منذ أن ظهرت شبكة الانترنت، ولدت معها شائعة تقول إن القراءة الورقية "التقليدية" باتت مهددة. فالعديد من الكتب غدت متوافرة الكترونيا وبات في امكان القارئ الحصول عليها بكلفة وجهد أقل. أخيرا ظهرت أيضا طريقة جديدة لقراءة الكتب الكترونيا، هي الآي باد، التي ستجتاح الأسواق الغربية هذا الصيف. الآي باد عبارة عن شاشة على شكل كتاب يمكنها تحميل آلاف الكتب. جل ما نحتاج اليه، هو شراء هذا الجهاز، ومن ثم دفع مبلغ صغير من أجل الحصول على أيّ كتاب نريده. شركة "أمازون" أطلقت بدورها جهاز كيندل الذي يمكن عبره شراء آلاف الكتب. وقد أنشأت "أمازون" من خلال علاقاتها مع الناشرين مكتبة كبيرة لجهاز "كيندل". بالنسبة إلى البعض، فإن الآي باد والـ "كيندل" ربما يكونان الخيار النموذجي العصري للقراءة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يلغي حقا الكتابُ الالكتروني الكتابَ الورقي؟ سألنا بعض دور النشر اللبنانية اذا كانت لديها الرغبة والنية في تبني هذا النوع من الكتب، فكانت الأجوبة ايجابية. لكن الجميع اعتبروا أنه لا تزال هناك مشكلات تقنية كبيرة تحول دون استخدام هذه الآلة، كونها لا تستقبل ملفات باللغة العربية، وكون استخدامها يشترط تطبيق آلية قانونية معينة لحفظ حقوق المؤلف، فضلا عن حاجتها الى دعم مؤسسات تمويلية والى مساعدة الدولة. حتى الآن لم يصبح هذا الجهاز معتمدا في لبنان، فضلا عن أن المجتمع العربي غير معتاد على شراء السلع عبر الانترنت، وربما لن يتقبل هذه الفكرة.
ماذا يقول أصحاب الدور؟
مديرة "دار الآداب" رنا ادريس تؤيد فكرة الكتاب الالكتروني وليس لديها أي مشكلة في اعتماد هذه الطريقة في القراءة التي سيتقبلها الجيل الجديد لأنه ليس لديه حنين للورق. تعتقد ادريس ان الكتاب الالكتروني ربما يحل يوما ما مكان الكتاب الورقي. تعتبر أن هذه الطريقة تحترم البيئة أكثر، كونها لا تستهلك ورقاً ولا تتلف الأشجار. تحترم المسافات وتشجع على المزيد من القراءة، كما أنها توفر على القارئ دفع الأموال. وهي طريقة عملية للقراءة كون القارئ يستطيع حمل العديد من الكتب الى البحر وأينما يريد. لكن هذه الطريقة تحتاج الى رعاية دولة ولا مقدرة للأفراد على ادارتها. تضيف: "نحن في حاجة الى مؤسسات تمويلية لتسلمها والى جهاز تنسيق وقوانين خاصة بها". تخبرنا ادريس انها لم تحوّل بعد أيّ كتب ورقية لتجعلها الكترونية، كون كتب الدار في معظمها روايات، ومعظم الكتب التي غدت متوافرة الكترونيا هي معاجم وكتب علمية وليس روايات. تقول أيضاً ان جهاز "أمازون" لا يزال غير مجهز لاستقبال نصوص باللغة العربية.
مدير "المركز الثقافي العربي" حسن ياغي يعتبر أن الكتاب الالكتروني سيكون له حضور قوي في المستقبل ولكن من دون أن يلغي الكتاب العادي، وهو كإدريس، يرى انه لا يزال هناك مشكلات تقنية كبيرة في هذه الآلة كونها لا تستقبل ملفات باللغة العربية.
أما مديرة التحرير في "دار الساقي" رانيا المعلم، فهي بعكس زميليها، متمسكة بالكتاب الورقي. فكرة الكتاب الالكتروني ليست مطروحة لديها في الوقت الحاضر. أما اذا غزا الأخير السوق، وغدا شائعا ويسهل وصول المعلومات أكثر من الكتاب الورقي، فإنها ستعتمده ولكن لن يحل محل الكتاب الورقي. أي أنه سيصبح لكل كتاب نسخة ورقية وأخرى الكترونية.
هل يحترم هذا الجهاز حقوق المؤلف؟ الجميع يعتبر ان حقوق المؤلف مهدورة سواء في الكتاب الالكتروني أم في الكتاب الورقي، وما من قوانين صارمة تدافع عن هذه الحقوق. تعتبر ادريس مثلا أن حقوق المؤلف مهدورة في الكتاب الورقي. وستكون مهدورة اكثر في الالكتروني. لذلك فإن هذه الطريقة في القراءة في حاجة الى قوانين وتشريعات خاصة بها وتجهيزات وتدبيرات تنظمها وتحفظ حقوق المؤلف. كإدريس، يعتقد حسن ياغي ان حقوق المؤلف في العالم العربي غير محترمة، لا ورقيا ولا الكترونيا، وهذا عائد الى التشريعات والقوانين المعمول بها. المعلم حريصة أيضا على حقوق المؤلف، لذلك تعتبر أنه يجب أن يكون هناك آلية مدروسة لقراءة الكتب وتحميلها.
... وماذا يقول الكتّاب؟
في مرحلة موازية، سألنا عدداً من الكتّاب، بناء على علاقتهم القديمة والوطيدة مع الكتاب الورقي، اذا كانت لديهم الرغبة في قراءة هذا النوع من الكتب، أو القدرة على استبدال الكتاب الورقي بالكتاب الالكتروني. بعضهم كان لديه حنين الى الورق والى كل ما هو مادي ملموس، معتبرا أن الكتاب الالكتروني يضع القارئ على مسافة من العبارة، والبعض الآخر ليس لديه مشكلة التكيف مع التكنولوجيا وتغيير عاداته القديمة وطقوس قراءته، وجزء ثالث لم يتخذ قرارا حاسما بعد.
الكاتب غسان جواد مثلا، ليس لديه مشكلة للتخلي عن الكتب الورقية وليس لديه حنين الى هذا النوع من الكتب. هو متكيف مع التكنولوجيا الجديدة التي تسهل الحصول على المعلومات. يقول إنه ربما تكون هذه الخطوة الالكترونية في خدمة الصحافة بشكل عام على اعتبار أنها توفر الكتاب والمعلومة بأسهل الطرق، وتقرّب النص من القارئ وتخلق معها علاقة بصرية من نوع آخر، بحيث لا يستخدم يديه في تقليب الصفحات ولا يحتاج الى مصباح ولا الى وسادة كي يسند ظهره عليها. جل ما يحتاجه هو أن ينقر على صفحات الكترونية تنتظم وتصطفّ أمامه فيقرأها من الأعلى الى الأسفل "كمن يستعرض فرقة في حرس الشرف الرئاسي، وأنا مشغوف بهذه التجربة وأنتظر أن تصبح متوافرة في المكتبات اللبنانية والعربية لكي تسهل عليَّ عملية الاطلاع وتعطيني متعة اضافية بدأتها سلفا من خلال بعض الكتب التي تأتيني عبر الانترنت". يخبرنا جواد أنه قرأ حديثاً صوفيات أبو يزيد البصطامي من خلال كتاب وصله عبر الانترنت، واستمتع بها. في رأيه أننا ربما أصبحنا على عتبة الوصول الى مرحلة لا نحتاج بعدها الى الكتاب الورقي الا للزينة. "في مرحلة من المراحل كان لديَّ حنين الى الورق أما الآن فتلاشى هذا الحنين. حتى الكتابة الشعرية أكتبها الآن عبر الكومبيوتر".
أما الكاتب يوسف بزي، بخلاف زميله غسان جواد، فلديه حنين الى الورق ويفضل كل ما هو مادي ملموس ودافئ على الكتب الالكترونية التي يعتبرها باردة وبعيدة عن القارئ. يقول إنه يتعامل منذ عشر سنين أو أكثر مع الكومبيوتر والانترنت بطريقة محترفة، وقد اعتاد على الكتب الالكترونية، وأصبح الكومبيوتر جزءا من حياته.
"أكتب وأقرأ على الانترنت وأتعامل مع كل البرامج". لكنه يضيف ان طقوس القراءة عبر الكومبيوتر مختلفة عن طقوس القراءة الورقية وهذا شيء طبيعي. لا شيء يلغي الآخر. لكنه يتدارك قائلاً: "اذا أخذت في الحسبان التربية والعادة والمزاج المتراكم مع العمر فأنا أفضل الكتاب الورقي". لدى بزي علاقة حميمة مع الورق الحسي الملموس. يعتبر أن قدرته على فهم المواضيع هي أقوى ورقيا. لأن الكتاب الالكتروني بعيد عن القارئ ولا يستطيع ذلك الأخير ان يتلمسه، والقراءة الالكترونية هي أقرب من أن تكون مشاهدة تلفزيونية. القراءة الورقية تكمن في فض العبارات وولوجها، أما القراءة الالكترونية فتجعله على مسافة بعيدة من العبارة. الاثنتان لهما متعة. وأغلب الكتب التي يحبها ورقية. يشعر ان الكتاب الالكتروني هو أجنبي بالنسبة إليه. الدليل على ذلك أن أغلب الصحف التي تصدر والمقالات السياسية والأخبار، يطالعها عبر الانترنت الا الشيء المحبب له يقرأه عبر الجريدة الورقية. "هذا هو الفارق في العلاقة، لا نية لي للخروج من الزمن، لكنني أفضل الكتاب الورقي أكثر. وليس لديَّ أي موقف سلبي ضد المستحدث او الجديد."
كذلك الكاتب عبيدو باشا يؤيد رأي الكاتب يوسف بزي. فهو لا يشعر أن في استطاعته أن يبني علاقة بكتاب موجود على شاشة كومبيوتر. يعتقد باشا أن هذه الشاشة تشكل جدارا بينه وبين روح الكتاب. "لا أزال حتى هذه اللحظة أحفظ ذلك الجزء البعيد من طفولتي حين لم يكن في مقدور اهلي أن يشتروا لي كتاباً جديداً. لذلك غالبا ما قصدنا منطقة اللعازارية لكي نشتري كتبا قديمة استهلكها طلاب سبقونا في الصف. وقد افتقدت هذه الكتب الى رائحة الكتب الجديدة. حين اشترى لي والدي كتابا جديدا، أول ما فعلته انني فتحته وشممت رائحته". يقول باشا إنه لا يزال حتى هذه اللحظة يحتفظ بهذه الرائحة في انفه، ولا يزال حين يشتري كتاباً يشم رائحة طباعته الجديدة قبل أن يقرأه. يقول انه لن يتخلى عن علاقته المحسوسة المباشرة بالكتاب، لأنه يعتقد أنه ليس كتابا خارج اللمس وخارج القبض والشد على الورقة حتى يتخطاها الى ورقة اخرى. ولا كتاب خارج صناعة الكتاب التقليدية. يروي لنا ان صديقه أهدى اليه كتابا ألكترونيا هو على شكل آلة تساهم في استجلاب نصوص وكتب وقراءتها باشتراكات قليلة، وانه ارتبك امام هذه الآلة وشكلها ودورها ووظيفتها. وعاد الى مناماته الجميلة مع الكتب المطبوعة لأنه لا يستطيع ان يغفو الا اذا لمس أوراق الكتاب واشتم رائحته.
الكاتب حسن داوود بدا حائرا: أيلاحق التطور أم يتمسك بعاداته القديمة؟ فمن جهة لديه حنين الى الكتاب ورائحة الورق، ومن جهة أخرى هو مبهور بالكتاب الالكتروني وبقدرته على تحميل آلاف الكتب. "بدأت أتساءل ماذا أفعل بمكتبتي. وما زلت أذكر كيف نزلت الى سوق المكتبات قرب اللعازارية وأحضرت ديوان المتنبي وكان ذلك عام 1964. كما أذكر استعجالي طريق الرجوع لكي أصل الى البيت وأبدأ بالقراءة". يقول انه تابع التفاصيل عن الكتاب الالكتروني وكلّف ابنته التي تعيش في فرنسا ان تشتري له أول نسخة من هذا الكتاب. ما أدهشه أكثر، أنه يستطيع أن يجمع كل كتب العالم في هذا الجهاز. لكنه يتدارك قائلاً إنه بنى علاقة خاصة مع كل كتاب ورقي عنده في المكتبة، وهذه العلاقة لن يوفرها بالطبع الكتاب الالكتروني. يعتقد انه أمام خيارين إما أن يلاحق التطور وإما يبقى على كتب أهله وجدوده فتطويه صفحة التاريخ.
النهار 25
مايو 2010