيضا ذو سطح بصري منظّم بشكل بالغ، فإن الأسلوب هو أقل إبهاراً على نحو واع. البصريات تعزّز الطابع الرومانسي المحيط بالفتاة (جين) والرجل (بول) أكثر مما تفرّغ أو تصرف الانتباه عن التأثير العاطفي. المحاكاة الأسلوبية الساخرة يمكن العثور عليها أولاً في شخصية توم (المخرج) الذي يمثله جان بيير ليو.
توم باستمرار يترجم الحياة الواقعية على أساس جمالي. بالتباين مع شخصية براندو، يُظهر توم الانفعال والعنف فقط عندما تهدّد جين بالانسحاب من فيلمه. إنه يزعم لنفسه بأنه يحقّق سينما الحقيقة، لكنه في الواقع يرغب في إدارة وضبط كل حركة وكلمة. هو لا يستطيع أن يوجّه أو يرشد عاطفته الرومانسية بدون مساعدة الإشارات السينمائية الضمنية أو غير المباشرة.
بول أيضاً في لهوه ومزاحه يلجأ إلى التضمينات السينمائية: في أحد المشاهد يحاكي الممثل جيمس كاجني، في مشاهد أخرى يستعين بمصطلحات سينمائية. لكن بخلاف توم – الذي يظل عالقاً في شرَك الواقع السينمائي الفاتن إلى حد أنه يفقد الاتصال بما يدور حوله – فإن بول دائماً يحوّل التضمين إلى بيان ذاتي يعبّر عن القوى المحرّكة للمحيط المحدّد.
في فيلم "آخر تانغو" يكون توم في أسوأ أحواله عندما ينكر العاطفة والتلقائية، ويضع الحب في خدمة فن عقيم وطقسي. لكنه يكون في أفضل أحواله عندما يوفّر الإمكانية لخطيبته جين لأن تركّز البؤرة على نفسها. ومع أنه يتلاعب بها في سبيل إنجاز فيلمه، إلا أنه يمنحها الفرصة لاستخراج الذكريات الحقيقية عن طفولتها.
إن توم يرفض الشقة لأنها قديمة وكئيبة جداً (السبب نفسه الذي تبديه هي في رفضها لقاعة الرقص). توم يريد أن يكبر، أن يصبح بالغاً لكن بطريقة إبداعية، قائلاً لها بأن عليهما أن "يخترعا الإيماءات والكلمات". وهو يقدّم تعريفاً لحالة البلوغ في قوله: "البالغون جادون، منطقيون، حذرون، مكسوون بالشَعر.. وهم يواجهون المشاكل".
توم يعترف ضمنياً بنواقصه عندما يقرّ بأن فيلمه قد أخفق في تحقيق رؤيته. ومع أن أسلوبه الطنان، المتسم بالغرور، وشوائبه، تجعله يبدو مثيراً للسخرية، بالمقارنة مع بول، إلا أن توم لا ينكر ذاتية وحاجات خطيبته ككائن بشري كامل. مع ذلك، أثناء شجارهما في المترو، هي تتهمه بالأمور ذاتها التي يمكن توجيهها إلى بول: "أنت ترغمني على فعل أشياء لم أفعلها من قبل. أنت تحتال علي، تستغلني، تسرق وقتي، تجعلني أفعل ما تريد. لقد تعبت من السماح لكم باغتصاب عقلي. انتهى الفيلم".
برتولوتشي يكشف عن هذا التباين مبكراً في الفيلم. بعد أن تسلّم جين نفسها كلياً إلى بول في اللقاء الأول، هي تهرع للقاء توم في المحطة. تغضب عندما تجده محاطاً بالعاملين في الفيلم، وعندما يعلن بأنه يصوّر فيلماً عنها للتلفزيون.. تخاطبه موّبخةً: "كان يجب أن تستأذن مني".
جين قادرة على إنكار سيطرة توم لأن هذه السيطرة تتصل بفنه إلى حد كبير. لكن مع بول، كينونتها برمتها تخضع للاستبداد، بطريقة تنشّط وتفعّل تخيلاتها الأكثر عمقاً. بالتالي فإن شجارها مع توم في نفق المترو ما هو إلا بروفة هزلية للمكاشفة الجادة في الشقة.
على الرغم من التماثلات القريبة مع الأفلام الأخرى لبرتولوتشي، فإن "آخر تانغو" هو نتاج استثنائي وفذ. هام في الإبتكار الجمالي، غامر في كثافته العاطفية. ربما السبب الأهم لهذه القوة المضاعفة تكمن في تنامي شخصية براندو.
الأفلام الأخرى تتمحور حول شخصيات شابة يتعيّن عليها أن تختار بين العلاقة الرومانتيكية والعلاقة التقليدية. هذا الفيلم يركّز بؤرته على العاشق الغريب والخطير. افتتاحية "آخر تانغو" تجعلنا في مواجهة براندو في لحظة توتر حاد، وهو يترنح في يأس بعد انتحار زوجته. الكاميرا، التي تنجذب إليه مثل مغناطيس، تتقدم بحركة زوم لتحصر وجهه في لقطة كبيرة. هذا الكائن الغريب المتوتر، يثير أيضاً فضول فتاة عابرة. الافتتاحية إذن تشير إلى أن برتولوتشي سوف يتحرى الجاذبية الاستثنائية المتأصلة في الفنتازيا الرومانسية.
قوة الحلم المتجسدة في براندو تنشأ جزئياً من عمق التجربة والعاطفة في الشخصية والأداء معاً، مانحةً بول الرنين الرمزي للشكل البدئي، الأولّي. بول متقدّم في السن. أعوامه – التي تجاوزت الأربعين – قد جلبت إليه كمّاً لا يستهان به من المعاناة والإذلال. أما جين فإنها شابة وساذجة.
في بداية الفيلم، جين تتصل بأمها هاتفياً وتخبرها بأنها على وشك استئجار الشقة. وعندما تحاول أن تحصل على مفتاح الشقة، تحذّرها بوّابة المبنى السوداء قائلةً: "المفتاح قد اختفى. الكثير من الأمور الغريبة تحدث هنا.. إني أخشى من الفئران". ثم تطلق ضحكة خبيثة وفظيعة. إن هذه البوّابة تشبه العرّافة. تعرف كل شيء، لكنها تقول ما تعرف بمسّ من الجنون. جين تسمع الجنون لكنها تنكر الحقيقة.
فارق السن ينعكس في اختيار الممثلين. براندو ممثل محنّك، ذو تجربة وخبرة عظيمة. ماريا شنايدر في أول أدوارها على الشاشة. ضمن الفيلم، الفارق الكبير في تجربتهما يتجسّد في حالتين من حالات تذكّر الطفولة. مع أن جين تبدو جذابة في حديثها عن تجربتها المبكرة مع الأبقار، إلا أنه مجرد تقرير، تمرين قاموسي، مثل كلامها عن الحيض والعضو التناسلي. أما بول فيتذكر ذلك الوقت من صباه، حين أجبره أبوه على حلب الأبقار قبل أن يرافق صديقته إلى مباراة في كرة السلّة. في السيارة، بحضور صديقته، عانى من إذلال حاد عندما اكتشف انبعاث رائحة الروث من حذائه.
جين، مثل توم، نشأت ضمن بنية طبقة تقليدية وصارمة في المجتمع الفرنسي. تمردهما الخارجي، السطحي، استمد نموذجه من ثقافة "البوب" الأمريكية. بينما يعود بول إلى التقليد الأمريكي المبكر للتمرد الفرداني. مثل أهاب (بطل رواية موبي ديك) هو سافر إلى مختلف أنحاء العالم، ملاحقاً رؤاه في وجه الهزيمة والنكبة المتكررة.
هذا النمط من تحقيق الذات، المحفوف بالمخاطر، هو محبوب من قِبل الأمريكان حتى في أفلام الكارتون حيث المخلوقات تتمزق أشلاءً أو تتعرّض للنسف، لكنها تنبعث فوراً وتبدأ من جديد.
ربما هذه هي الرؤية الهزلية الأمريكية لأسطورة سيزيف. بما أنه يتعيّن علينا أن نستمر في النضال، فإننا قد نمجّد المحاولة.
في مشهد حوض الاستحمام (البانيو)، عندما تخبر جين بول بأنها وقعت في الحب، فإنه يقول لها كلاماً يكون هو في محور ما يعنيه، في مركز الرؤية.
بول: هل هذا الرجل سوف يحبك، ويبني لك حصناً ليحميك
بحيث لن تشعري أبداً أنك خائفة أو وحيدة أو خاوية؟ لا،
لن تنجحي أبداً.. لن يمرّ وقت طويل حتى يطلب منك
أن تشيّدي له حصناً من نهديك ومن ابتسامتك ومن
رائحتك حتى يشعر بالأمان والاطمئنان (..) أنت وحيدة،
وحيدة تماماً، ولن تتحرري من هذا الإحساس ما لم
تقفي أمام الموت وتنظري إلى وجهه.. ما لم تذهبي
إلى شرج الموت، إلى رحم الخوف. ولن تكوني قادرة
على إيجاده حتى تفعلي ذلك.
جين: لكني وجدته.. إنه أنت.. أنت هو ذلك الرجل.
بول: أحضري لي مقصاً..
مع أن بول يبدأ بإنكار الحب بشكوكية تهكمية، إلا أنه ينتهي بتوكيد أن الحب ممكن، فقط حين يمضي المرء إلى الحدود القصوى من التجربة.
جين، على نحو مفهوم، تشعر بالخوف من هذه الرؤية، لكن في الوقت نفسه هي تنجذب إلى وهم التورط التام. عبر هذا الفعل الطقسي، في ملاحقته لها، بول يغريها بالمشاركة كما يفعل أهاب مع بحارته في "موبي ديك".
بول يصبح حوتها (موبي ديك). لكنها أخيراً تكون قادرة على تدمير شيطانها والإفلات من سلطانه، متحالفةً مع توم.. الذي يشبه البحار الشاب: ذاك الذي يدوّن القصة لكن لا يستطيع أن يرويها كلها.
بول بطل متقلّب، يمرّ بتحولات عديدة أثناء بحثه. أي ممثل آخر لا يستطيع حمل غنى التضمينات المستنبطة من تجارب مارلون براندو السابقة في السينما. إننا نكتشف بأن بول كان ملاكماً (مثل براندو في فيلم: على رصيف الميناء)، وكان ثورياً في أمريكا الجنوبية (كما براندو في: فيفا زاباتا)، وبول رحل إلى جزيرة في الباسيفيك ثم عمل كصحفي في اليابان (وهذا يذكّرنا بمغامرات براندو في "عصيان على السفينة بونتي" إضافة إلى أدواره كياباني) وكان بول أيضاً عازفاً وممثلاً (هذا يتصل بحياة براندو الخاصة).
إن شخصية بول وأداء براندو يلخصان الحلم الأمريكي في البطولة الرومانسية النامية عبر تاريخ السينما الأمريكية، والمكرّرة في مسيرة براندو.
بالتباين مع الأفلام السابقة، يتنامى "آخر تانغو" عبر السرد الخطي، البسيط نسبياً، حيث تتناوب مشاهد بول وجين في مكانهما السرّي، ولقطات لحياتهما في الواقع الخارجي المركّب.
الفيلم يتحرك دائرياً، مساهماً بذلك في تكثيف التجربة. بين ترك بول للشقة ومشهد التانغو، ثمة مشاهد من اللقاء الأول (في بداية الفيلم) تتكرّر لكن بترتيب عكسي: جين وحدها في الشقة، لقاؤها مع العاملة السوداء، جين تسير خارج المبنى، جين تجري اتصالاً هاتفياً مع توم (في بداية الفيلم كانت تكلّم أمها) جين في الغرفة مع توم. التقاء جين ببول تحت الجسر (حيث تقابلا في المرة الأولى).
إن الأشياء لا تنتهي بل تتكرّر. في الشقة يخبرها توم بأن الفيلم قد انتهى، فتقول له: "لا أحب للأشياء أن تنتهي. عليك أن تبدأ في شيء آخر حالاً". في المشهد التالي، تحت الجسر، جين تخبر بول أن علاقتهما قد انتهت، فيقول: "لقد انتهت لتبدأ من جديد".
هذه الرؤية الدائرية للتجربة، حيث العلاقات الجديدة تكرّر لقاءات سابقة، تتعزّز عندما نعلم بأن حبيب جين الأول كان يدعى بول أيضاً، وعندما تهرب من قاعة الرقص يناديها بول باسم روز (زوجة بول المنتحرة)، وعندما يقترح توم على جين أن يسميا ابنتهما روز. وهناك التماثل بين جين وروزا: كلتاهما حاولتا الهرب من التأثير الخانق للأم البورجوازية، كلتاهما انجذبتا نحو نشاط جنسي محموم مع غريب ضمن تخوم حيّز سرّي، كلتاهما وقعتا في حب رجلين.
الحركة السريعة والمظهر الخارجي المنسوج بأناقة وترف، في الأفلام السابقة، يفسح المجال هنا لقيم بصرية جديدة. نصف "آخر تانغو" تقريباً تدور أحداثه في فضاء الشقة الخالي، وهذا يعمّق دلالة وكثافة ما يتاح لنا رؤيته. داخل الشقة، الشاشة تصبح حافلة باللقطات الكبيرة لجين وبول، وغالباً ما تكون مغمورة بإضاءة ذهبية، كما هي رسومات فرانسس بيكون التي تظهر مع أسماء العاملين في المقدمة. في هذا الحيّز الخالي تظهر الشخصيات وحيدة في الغالب.
فيما يسرد براندو ذكرياته الموجعة عن طفولته، تظل الكاميرا ثابتة، تحصر وجهه في لقطة كبيرة، معتمدة كلياً على قسماته المعبّرة. لاشيء يتغيّر باستثناء الدرجات الضوئية مع تحرّك جين بينه وبين النافذة.
في أحد المشاهد التي تظهر فتنة وجاذبية العلاقة، حيث اللهو والحميمية، تصور الكاميرا في لقطة كبيرة رأسيهما وكتفيهما متعانقين وينظران أحدهما إلى الآخر برقة وحنان. عندما يقول لها بول: "والآن، لينظر أحدنا إلى الآخر"، فإن الكاميرا تطيع وتتراجع شيئاً فشيئاً لتكشف جسديهما العاريين، متلاحمين وكل منهما يحدّق في الآخر.
عندما يحمل بول جين، ويتحرك معها عبر الشقة، وهي في ثوب الزفاف المبلّل بالمطر، فإن آثار المطر على الجدار تحْدث تغيرات مترجرجة في الإضاءة. بعد دقائق قليلة، الإضاءة تومض فيما هي تنعكس على مياه الحوض (البانيو). الإضاءة الناعمة هنا تعزّز الخاصية الرومانسية للعلاقة لكنها تتباين على نحو تهكمي مع الحقائق البشعة والمريرة التي يجبرها على مواجهتها طوال المشهد.
خارج الشقة، الكاميرا قادرة على إيصال الكثافة العاطفية بدرجة متساوية. في اللقاء الأول بين بول وأم زوجته، حركة الكاميرا البارعة تكشف عن الحركة الرشيقة بين البرود العدائي والمشاركة العاطفية. يبدأ المشهد بصورة لكومة من الملاءات، ثم انتقال إلى يدين مجهولتين تفتشان عبر أرفف مليئة بالأشياء، ثم إلى صورة ظلية لوجه براندو في لقطة جانبية. عندما نرى الكائنين أخيراً في الكادر نفسه، نلاحظ بأنه يفصلهما حيّز واسع. الكاميرا تتحرك إلى الأمام لتحصر الحيّز في الكادر ولتلغي الكائنين، مركّزة البؤرة على الباب. المرأة تدخل الكادر أولاً، ثم يخطو براندو نحو الكادر ويعانقها. بعد هذا الاتصال، نرى في لقطة قريبة أصابع براندو وهي تنقر على الطاولة، ثم لقطة كبيرة لوجهه موحية بأنه قد تقهقر من جديد نحو النأي أو البرود العاطفي. الانتقال التالي يُظهر المرأة وحدها في الكادر.
هكذا، قبل أي حوار يمكن أن يعيّن هوية هذه المرأة بوصفها أم الزوجة المنتحرة، الباحثة عن سبب للانتحار، تكون الديناميكية العاطفية قد تجسدت بصرياً.
إن معالجة الكاميرا للمكان، للكشف عن حالات الوجود، هي أيضاً فعالة في المشهد الرائع بين براندو وجثة زوجته. المشهد يبدأ ببراندو داخلاً الغرفة المعتمة، بينما لا نرى إلا زهوراً في الجانب الأيسر من الشاشة. الكاميرا تظل على اليمين حاجبة القاطن الآخر في الغرفة. وفيما يتفجّر غضبه، تبدأ الكاميرا في التحرك يساراً كاشفة المزيد من الزهور. فقط عندما يتحول غضبه إلى حزن وأسى، تكشف الكاميرا وجه الزوجة.
بخلاف الأفلام السابقة، فإن تقنية الكاميرا البارعة هنا لا تلفت النظر إلى نفسها، إنما تصعّد وتعمّق استجاباتنا العاطفية دون خلق مسافة جمالية قد لا تكون ملائمة في المشاهد التي تشمل بول.
خارج الشقة، الناس والسيارات والقطارات تندفع في سرعة صاخبة، من جميع الاتجاهات وعلى مستويات عديدة. الإضاءة هنا طبيعية أو جافة، تؤكد الخاصية الفنتازية للمشاهد الداخلية. القطارات المتحركة هي دائماً مرتبطة بفعل متطرف وخطر: في المشهد الافتتاحي، صرخة براندو اليائسة تندمج في صوت قطار عابر على الجسر. بعد الاتصال الجنسي المسعور الأول، يخرج بول وجين إلى الشارع مثل غريبين، وكل منهما يمضي في اتجاه مختلف، فيما القطار يمرّ ثانيةً فوقهما. في اتصال آخر عنيف، تمتزج صرخة جين مع صوت القطار. في المترو، عبر نوافذ عربات القطار العابر، نرى توم وجين يتشاجران. وفي النهاية، نرى من خلال نوافذ السيارات المتحركة بول وهو يلاحق جين.
ثمة صور معينة تتكرّر لتوحّد العوالم داخل وخارج الشقة. طوال الفيلم، الأبواب تنفتح على تجربة جديدة أو تنغلق بعنف. الزجاج مستخدم لإضفاء طابع النعومة والرومانتيكية، أو للتشويه، أو لفصل الشخصيات والمواقع. وهناك المصعد الذي يبدو أشبه بالقفص. بالمصعد تهرب جين من أمها، أو تختبئ خلفه فيما يتجه نحوها بول وهو يسير بخطوات راقصة. في المشهد الختامي تنتهي المطاردة اليائسة بالحركات المسبّبة للدوار للكاميرا المحمولة باليد وهي تصاحب بول فيما هو يصعد جرياً السلّم اللولبي ملاحقاً جين التي تهرب منه مستخدمة طريق المصعد.
إن التنوّع الوافر للزوايا ودرجات الضوء يجعل من الصعب تحديد أيهما الفخ الحقيقي: الزواج من توم أم علاقة الحب مع بول.
الموسيقى أيضاً ذات وظيفة موحّدة. بخلاف الأفلام السابقة التي تضم الجاز والبوب والأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، فإن "آخر تانغو" يعتمد أساساً على موسيقى الجاز من تأليف جاتو باربيري الذي يعزف على آلة الساكسفون. الجاز يتماهى مع قيم بول. الموسيقيون على اتصال بطبيعة الألم الحاد والمعاناة التي يختبرها بول. إن بول، الذي يعزف أيضاً، ينسجم مع العزّاف المقيمين في الفندق لكن حماته البورجوازية تشعر بأن موسيقاهم مهدّدة وتريدها أن تتوقف. ومثل اللقطات القريبة وبناء الفيلم البسيط، الموسيقى الموحّدة تتيح الارتياد الحاد ضمن المجال المحدّد جداً للتجربة.
إن أحد مصادر قوة وكثافة الفيلم هو المعالجة الاستثنائية، غير العادية للجنس والموت. داخل الشقة، الجنس ليس مجرد تكرار للخطوات المعروفة جيداً (مثل التانغو) بل هو ارتياد حقيقي وأصيل يسبر في كل ركن سرّي من الذهن والجسد. لكن في مستوى آخر، الجنس ليس حراً، على الأقل بالنسبة لجين، لأن بول هو دائماً المسيطر والمتحكم. مع أن جين تملك القدرة على دخول الشقة متى تشاء، إلا أنها ما إن تكون هناك حتى تبدو متأهبة وراغبة في الجنس، لكن بول هو الذي يقرر متى وكيف.
هي الفتاة ذات الرداء الأحمر، وهو الذئب الذي يتحيّن الفرصة لالتهامها. هو الشخص الذي يضع القوانين ثم يريد أن يغيّرها. النشاط الجنسي السادي – المازوشي يعكس النمط المهيمن في العلاقة بين الرجل والمرأة.
الفيلم يتحرّى محاولة المرأة للهروب من العلاقة في الوقت الذي تشعر بانجذاب قوي جداً نحو هذه العلاقة. ومع أن بول لا يستطيع أن يتخلى عن هيمنته العدوانية، إلا أنه يحاول أن يتخطى مفاهيم أبيه الفحولية (في نظرته إلى الجنس) ويوحّد الجنس مع الحب. الجنس كان تكنيك بقاء بالنسبة لبول الذي يحارب يأسه ورغبته في الموت، لكنه كان يحركه في اتجاه الالتزام الكلي.
"آخر تانغو" فيلم عن الجنس والموت. إنه يزاوج هاتين القوتين في مركز السلوك الإنساني. الموت في فيلم "قبل الثورة" لم يكن محورياً. في "خدعة العنكبوت" و"الممتثل" يتم التعامل مع الموت من قِبل شخص يبحث عن هويته من الخارج، والذي لا يملك مركزاً مستقلاً. لكن في "آخر تانغو" يقترح بول هذه الرؤية: من أجل أن يعيش المرء ويحب، يتعيّن عليه أن يحدّق مباشرة في وجه الموت.
عندما ينتهي الفيلم، نخرج مسكونين بسؤالين: لماذا كان بول يحاول نقل علاقة الحب خارج الشقة.. إلى العالم الخارجي؟ ولماذا هي قتلته في نهاية الفيلم؟
إن عرض بول للحب يمكن رؤيته ضمن عدة نواحي:
هو الشوفيني السادي الذي يريد أن يبسط سلطته عليها من أجل أن يمتلكها كلياً. وهو المازوشي المجنون الذي لديه سجّل حافل بأشكال الإذلال والذي يرغب في الإخفاق ثانية، ففي ملاحقته لها، للمرة الأولى، يتخلى عن السيطرة ربما بحثاً عن طريقةٍ للموت. وهو الحالم الرومانسي الذي اشترى وهْم التوحّد، منتشياً بذاته، على الرغم من تجربة الماضي. وهو المثالي الشجاع الذي على استعداد دائم لأن يحاول ثانيةً، ولا يهم كم مرّة أخفق في محاولاته، لأن الحب هو الشيء الوحيد الذي يجعل الحياة ذات معنى، وهو على استعداد للقيام بأية مجازفة لأنها الطريقة الوحيدة للنضوج.
إن بول هو كل هذا، كل هوية تبدو حقيقية، غير أن رؤيته للحب لابد أن تعاش مع امرأة مثل جين.. التي حدودها تحول دون نجاح الحلم الجسور.
السؤال الأخير: لماذا هي قتلته؟
هل هو دفاع شجاع عن النفس أم تملّص جبان؟ جين تعلم جيداً أن استغراق بول كان مع ذاته دائماً. بعد المشهد الحميمي الذي فيه يتبادلان ذكرياتهما عن الطفولة، هو يشيح عنها ليعزف حائراً على آلة الهارمونيكا. هي تبدأ في توبيخه: "لماذا لا تصغي إليّ؟ أنا كما لو أكلّم الجدار. عزلتك ترهقني. صمتك ليس متسامحاً أو سخياً. أنت أناني". وبينما ينسحب بول أكثر نحو حزنه الخاص، تستلقي جين على الملاءات وتحتك بها، ثم تجثم مهتزة مثل طفلة. إنها الآن حزينة ووحيدة، وهي تمقت عجزها في مواجهة سلطته.
حين يهجر بول الشقة، تشعر هي بالحزن. ثم تغضب لأنه يمتلك سلطة إنهاء الأمور بينما هي لا تمتلك هذه السلطة. في البداية، عندما تأتي إليه وهي بثوب الزفاف، تعترف بتواضع: "أغفر لي. أردت أن أهجرك لكنني لم أستطع. أما زلت تريدني؟".
في النهاية يخبرها حدسها بأن بول يكره النساء. يؤكد هذا تفاعلاته مع حماته، خادمة الفندق، العاهرة، وانتحار زوجته.
لأن تخيلاتها ليست متصلة بتخيلات خطيبها توم، فإنها تستطيع مقاومة محاولاته الحمقاء للسيطرة عليها، لكن مع بول هي تبدو أشبه بحيوان محاصر، لكي تنجو وتحافظ على استقلالها، لا بد أن تضع حداً للأسر. الفعل الأخير (القتل) يمكن أيضاً أن يُرى بوصفه خوفاً من المجازفة والتورط، إنه الجبن الذي كان بول يدركه طوال الوقت ومنذ البداية. عندما كان يملي شروط لقاءاتهما في الشقة، يسألها: "هل أنت خائفة؟" فتكذب وهي تجيب بالنفي. في مشهد آخر، هو يؤكد: "أنت دائماً خائفة".
عندما تصف الرجل الذي تحبه، تؤكد على غموضه ونفوذه، لكن ما إن يتحرك بول خارج الشقة حتى يفقد تلك الخواص ويصبح مجرد رجل في منتصف العمر، قابل للعطب وغير حصين.
هي تخشى من الألم والإذلال الذي أوصله إلى هذه النقطة، هذا الموضع. إنها شابة إلى حد أنها لم تعد قادرة على قبوله، أو قبول صورته الحالية، لذا هي ترفضه، ترفض الواقع الجديد الذي يقدمه لها، ولا تعود تعرفه. في النهاية، عندما تقف ذاهلة، والمسدس في يدها، وتردّد ما سوف تقوله للشرطة، فإن الكلمات الغريبة التي تتفوّه بها هي صادقة وزائفة في آن: "لا أعرفه.. لا أعرف من يكون.. طاردني في الشارع.. حاول أن يغتصبني.. إنه مجنون.. أنا لا أعرف اسمه.. لا أعرفه.. لا أعرف من يكون.."
المصدر: Sight and Sound, Autumn 1973