في العام 1960 قدّم فدريكو فلليني عمله العظيم وتحفتة الفنية "الحياة الحلوة" La Dolce Vita.
عندما أبدى النقاد، الذين تربوا على الواقعية الجديدة وانحازوا لمبادئها، استياءهم وتذمرهم من لجوء فلليني إلى بناء مواقع فيلمه "الحياة الحلوة" في الأستوديو بدلاً من تصويره في المواقع الطبيعية والأماكن الواقعية، رد فلليني – على نحو منطقي ومقنع – بأن الأحداث نتاج مخيلته وأنها تدور على مسرح خياله، المسرح الكائن في موقع أو مساحة سماها "روما"، بينما هي في الواقع مدينة متخيلة تماماً، تصادف أن استعارت بضعة معالم من المدينة التي يعرفها جيداً. أي إنها مجرد انعكاس لذاتيته الباطنية، وهي ليست متصلة بالواقع إلا على نحو بعيد.
في نهاية الخمسينيات، كانت روما على وشك أن تتحول إلى مكان مختلف: عاصمة دولية لبلاد تباشر في مغامرة اقتصادية كبيرة. لكن فلليني لم ينجذب أبداً إلى الحشود التي تجتمع يومياً في مواقع الحياة الليلية في الساحات والميادين الضاجة.. "بالنسبة لعينيّ المذعورتين، هي حتى لم تكن روما التي أعرفها. لقد كانت من نسج الحكايات الخرافية، كانت أشبه بمونت كارلو أو بغداد". (Fellini on Fellini, 1976).
في العام 1963 أعلن فلليني أن الفيلم "مخترع تماماً. روما التي أتحدث عنها هي مدينة الذات الباطنية. طوبوغرافيتها (الرسم الدقيق للأماكن) هي روحية تماماً". لكن في السبعينيات، صرّح قائلاً: "كنت بانتظام أضلل الأصدقاء والصحفيين بالقول أن روما التي صورتها في (الحياة الحلوة) هي مدينة باطنية".
في العام 1972 حقق فدريكو فلليني فيلمه "روما"، وسرعان ما أثار جدلاً عنيفاً وردود فعل خلافية. أغلب أهالي روما، وربما أغلب الإيطاليين، لم يحبوا الفيلم لأن مبالغاته، من وجهة نظرهم، جرحت مشاعرهم وأغضبتهم. لأنه لم يصور روما كما يعرفونها. روما فلليني تختلف عن روما التي يراها ويعرفها أي مواطن وأي سائح.. إنها روما الحلم، روما فلليني. أ لم يقل ذات مرة "الواقع لا يوجد. الفنان يخترع الواقع".
في فيلمه "روما"، وعبر سلسلة من الصور الرؤيوية الشبيهة بالحلم، المتدفقة برشاقة وسلاسة، ودونما التزام بحبكة ما، أو تسلسل زمني، يقدم فلليني لوحة عظيمة عن المدينة الخالدة، الأزلية.
روما الماضي، المحكومة بالفاشية، حيث البؤس والانحطاط، حيث الطفولة والمراهقة في بلدته ريميني ثم انتقاله شاباً (في العام 1939) إلى روما. المطاعم المفتوحة في الهواء الطلق. المواخير. الكباريهات وعالم مسرح المنوعات. اندلاع الحرب. الغارات الجوية. الشوارع الخالية في ساعات الصباح.
روما الحاضر حيث المطاعم والضجيج والاختناقات المرورية والحفر في نفق يفضي إلى اكتشافات أثرية وجداريات تعود إلى ما قبل ألفي سنة، عرض أزياء دينية يقدمه قساوسة وراهبات، والشباب الهيبي مع دراجاتهم النارية.
فيلم "روما" يمثّل النموذج الأنقى لولع المخرج فلليني بإعادة تأويل الواقع على نحو هزلي: المدينة الحقيقية منعكسة من خلال موشور مخيلة محمومة. لذلك نرى الغرابة تجاور الواقعي، الخارق يجاور اليومي. والصور تبهجنا، تثيرنا، تحرك مشاعرنا.
حتى عندما يصور فلليني أشياء أو أحداثاً عادية ويومية (الاختناق المروري، كمثال) فإنه يجرّدها من عاديتها بإضفاء أسلبة معينة، بإدخال بُعد رمزي وتجريدي، بحيث تبدو واقعية الحدث مضللة أو خادعة. في مشهد الاختناق المروري في الطريق السريعة، والذي فيه يعْلق الطاقم الفني، يصور فلليني جواً عاصفاً وممطراً، مع أبقار ميتة، سيارات محترقة، قساوسة حانقين. فلليني يجعلك ترى الشيء، الذي اعتدت على رؤيته مراراً، من منظور مختلف، من زاوية لم تختبرها من قبل، وكأنك تراه للمرة الأولى، بحيث يبدو كل شيء جديداً وغريباً، والمألوف يصبح غرائبياً أو خارقاً.
يقول فلليني (Continental Film Review, April 1971): "غرضي هو أن أخلق صورة شخصية (بورتريه) لروما.. أن أخلق إطاراً لمشاعري الخاصة عن المدينة. بدلاً من أن تتسم بالاختلاط الكامل، ستكون كشفاً للأشياء بلا أي هدف معين. الفيلم سيكون نوعاً من السيرة الذاتية (..) الفيلم سيكون مبنياً على ثلاث وجهات نظر مختلفة. الأولى، سوف تتعامل مع إعادة البناء الخيالية لروما كما رأيتها منذ أن جئت إلى العاصمة، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، قادماً من الأقاليم حاملاً فكرة متصورة سلفاً لروما من الكتب والقصص. الثانية، نظرة حميمية وعاطفية تتصل باحتكاكي الأول مع أهالي روما وأحوالهم النفسية. الثالثة، هي تحقيق في الواقع، بحث دون كيخوتي بعض الشيء".
روما المدينة لها حضور درامي قوي في أغلب أفلام فلليني، منذ فيلمه الأول "الشيخ الأبيض" (1952) حيث البطل يتجول في المدينة، روما، باحثاً عن زوجته. هي لا تحمل هوية ثابتة، إنها متحولة دوماً، ويتعذر تعريفها أو تحديدها أو تصنيفها.
في فيلمه "ساتيريكون" Satyricon (1969)، المستوحى من حكايات كتبها الشاعر والسياسي الروماني بترونيوس (الذي انتحر في العام 66 قبل الميلاد) أثناء فترة حكم نيرون، يصور فلليني الحياة في روما القديمة، الغابرة.. "روما التي تحاول أن تحمي نفسها من الموت بشرب الحياة حتى الثمالة".
في الستينيات، بالنسبة لفلليني، روما لم تعد المدينة التي كان يعرفها عندما وصل إليها للمرة الأولى: "حي صغير من الغرف المؤثثة حول محطة القطار الرئيسية، المأهولة بسكان من النازحين المذعورين والمومسات والمحتالين والصينيين الذين يبيعون ربطات العنق" (كما عبّر في إحدى مقابلاته، المنشورة في كتاب Fellini on Fellini، 1976)
فيلم "روما" ليس وثائقياً عن المدينة، فمعظم مشاهده مصورة في الأستوديو. إنه فيلم عن روما وفلليني، وكيف انطبعت المدينة، كواقع وفكرة، في مخيلة فلليني. وهو نفسه يظهر في عدد من المشاهد كصانع للفيلم، حيث يخطط وينجز. العمل يتراوح بين الحاضر والماضي، الواقع والخيال. وهو لا يلتزم بتنامي البناء الدرامي، ولا يسبر دوافع شخصياته، بل لا يكترث كثيراً بحبكة محددة أو مسار قصصي.
يقول الناقد جون روسل تايلور (Sight and Sound, Autumn (1974: "الفيلم (روما) ربما لا يتضمن شيئاً جديداً ، لكن من يستطيع أن يبقى محايداً تماماً، غير متأثر بالتألق الصرف، بالبراعة الفنية الفائقة، التي بها حشد فلليني مواده، وبها صوّر مشاهده الآسرة.. تلك التي تُظهر القساوسة في عرض تهكمي للأزياء، أو اكتشاف المدينة الأثرية، أو تلك التي تستدعي طفولته الخاصة وعلاقته بروما بوصفها أسطورة".
وقال الناقد البريطاني كين لاشن (Films and Filming ?): "روما.. أعظم مديح وثائقي زاخر قدمه مخرج سينمائي لمدينة ما".
عمل فخم، ثري في مادته، ضمن نسيج فني تتمازج فيه الدعابة والسخرية والهجاء.
بعد الانتهاء من الفيلم، صرّح فلليني قائلاً: "يتراءى لي بأننا لم نصور روما الحقيقية.. لا تزال تهرب مني. إنها غامضة كامرأة تحبها فتمتلكها، ثم تلتقي بها ثانية فتشعر بأنها غامضة من جديد، فتتساءل عما إذا كنت قد امتلكتها حقاً".