طرحت شركة "أبل ماكنتوش" في الأسواق الأمريكية منتجها الرقمي الجديد "Ipad"، وهو واحد من عائلة تقنيات رقمية تتأسس على إتاحة المعلومات، ويتكون من جهاز صغير رقيق، يمكن للشخص حمله أينما ذهب، واستخدامه في أي وقت، وخلافا لغيره من الأجهزة الرقمية، فهو مصمم بشكل رئيسي لتصفح الصحف والمجلات. إلا أن الأهم من ذلك، هو كونه مكتبة تشتمل على عدد لا يحصى من الكتب في مختلف المجالات، والتي ستقدم بشكل أكثر جاذبية، واستجابة لإيقاع عصر لاهث متسارع.
هل ستشكل المكتبة الرقمية إضافة وإثراء للمكتبة التقليدية، المحتوية على الكتب الأدبية والعلمية والفكرية، أم ستكون اعتداء عليها وإزاحة لها من مشهد القراءة؟ وهل ستمثل ثورة مفاهيمية تعيد تشكيل مفهوم الكتاب، ومفهوم القراءة أيضا؟ وهل مثل هذه الأسئلة مشروعة لدينا؟ ونحن أمة لا تقرأ! نتساءل كما لو أن المدن العربية تعج بالمكتبات وروادها من القرّاء، أو كأن القراءة عادة متجذرة في مجتمعاتنا.
هذا الجهاز الصغير سيوفر مكتبة كونية، يمكن لمقتنيه قراءتها على جهاز حاسوبه الشخصي، والكتب فيما تسميه التقنية الرقمية قراءة تفاعلية، ستكون متصلة بروابط تحيل إلى الأزمنة والأمكنة والشخصيات إذا ما كانت كتباً أدبية، فإذا قرأنا رواية يذكر فيها نهر الميسيسيبي، سيحيلنا الرابط إلى صور للنهر وموقعه الجغرافي على خريطة العالم، وسنسمح هدير مياهه أيضا، والكتب العلمية ستترافق مع الرسومات التوضيحية، ونبذات تعريفية بالمصطلحات وغيرها من الروابط، كما أن هذه التقنية تتيح لمداخلات القراء أن تصبح جزءا من الكتاب. إذن فهي كتب، عدا عن كونها رقمية، فهي أيضا ليست تقليدية، وهذا قد يثير نشوة الانتصار لدى المتحمسين لثورة التكنولوجيا، وقد يثير الأسى لدى المتشبثين بمفاهيمهم وعاداتهم تجاه قراءة الكتب.
لمثل هذه المكتبة الرقمية مآثر عديدة لا يمكن إغفالها، فمن كان يصدق أن بإمكان المرء حمل مكتبة معه في كل مكان، في لوح رقيق خفيف الوزن، مكتبة يمكنني وضعها في حقيبتي الصغيرة، إذا ما رغبت بالقراءة في حديقة أو مقهى. سأتمشى بينما أحمل مخزن كتب بطاقته الاستيعابية كبيرة، أنتقي منه ما أود قراءته بنقرة على اسم ملف، لتنفتح أمامي عوالم كتب ساحرة، عابرة للحدود الجغرافية، متجاوزة الحواجز والقيود، وشروط رقابة دوائر المطبوعات العربية. يمكنني قراءة كتاب صدر للتو في قارة بعيدة، يصعب توفره في الأسواق المحلية قبل سنوات.
ميزات باهرة لهذا الجهاز الرقمي تتواءم مع رغبة القراءة، ولا سيما بالنسبة للكتب ذات الطابع العلمي المادي البحت، لمضمونها المحدد المعلومات، لكن ثمة إشكاليات تحيط بالكتب الفكرية والأدبية على وجه الخصوص، ستبقى هناك حلقة مفقودة لمن له علاقة وثيقة بقراءتها. في الكتاب الورقي خيال حر مجنح، كلمات مسطرة تندلع في المخيلة فيتم تشكيلها مرات ومرات، وفقا لوعي وذائقة القارئ وهواجسه أيضا، الكتاب الرقمي غرفة، سوف ترفع اسوارها في وجه المخيلة، وتحدد لها المسار والفضاء، فما تسميه التقنية الرقمية كتابا تفاعليا، يقضي على ميزة الكتب الخلاقة في إعطاء دور أساسي ومهم للقارئ في التحليل والفهم الخاص والمنفرد، وفي ابتكار الصور، وإغناء خياله وتعميق حسه ومداركه. لا أريد قراءة تفاعلية، تحجم مخيلتي الجامحة بالمؤثرات، وبوجود جماعة تشاركني فعلا في غاية الفردية والذاتية.
وفي العلاقة مع الكتاب الورقي، ما هو إنساني حميم، ويشبه العلاقات الإنسانية بين البشر، فالتواصل مع الكتاب ليس مجرد تمرير للبصر على مادة مكتوبة، إنه قراءة النبض في كلمات، وفي ثنايا كتاب أمسك به وأتحسس ملمس أوراقه، أصادقه وأدون عليه أسئلتي ودهشتي وتأملاتي، وأقيم معه حوارا معرفيا متأنيا، أجول بين سطوره ويجول في عوالمي، حواراً أشك أن كتابا رقميا سوف يقدمه لي.
لنقر أنه زمن كل ما هو افتراضي، وليس حقيقياً ممسوكاً، تماما كما العلاقات الإنسانية الرقمية التي تقام عبر الإنترنت، علاقات افتراضية تسبح في فضاء إلكتروني، تمنحنا سرعة الاتصال بشكل مذهل، لكنها لا تمنحنا سرعة التواصل، ولا عمقه وحقيقيته، نسمع صوتا نقيا بفضل التقنية الفذة، وقد نرى صور الطرف الآخر، ونعيش في وهم امحاء المسافة، لكن المسافة الإنسانية تظل شاسعة، وحتى إمكانية المعرفة العميقة تظل قاصرة، بدون تلاق حقيقي بين الشخصين، يسمح للكيمياء أن تنطلق بينهما وتقرر مقدار الحميمية، ويتيح للغة الجسد الأصدق أن تقبل أو تنفر.
وهو زمن يعيد تشكيل مفرداته ومفاهيمه، ويعيد معها إنتاج أشكال الكتابة الإبداعية وأجناسها، ويراجع معها توصيف الكتب، الرواية لن تبقى تلك الرواية ببنائها الفني المعروف، إذا ما اختلطت مادتها المكتوبة مع مؤثرات سمعية ولونية، وإذا ما اتصلت كلماتها بصور ورسوم، علاوة على مشاركة القراء التفاعلية، في التعليق والحذف والإضافة. ولا يمكنني تصور الشعر، وهو المتكئ كلية على طاقة المخيلة، كيف يمكن قراءته وتذوقه بينما تهدر على ضفاف الصفحة الرقمية، أصوات وصور توضيحية! ماذا سيتبقى من دهشة الإبداع؟ ماذا سيتبقى لنا من متعة؟
وبينما تستشعر دور النشر العالمية خطرا مع اقتراب طرح هذا الجهاز في العديد من دول العالم، وتستعد لمقاومة إخراجها من عالم الكتاب، بالتعاقد مع الشركة المنتجة، لنشر كتبها بصيغتها الرقمية الجديدة، إلا أنني لا أعتقد أن الكتاب الورقي سيندثر أو ينتهي راغبوه، سيظل هناك من هم مثلي ممن ينتمون لعالم كبر بين دفتي كتاب، وأقاموا مع صفحاته علاقة متينة لا يمكن التنكر لها، وهو جيل يقيم في المنطقة الوسطى ما بين عالمين، ويسعى لإيجاد مكانه فيهما في آن دون أن يرثي ملامحه، أما الحماس الكبير فسيكون من نصيب جيل جديد، جيل رقمي بامتياز، لم يختبر الكتاب يوما، ونمت حواسه ووعيه على لوحات مفاتيح الحواسيب، ويفضل الوجبات السريعة.
القدس العربي
5/25/2010