بعد الثورة المعلوماتية العظمى، ثمة أدوات تواصل عديدة تلاشت، وحلت مكانها أدوات أخرى، ومن بينها طريقة التواصل عبر الرسائل، إذ إن من يتتبع تاريخ تطور البريد، يجد أنه مر بأطوار كثيرة، إلى أن استقر على أنموذج البريد التقليدي العالمي المعروف، حيث لكل بلد بريده، ضمن شبكة عالمية، وكان المأخذ على هذا النوع من البريد أنه قد تستغرق الرسالة إلى أن تصل من المرسل إلى المرسل إليه أياماً ضمن البلد الواحد، ويصل الأمر إلى أن تستغرق الرسالة أسبوعاً أو أكثر، إذا كانت موجهة إلى بلد آخر، وكانت الرسالة معرضة للضياع، إلى أن تم إيجاد البريد المضمون، بل إنه في العقد الأخير من الألفية الماضية انتشر البريد العالمي السريع ليشمل كل مكان، بيد أن هناك من كان يمارس دوره الرقابي في التلصص والاطلاع على مضامين هذه الرسائل، بل ومصادرتها، ومحاسبة مرسليها، في ما لو تجاوزت ما هو مسموح في أعراف البلدان التي كانت تفرض أنواعاً مختلفة من الرقابة حتى على الرسائل المتبادلة بين الناس، ولكم من رسالة أدت إلى اعتقال مرسلها والمرسل إليه، إن كانا في متناول قبضة سلطة الرقابة، في بعض بلدان الاستبداد .
ولعل ما كان مؤلماً أن ملايين الرسائل تعرضت للمصادرة، وثمة من قد ينتظر رسالة منذ خمسين عاماً، أو أكثر، من دون أن تصل، بل إن وصول رسالة ما من مثل تلك الرسائل كان سيغير أوضاع هذا الشخص، أو ذاك .
وكيفما كانت قبضة الاستبداد، فإن للرسالة البريدية التقليدية نكهتها، وطقوسها، وسطوتها، وسحرها، بالنسبة إلى المرسل، والمرسل إليه، في آن واحد، فلا يزال بيننا من يحتفظ بعشرات الرسائل الأثيرة بالنسبة إليه، فهي توقظ في أعماقه ذكريات ما، مفرحة، أو محزنة، بل إنها لتحمل رائحة أنامل، وخطوط، وحبر كتابها، ناهيك عن أشكال ودلالات الطوابع، والأختام التي تحتفظ بها .
والآن، نحت الرسالة منحىً آخر، في ظل ثورة التكنولوجيا العملاقة، هذه، حيث بتنا أمام ثورة في عالم الرسالة، فليس هناك، ورقة، أو قلم، أو حبر، ولا مغلف، بل هناك لوحة مفاتيح تحتضن حروفاً باردة، خرساء، ما أن يضغط عليها أحدنا حتى ترتسم حروف هندسية على شاشة حاسوبه، وصار في إمكان من يريد توجيه رسالته، إلى من يشاء، في أي طرف من أطراف المعمورة، كي تكون بين يدي المرسل إليه، بعد الضغط على “enter” بل وقد يستطيع أن يوجه رسالته إلى أعداد هائلة من المتلقين المعروفين، أو المجهولين، موفرة الكثير من الوقت والجهد، بيد أن هذه الرسالة باتت غارقة في لهاث عصر السرعة، إذ تكتب بأقل ما يمكن من مفردات، حيث لم يعد ثمة فرق بين نعوة، أو أية رسالة وجدانية أخرى، إذ تم ابتذال معاني أشياء كثيرة، من بينها “رسائل الحب” التي باتت تكتب على عجل من أمر كتابها، إما عبر البريد الإلكتروني، أو عبر وسائل الدردشة الأخرى، فاقدة الحياء، متهتكة، أو مبتسرة، باردة، بعيدة عن تلك الحميمية التي كانت تشعلها في نفوسنا، لذلك فهي -في الأغلب- تنزع نحو رسميتها، ويكاد أسلوب الكاتب الأصيل، يتاخم أسلوب التاجر، حيث لا مجال للتمايز، فالمتلقي في عجلة من أمره، ليس لديه المزيد من الوقت كي يقرأ رسائل مطولة، كما أن المرسل نفسه، مشتتٌ، مبعثر، أمام كم كبير من الرسائل التي سيكتبها للناس، لأن شبكات التواصل مع الآخرين قد ازدادت حقاً، بيد أنها تكاد تكون شبكات واهية، مادامت هي افتراضية، في نهاية المطاف، بل إن بريد كل شخص بات يجمع بين الرسائل المهمة، والرسائل المتطفلة، والرسائل الاستفزازية التي قد ترسل من قبل مجهولين، ناهيك عن أن هناك رقابة جديدة من قبل بعض دول العالم على هذا البريد، إضافة إلى أنه بات لبعض العابثين سطوتهم، وإمكانهم في أن يخترقوا علبة بريد أي شخص، كقراصنة أو هاكرز، وقراءة ما به، أو تحطيم البريد كاملاً، لاستعادة سلطة القرصنة، على نحو آخر، إذ بات كثيرون قلقين على بريدهم اليومي، وما أكثر ما يقوله بعض المدونين أو النشطاء الذين تعرضوا للاعتقال، في بعض بلدان الثورات الشعبية، أن أباطرة “أمن المعلومات” كانوا يضغطون عليهم، للاطلاع على بريدهم، فما أكثر تلك الحالات التي كانت أجهزة التحقيق تفرد رسائل بعض من تستدعيهم، أو تعتقلهم أمامهم!، قائلة لهم: انظروا إلى ما ورد إليكم، وما كتبتموه، ضاربة بكل حقوق المراسلة، وفق مواثيق حقوق الإنسان، عرض الحائط، كي يكون ذلك في عداد الوثائق التي ترفق بضبوطات التحقيق، لإلحاق المزيد من الأذى بهؤلاء المدونين . . .!
لقد غدا البريد الإلكتروني جزءاً يومياً من حيوات نسبة عالية من مستخدمي الإنترنت، في شتى أنحاء العالم، حيث علبة البريد ليست في مبنى خاص بالبريد، ولا تدخل الرسائل القادمة في صندوق حديدي، أو خشبي، على مدخل المنزل، أو قرب باب أحد، بل يمكن الحصول عليها، إلكترونياً، بوساطة الحاسوب، أو إحدى شركات ال: gmail، أو hotmail، أو ال yahoo، من أمات شركات دعم البريد الإلكتروني، وغيرها من الشركات الصغيرة، أو الخاصة بهذا البلد، أو ذاك . كما أن البريد -التقليدي- بات مجرد فلكلور تراثي، يوماً بعد آخر، وبات استخدامه نادراً، وفي نطاق ضيق جداً، إلا في ما يتعلق ببعض الرسائل الرسمية، التي باتت تبتلعها الحكومات الإلكترونية، ليتم الاستغناء تدريجياً عن الصندوق البريدي التقليدي، ويصبح مجرد ذكرى، يقرأ عنه الجيل الجديد، في بعض القصص، والروايات، وهم يصنعون لغتهم الجديدة، مختزلة، بعيداً عن البلاغة، والديباجات المعروفة، بل ومن دون أن يكون في إمكان العاشقة أن ترسل خصلة من شعرها إلى من تحب، وليس في إمكان حبيبها إرسال وردة إليها، أو هدية، حيث تمت الاستعاضة عن كل ذلك بورود إلكترونية، وابتسامات إلكترونية، وقبلات إلكترونية، وبات الإعجاب الذي يبدو-عادة-من خلال عبارات دافئة، أو ملامح معينة تظهر على سيماء الوجه، تترجم إلكترونياً من خلال مجرد”ضغطة” على”الماوس” فحسب، لتكون علامة الإعجاب صورة قبضة يد متأهبة الإبهام . . .!
وإذا كان البريد التقليدي، يصل مرة، خلال الأسبوع، أو اليوم، إلى متلقيه، فإن النقلة الكبرى قد تمت بأن يكون بريد أي شخص من المليارات السبعة، في العالم، مفتوحاً، على مدى الأربع والعشرين ساعة، مادام الشريط الزمني بين لحظتي الإرسال والتلقي بات معدوماً، وهذا ما قد ينعكس على كثيرين، إذ يغدون مدمنين، يكادون لا يتركون حواسيبهم، برهة، منذ أن تنفتح أعينهم، إلى لحظة إعيائهم، بعد أن يضطروا للخلود إلى النوم، وهم مستوفزون، قلقون، متوترون، كي تصبح شاشة الحاسوب فضاءهم اليومي، لايبرحونها البتة، وهذا مايغدو في جوهره حالة مرضية، لابد من الاستشفاء منها،لأن العلاقة بالحاسوب، يجب أن تكون مدروسة، منضبطة .
كل ما ذكر، هو جزء بسيط من عالم البريد الإلكتروني، الذي باتت دائرة مستخدميه تتوسع، إلى أن بلغ الأمر تلك الدرجة التي بات المرء يحس بإحراج كبير، حين يكون بلا بريد إلكتروني، ليكون ذلك جزءاً من شخصيته، وهل أدل على ذلك من أن البطاقة التعريفية “البزنز كارد” لأي مثقف، أو فرد، إن لم يتضمن بريدهما الإلكتروني، فإن ذلك يدل على وجود فجوة، أو نقص، في هذه البطاقة، أو هذا الشخص، إنه الجزء المكمل لشخصية أي منا حقاً، أولسنا نتبادل هذه البطاقات التعريفية، أنى التقينا بأناس جدد، وكأنها صورنا الشخصية، أو موجز شخصياتنا وحيواتنا؟، ولعل “الإيميل” يغدو تلك العروة التي تربطنا بالآخرين، مادمنا نكاتب بعضهم، لتكون الكتابة، أكثر سطوة وأشد إيقاعاً وتعبيراً عن النفس، للاتصال مع العالم الافتراضي، مترامي الأطراف، والعابر للحدود، والقيود، والقارات . . . . .!؟
إن أي مقال لمفكر، أو كاتب، أو باحث، أو عالم، إن لم يكن مذيلاً ببريدهم الإلكتروني، بات نقيصة، وكأن في تثبيت “الإيميل” منجاة من تهمة الأمية الإلكترونية، وإشارة رمزية لولوج صاحبه في لجة العالم الافتراضي، حتى وإن كان هناك، من هو قادر أن يكتب أجمل القصائد، والقصص، والروايات، أو البحوث الفكرية، أو الفلسفية، بيد أنه غير قادر أن يتعامل مع بريده الإلكتروني، من دون الاستعانة حتى بطفل له، في الصفوف الدراسية الدنيا . . . . .!؟
****
يحفل تاريخ الأدب العربي برسائل متبادلة بين الكُتّاب، يرى البعض أنها تجاوزت في جمالياتها وتقنياتها الفنية الكثير من المنتج الأدبي نفسه، وأسست جنساً عُرف ب”أدب الرسائل” . النماذج كثيرة من أدبنا القديم أو حتى المعاصر، ولكن لوحظ في الفترة الأخيرة اختفاء هذا الجنس من الأدب، وهي ظاهرة حاولنا الاقتراب منها من خلال التحقيق التالي والذي فتح المشاركون فيه فضاءات ربما يؤدي تأملها بعمق إلى تجاوز أدب الرسائل إلى قضايا أدبية وثقافية أخرى .
يرى الناقد الدكتور جابر عصفور أن “أدب الرسائل” لم يختف، أو يتراجع، لكنه شهد تغيراً كبيراً في شكله ومضمونه، ووسيلته، موضحاً أن التكنولوجيا الحديثة، أدت إلى تغيير شكل الرسائل التقليدية التي كانت تكتب بالورقة والقلم، وباستطاعة الأدباء الآن من خلال الإنترنت أو الإيميل أن يقوموا بكتابة رسائل تصل على البريد الخاص، أو الحديث المباشر عبر وسائل الدردشة المنتشرة على الإنترنت والتي تحتفظ بتاريخ ونص الحديث، مهما كان طوله أو قدم تاريخه، أو بعد مسافة الطرف الآخر المتحاور .
وأشار إلى أن وسائل الاتصال الحديثة لم تتح لنا تبادل الرسائل الثنائية وحسب، بل أتاحت أيضاً إمكانية عقد مؤتمرات وحوارات جماعية، لذا كان من الطبيعي أن يختفي “أدب الرسائل” بشكله المعهود القائم على الورقة والقلم، والمراسلات، لأنه كان ابن مرحلة معينة، وعصر معين، وقد تحول الكثير من الأدباء والكتّاب إلى الرسائل الإلكترونية كوسيلة لتبادل الآراء والخبرات والمعلومات، حتى عبد الرحمن منيف نفسه، تحول في آخر حياته إلى الرسائل الإلكترونية، لأنه فرض نفسه كأحدث شكل للرسائل، واضعاً نهاية لعصر أدب الرسائل التقليدية .
ويتوقع “عصفور” أن يحدث هذا الشكل الجديد من المراسلات تغييراً كبيراً، ورغم ما لهذا التغير من مميزات، إلا أنه أصاب أصحابه بنوع من الحذر في إظهار المشاعر، لأن أي شخص بإمكانه أن يتسلل إلى صناديق البريد الخاصة بالكتّاب، عبر عمليات القرصنة العديدة التي تجري، ما يجعل هناك حالة من غياب الحميمية القديمة التي كانت موجودة لدى أدباء كتبوا رسائلهم مثل عبدالرحمن منيف، وغسان كنفاني، وغادة السمان، وغيرهم لأن الوضع اختلف، وطبيعة الرسالة اختلفت، وتحولت من أن تكون رسالة مكتوبة على ورق يمكن الاحتفاظ بها إلى رسالة مكتوبة بشكل مختلف تماماً، وهو شكل يفرض نفسه على طبيعة الرسالة وأسلوبها ومحتوياتها ومضمونها ومدى الحرية التي ينطلق منها الكاتب، وإن كان يفتقد إلى الحميمة، فإن به عفوية ممكنة، لأن للقلم هيبة تفتقدها الرسالة المكتوبة على الوسائط الإلكترونية .
ويقول الروائي إبراهيم عبد المجيد إن “أدب الرسائل” أدب عظيم جداً في العالم كله، وقديم، وهناك بعض الكتّاب يبنون أعمالهم الأدبية على الرسائل، إضافة إلى أن هناك كتباً تحوي رسائل الأصدقاء الكتّاب مع بعضهم بعضاً، ونذكر هنا ما يتعلق بأدب الرسائل هنري ميللر ومراسلاته مع دي اتش لورانس، وهكذا في العالم العربي لا ينتشر هذا الأدب بصورة كبيرة لكن الرسائل أحياناً تكون موجودة، كذلك رسائل الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني للكاتبة الكبيرة غادة السمان، لكن المشكلة في العالم العربي أن هذه الرسائل عادة لا تنشر، لأن بها صراحة لا يحتملها المجتمع العربي، لذا يحجم كثير من الكتّاب عن نشر رسائلهم خوفاً من مجتمعاتهم .
ويؤكد عبدالمجيد أن ثمة أدب رسائل حالياً، وهو أدب وهمي افتراضي، يقوم على “الإيميلات” المتبادلة سواء كانت واقعية أم متخيلة، موضحاً أن أدب الرسائل يتطور مع الزمن، وتخدمه وسائل وأدوات الاتصال الحديثة، كل يوم أكثر من سابقه، ويتطور أسلوبه ولغته، ويمكننا أن نرى ذلك في الرسائل القصيرة على “الإيميل” و”الموبايلات”، وبرامج الدردشة ومواقع التواصل الاجتماعي، وكيف تغيرت اللغة المستخدمة، وبعد أن كانت قديماً طويلة تحمل الكثير من المشاعر والعواطف، أصبح لها أحكام ولغة متداولة .
ويشير إلى أنه منذ فترة طويلة، والكتّاب يحجمون عن إصدار كتب حول أدب الرسائل، سواء حقيقية أم وهمية، ولكن هذا الشكل بدأ يزيد الآن عن أي وقت مضى، ويمكننا أن نرى هذا بوضوح في مدونات شباب الكتّاب الذين يحرص كل منهم على عمل مدونة خاصة به، ينشر من خلالها مراسلاته وأحاديثه الخاصة والعامة .
وبدوره تحدث الروائي محمد جبريل، عن أدب الرسائل قائلاً: “لم يختف أدب الرسائل في يوم من الأيام، على العكس، فقد ذاع وانتشر في الصور كلها التي نمر بها ونراها كل يوم، ك”الفيس بوك”، و”تويتر”، وغيرهما، ولم يعد مقصوراً على قلة من الكتّاب والأدباء، بل امتد وشمل كل المتعاملين مع “الفيس بوك”، لذا من الصعب أن نقول إن أدب الرسائل لم يعد قائماً، مشيراً إلى أن الكثيرين كتبوا رسائلهم الخاصة مثل نازك الملائكة، وأنور المعداوي، وفدوى طوقان، وغادة السمان، وغسان كنفاني، وغيرهم .
ويقول جبريل إن الإنترنت لم يلغ الأدب الذي قدمه هؤلاء عبر رسائلهم المكتوبة ورقياً، فاتساع القاعدة يؤكدها، ولا ينفيها، أنا شخصياً أتبادل، عبر البريد الإلكتروني، رسائل مطولة مع أصدقاء وصديقات، نقول عبرها آراءنا في أشياء كثيرة جداً، ونتعاتب، ونتصادق، ونلوم بعضنا بعضاً، حياة كاملة تغني عن الرسائل الورقية، خاصة أن الإنترنت بالنسبة لي أسهل، فاستخدام ورقة وقلم أمر مرهق جداً .
يقول الشاعر محمد علي شمس الدين: أدب الرسائل فن قديم، ومن أبرز ما ترك لنا التراث العربي والإسلامي رسائل إخوان الصفا . كذلك رسائل ابن عربي، وقد استمر هذا الفن، كونه فن تواصل بين اثنين أو بين كاتب وجماعة، في جميع العصور التاريخية حتى اليوم . ولعلّ في تاريخ الشعر والأدب شرقاً وغرباً الكثير مما يضيء على كتاباتهم الإبداعية . على سبيل المثال الرسائل المتبادلة بين الروائي والقاص والمسرحي فرانس كافكا، وصديقه ماكس بروت . ولا تزال في بالي جملة لكافكا تختصر سوداويته تجاه كل شيء، بما في ذلك ما كتبه هو . فقد أمر في إحدى رسائله من صديقه ماكس أن يحرقها . لكن ماكس لم يفعل . وقد نشرت الرسائل بعد موت كاتبها . هناك رسائل حب وتأمل ثمينة جداً بين مي زيادة وجبران خليل جبران تكشف عن خفايا في ظلمات النفوس، ولا تقلّ في قيمتها الإبداعية عن النتاج الفني نفسه، أذكر أيضاً الرسائل المتبادلة بين غسان كنفاني وغادة السمان .
هذا الجانب مازال موجوداً حتى الآن، وشخصياً أجد فيه متعة لقدرته على كشف الأسرار . وأستطيع أن أذكر طرفة من الطرائف تتعلق بالروائي والأديب الراحل د . سهيل إدريس الذي امتنع عن نشر بعض الرسائل التي إن عرفت لأدت إلى حرائق في الكثير من المنازل . لم يكن أدب الرسائل غزيراً من الأساس . ولكنه قليل وخاص . بيني وبين عبد الوهاب البياتي أكثر من ثلاثين رسالة متبادلة حول الشعر والحياة أفكّر في نشر بعضها نظراً للقيمة النفسية الإبداعية لما تضمنته من آراء شخصية، عارية تماماً حول عدد من المفكرين والكتّاب، واعتبرها شكلاً من أشكال كتابة السيرة أو البوح . وهذا ما يؤكد أن أدب الرسائل لم ينته وهو على الرغم من ندرة كتّابه يستمر مقروءاً ومطلوباً من ناس كثر .
وتقول الناقدة د . زهيدة درويش جبور، الأمينة العامة للجنة الوطنية للاونيسكو، إن الألسنية الحديثة تفيد أن كل عملية تواصل تفترض وجود عناصر ثلاثة: المرسل والمرسل إليه والرسالة . وبهذا المعنى تصبح النقوش التي تركها لنا الإنسان الأول على جدران الكهوف والرسومات التي نعثر عليها في قبور الفراعنة المصريين والألواح التي يتم الكشف عنها في عمليات التنقيب عن الآثار . . كلها رسائل . لكن المقصود بكلمة الرسالة في السؤال المطروح يتجاوز عملية التواصل، ليشير إلى جنس أدبي عرف رواجاً في تاريخ الثقافة العربية في مرحلة من مراحل تطورها . فقد ظهر أدب الرسالة بعد توسّع الفتوحات العربية والإسلامية وتأسيس الدولة نتيجة لبعد المسافة الجغرافية بين المرسل والمرسل إليه مما خلق حاجة إلى اعتماد الكتابة وسيلة التواصل . وقد برع العرب في هذا المجال ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مقامات بديع الزمان الهمذاني التي بلغت فيها اللغة درجة عالية من البلاغة والفصاحة . إضافة إلى ما تمتعت به من روح الفكاهة .
كذلك عرفت “الإخوانيات” وهي اسم آخر للمسمى نفسه ازدهاراً كبيراً في الأندلس . وفي زمن أقرب إلينا، أي في مطلع القرن العشرين أقبل عدد من الأدباء على كتابة الرسائل تاركين لنا أعمالاً اكتسبت شهرة واسعة مثل رسائل جبران إلى ماري هاسكل، ورسائل كل من العقاد وجبران إلى الأديبة مي زيادة التي تحتل موقع الريادة في أدب المرأة، ورسائل غادة السمان وفدوى طوقان، وإذ نلاحظ اختفاء هذا النوع الأدبي من المشهد الثقافي العربي المعاصر، لابّد لكي نفهم الأسباب من العودة إلى الظروف والحاجات الكامنة وراء ازدهاره في مرحلة سابقة . فلو عدنا إلى مطلع القرن العشرين لوجدنا أنه في ظل الأوضاع الاجتماعية السائدة ونتيجة للأعراف والتقاليد المتبعة كانت مساحات ومناسبات اللقاء بين الجنسين ضئيلة ومحدودة ففرضت الرسالة نفسها لملء هذه الفجوة .
هذا من جهة . ومن جهة أخرى، كان إيقاع الحياة يترك فسحة للتأمل والتفكير والحلم، مما يجعل من كتابة الرسالة لذّة في حدّ ذاتها يتذوق فيها الكاتب متعة الدخول إلى أعماق ذاته، يسكبها على الورق ليقدمها هدية جميلة إلى المرسل إليه، ومن خلالها يبتدع ذاته ويبتدع الآخر في آن معاً . إذ إنه يكتب هنا للآخر كما يحلو له أن يتصوره وأن يتوقع ردات فعله حين يقرأ رسالته، هنا يبدو التواصل أجمل لأنه ليس محكوماً باللحظة الهاربة، بل يصبح بحدّ ذاته انتصاراً على الزمن الأفقي، كما أن لأدب الرسالة صلة بالبنية الاجتماعية وانعكاساتها على العلاقات بين الناس .
ثمة زمن جميل حيث كانت الثقة وروح التعاون تؤسس لحوار مثرٍ بين الأدباء الذين كانوا يمارسون تجاه بعضهم ومن خلال فن الرسالة النقد البنّاء فيغتني واحدهم بتجربة الآخر ونصحه .
تحوّل الزمن وتغيرت الأوضاع والظروف ومعها البشر وكذلك الأدباء . ففي عصر الإنترنت وتقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة، تسارع نبض الحياة وأصبح اختصار الوقت هو القاعدة . دخلنا في زمن لا وقت فيه لما يجب أن يمنح كل الوقت . عنيت بذلك ما يختزنه الإنسان من ثراء روحي وعاطفي يجسّد سرّ إنسانيته . استعيض عن لذة التأمل بلزوم الاختصار، وعن فن كتابة الرسالة بلغة جميلة، بالرسالة القصيرة التي تختزل الكلمات وتحوّل اللغة إلى مسخ أو إلى أداة هجينة . فالغاية تقتصر على تبليغ الرسالة التي لا تنبع قيمتها من مدى ما تتحلى به من جمال فني أو ما تختزنه من المشاعر والمخيلة، بل من مدى نجاحها في بلوغ القصد . أضف إلى ذلك أن حُرمة الأدب بمعناه القديم أي فن التعبير الجميل قد استُبيحت فتكاثر عدد الكتّاب وازدادت معها علاقات التنافس والتحاسد فتقلصت مساحات الحوار وهو من العناصر الأساسية لفن الرسالة . رحم الله ذلك الزمن حيث كان فن الرسالة يُعلم في المدارس مع ما يحمله من التأدب في المخاطبة ومن التزام بقواعد التعبير البليغ .
ويقول الروائي اللبناني الياس العطروني: يعود اختفاء أدب الرسائل في عصرنا الراهن لأسباب عدة، أولها وأهمها أنه لم يعد هناك من رسائل بحكم وسائل الاتصالات الحديثة التي تمكن من التحادث ما بين قطبي الأرض، إضافة إلى عامل مهم آخر هو أن الرسالة عادة حسب ما ورد إلينا من الماضي، وعلى سبيل المثال رسائل ميّ زيادة وجبران خليل جبران، كانت تتضمن الحديث عن محاور على علاقة بالأدب والعواطف . وما يحدث الآن أن التحادث في الأدب قد ندر ليس بين الأدباء أنفسهم، بل حتى بين الأدباء وغيرهم .
أما من الناحية العاطفية التي كانت الرسائل تركّز عليها بعض الشيء، فكانت على علاقة بالرومانسية بشكل عام، بينما نعيش اليوم عصر اللارومانسية . وهي إن لم تكن قد انقرضت على الأقل فإنها ندرت . وهذا ظاهر في النتاج الأدبي الذي نراه اليوم . ولعلّ مرد ذلك يعود إلى العصر المادي البحت الذي نعيشه . فالرقم اليوم هو اللغة المتسخدمة وتليه باقي اللغات .
لقد تغيرت العلاقات العاطفية وما نعرفه عبر التاريخ من علاقات لها طابع عاطفي بحت لم تعد موجودة الآن، إذ اختلطت العاطفة بالمادة فولّدت حالة هجينة لا تسمح بوجود علاقات كالتي كانت قائمة والتي ارتكز عليها أدب الرسائل قديماً .
لا أدري إن كان هو التطور؟ فإذا كان كذلك فهو تطور يسير باتجاه البشاعة، أدب من دون رومانسية بنظري ليس أدباً، فالرومانسية هي الأساس في العلاقات البشرية عموماً والشخصية من ضمنها .
أما لماذا ندر التخاطب الأدبي، فيرجع إلى أنانية متفشية في الأوساط الأدبية عموماً والإبداعية بشكل عام . الكلّ يفكر في نفسه وليس في الآخر، وسقط مبدأ التلمذة من حيث توارث الأجيال لمن سبقها، فثمة مدارس جديدة في الكتابة الأدبية تغتال الماضي الجميل، وخير دليل على ذلك هو ما نراه على سبيل المثال في الكتابة الأدبية التي تأخذ منحى جنسياً على الغالب ومثل هذا المنحى يسقط الأدب من مقامه السامي كما هي حالة مرضية ولا يمكن الخروج منها في المدى المنظور، وإن أراد أحدنا أن يقارب المنفلوطي في ترجمته ل”بول وفرجيني” و”تحت ظلال الزيزفون” على سبيل المثال يصبح إنتاجه مدعاة للضحك، التركيز اليوم على الجسد وليس على الروح والنفس وهذه ظاهرة عامة في الأدب العربي عموماً، وذلك لأننا نأخذ مما يكتب في الغرب على صعيد الرواية وحتى في المسرح والسينما ومما يتناقض ويتنافى مع تاريخنا المبني على الكثير من الرومانسية التي أجد نفسي مضطراً للعودة إليها .
الكاتب الشيخ ولد سيدي عبدالله يرى أن آخر عهد للأدب العربي بأدب الرسائل كان مع مي زيادة وجبران خليل جبران وغسان كنفاني، راداً اختفاء أدب الرسائل بين الكتّاب في واقعنا الراهن إلى تغير الحياة ونمطها، وخاصة في مجال أنماط الاتصال مع الثورة المعلوماتية والمواصلاتية التي توجت بالثورة الإلكترونية .
ويقول إن أدب الرسائل كتب في فترات لم يكن يوجد فيها من وسائل الاتصال سوى الرسائل حيث كان الكاتب يراسل نظيره أو أستاذه أو غيره، مجتهداً في عرض معارفه وإحالاته ورموزه وإبداعاته وسعة اطلاعه، وتعددت أشكال هذا الأدب من رسائل تحولت إلى كتب، ومقالات أدبية شيقة إلى جانب أدبي إنساني يبوح من خلاله الكاتب بقدرته الأدبية أو العقلية كرسائل الألغاز التي عرفت عند الشناقطة، وكانت بمثابة شيفرة خاصة بين النخبة العلمية . ويضيف “أما الآن فقد باتت وسائط الاتصال بأشكاله المختلفة من هاتف وفاكس وإنترنيت ومواقع تواصل اجتماعي توفر للكاتب خدمة الاتصال المرئي والمسموع، فقد انتفت الحاجة إلى الرسالة كوسيلة اتصال، وبذلك أيضاً انتفت الحاجة إليها كحاضنة أفكار ومشاعر بين الكتّاب، فلم يعد الكاتب بحاجة لأكثر من ضغطة زر للاتصال بزميله ومناقشة أفكار أو آراء أو بث هموم شخصية .
ويعتبر أن الكثير من وسائط الاتصال المعرفية القديمة انتفت الحاجة إليها، فحتى الكتاب الورقي يصارع اليوم للبقاء في صراع لمصلحة الكتاب الإلكتروني .
ويعتبر ولد سيدي عبد الله أن هناك تغيراً آخر صاحب ذلك وكان من دواعيه، وهو توجه المثقفين إلى الثقافة الاستهلاكية الجماهيرية على حساب ثقافة النخبة، حيث أصبح الكاتب يسعى إلى تعميم رسالته على جمهور المستهلكين نظراً لمتطلبات الحياة الجديدة الخاضعة في كثير من حركيتها ومحركاتها لمجتمع السوق، وبذلك أيضاً تم تجاوز هاجس التعقيد الذي كانت تتطلبه رسائل الماضي إلى هاجس التبسيط الذي يكثر عليه الطلب في المرحلة الراهنة نتيجة لعوامل كثيرة لعل من بينها نفاذ فئة العامة من الجمهور إلى الثقافة عبر وسائط الاتصال الحديث من صورة وصوت وإيحاء وتعبير بأشكال مختلفة، ولهذا فالكاتب اليوم يشعر أنه بحاجة لإيصال فكرته إلى أوسع جمهور مهما كانت محدودية معرفته وليس مجبراً أو مرغماً على الخضوع لاعتبارات النخبة وفق شعار الفن للاستهلاك، ووفق شعار أن الجمهور هو الذي بات يحدد مكانة الكاتب في عالم اليوم .
ومع ذلك لا نجزم أن أدب الرسائل اختفى بشكل كلي من عالم الوجود، إذ لم نطلع بعد على حقيقة ما يدور بين كتّاب عصرنا الراهن من خواطر ورسائل قصيرة نصية عبر الشبكة العنكبوتية، ستبقى إلى حين طي الكتمان لأسباب شخصية، وعلينا بالمقابل انتظار أن تفصح الأيام والحوادث عن تلك النتف والعبارات الموجزة التي يتبادلها الكتّاب عبر بريدهم الإلكتروني، فقد تكون مفيدة خاصة إذا عرفنا أن لغة الرسالة وأهدافها تغيراً كثيراً بعد تكييف الواقع للظروف، وتكييف الكاتب تبعاً لذلك لرسائله ومضامينها .
الكاتب حبيب الله ولد أحمد يقول “لاشك في أن لكل واقع مقتضياته، وشروطه ووسائله وبالتالي كان من الحتمي أن يختفي أدب الرسائل بين الكتّاب في واقعنا الراهن نظراً للكثير من المستجدات التي لم تقض على أدب الرسائل وحسب، وإنما قضت أيضاً على الحس الجمالي لدى الكثير من الأشياء التي كانت من مميزات عصر ما قبل البريد السريع والفاكس والبريد الإلكتروني، كما أن اختفاء أدب الرسائل يدخل في إطار اختفاء عادة القراءة المتأنية والقراءة التأملية لمصلحة قراءة “الفاست فود”، أوالقراءة “الفرجة” تماماً كما بدأ ينحسر في عالم اليوم جمهور الرواية الورقية الطويلة وتحل محله قراءة الرواية المختزلة، كما حلت القصة الومضة أو قصة راحة اليد محل القصة القصيرة التي سيطرت لفترة طيلة .
وإذا كانت الرسائل الأدبية لوناً أدبياً لا يقل أهمية عن مختلف الفنون الأدبية الأخرى، فضلاً عن كونها وسيلة للتواصل بين الأدباء، فإن الوسيلة التي أصبحت تستخدم لحملها وهي البريد الإلكتروني، واختفاء الورقة التي كانت تكتب عليها، قد أفقدها الكثير من رمزيتها وقيمتها الأدبية، فضلاً عن استحالة أرشفتها” .
تواصل
القاص جمال محمد عمر يقول “لا يمكن الجزم البتة بأن أدب الرسائل قد اختفى بشكل نهائي، وإن كان بمقدورنا القول - من دون كبير عناء - إنه تطور وخرج من عباءته التقليدية المعروفة، ليواكب عصر السرعة والعولمة والتقانة .
إن أدب الرسائل موجود بيننا اليوم، ولكن بأنماط غير تقليدية، فالناس ليس لديهم الوقت اليوم لتدبيج الرسائل و”الإخوانيات” بالشكل التقليدي المغلق المتعارف إليه، ولكنهم يحتفظون بنفس المشاعر والظروف - ومنها الغربة والشوق - التي تستدعي وجود رسائل ومكاتبات و”إخوانيات”، فالذي تغير هو الشكل وليس المضمون، فما يقوله عاشق عربي ولهان لحبيبته البعيدة عنه هذه الأيام ب”الإس إم إس”، أو ب”شات” (الفيس بوك)، أو رسالة “إيميلية”، هو نفسه ما كان يعبر عنه “جده” لجدته أيام العرب ومضاربهم وخيولهم وقصائدهم وملاسناتهم .
******
لم يكن العالم منفتحاً على بعضه كما هي حاله اليوم . وكأن رغبة عارمة في اكتشاف الآخر المختلف عرقاً ولوناً وثقافة تدفع الناس في جهات الأرض الأربع إلى التواصل بأسرع وسيلة متاحة . ويبدو الأمر أشبه بتهاوي جدران الحدود وأسلاكها الشائكة بين الدول والشعوب كافة . والثابت أن مبتدأ ذلك الانفتاح العالمي تمثل في سقوط جدار برلين في نهاية تسعينات القرن الماضي، وتآكل الستار الحديدي الذي أسدله الاتحاد السوفييتي السابق على شعوبه طيلة سبعة عقود .
قبل ظهور ثورة الاتصالات والمعلومات وأدواتها التواصلية المذهلة من حواسيب وهواتف محمولة، لم يكن بوسع من أراد اكتشاف الآخر البعيد سوى لقائه في موطنه عن طريق الأسفار الطويلة جداً وما يصاحبها من مشقة وعناء وأكلاف باهظة . وكان الراغب في التعرف إلى الشعوب والأمم الأخرى مغامراً سمي مرة رحالة ومستشرقاً مرة أخرى، ابتداء من ابن بطوطة ورحلاته في طول الأرض وعرضها وابن فضلان الذي تمكن من الوصول إلى اسكندنافيا، وماركو بولو وكريستوف كولمبس وكوريتز مدمر حضارة المايا وسارق ثرواتها وكنوزها وانتهاء بمغامرين ومستشرقين أوروبيين سبروا ساحل عمان واجتازوا الربع الخالي وحطوا رحالهم في القاهرة والمغرب العربي .
أدرك المستثمرون الرأسماليون ضرورة تطوير وسائط اتصال مبتكرة لتلبية احتياجات الناس المتعاظمة يوماً بعد يوم، ولتحقيق أرباح مجزية قبل أي هدف آخر، وربما يسأل سائل: ما مكاسب غوغل أو ياهو أو فيس بوك، وهي مواقع إلكترونية وفرت لعشرات ملايين البشر فرصة اكتشاف معلومة غائبة أو الاطلاع على مجريات السياسة والاقتصاد والثقافة أو التراسل مع آخرين كثر من دون تكبد رسوم أو نفقات؟ وحقيقة الأمر أن تلك المواقع تنتمي لما سمي بالاقتصاد الجديد، وهو اقتصاد ينمو ويزدهر على قدر ما يستهلكه المستخدمون بخلاف الاقتصاد القديم المتمثل في الموارد والثروات الطبيعية التي تتناقص وتندر على قدر ما يستهلكها البشر، لذا نرى القيمة السوقية لشركات مثل غوغل وياهو وفيس بوك تكاد تعادل وربما تجاوز قيمة بعض شركات الاقتصاد القديم الراسخة مثل فورد وجنرال إلكتريك ونستله، بل إن الواقع الراهن يثبت أن عدداً لا يستهان به من أصحاب الثروات الهائلة الجدد والمقدرة بعشرات مليارات الدولارات قد راكموها من أعمال شركات تقانة المعلومات والاتصالات، ورائدهم في ذلك بيل غيتس مالك شركة مايكروسوفت .
الدافع إلى سرد السياق التاريخي والاقتصادي الذي تطورت فيه لغة التخاطب الإنساني بين متحدث ومتلق هو التساؤل بحق عن مآل ومصير صيغة التخاطب من منظور إنساني وشخصاني باعتبارها في طور فقدانها آخر نزر من حميميتها ودفئها، فقد ولى زمن الرسالة المكتوبة بخط اليد الحاني والورق المشحون بفيض المشاعر وربما المعطر أحياناً بعطر أو دموع المتحدث أباً كان أو والدة أو أخاً وأختاً وزوجة وصديقة وحبيبة وخطيبة، كما لم يعد في مقدورنا الاحتفاظ برسائل الأحبة والأصدقاء كي نعيد قراءتها مرة تلو مرة كلما استبد بنا الحنين لتسقط أخبارهم، ولم يتبق لنا من الصور الشخصية الآتية إلينا مع الرسائل المنتظرة بلهفة في مرافئ الوقت الهاربة سوى صور لا نستطيع التمعن في قسماتها وملامحها، فهي إن كانت ملونة فإنها تفتقد العفوية والتلقائية، وإن كانت متحركة كما هي الحال في التخاطب عبر موقع سكايب فإنها تحرمنا متعة التحية والمصافحة والتربيت على الأكتف والعناق وحتى البكاء فرحاً، والأمر المستجد في صيغة التخاطب الإلكتروني يشابه ما لحق بالمشغولات الحرفية من زوال حميميتها، فتلك المشغولات خسرت خصوصيتها بعدما هيمنت الأتمتة على الصناعة اليدوية .
وأصبحت السلع الشخصية نسخاً متشابهة لا يذكر فيها اسم صانعها ولا يشعر مستخدمها بما فاضت به نفس صانعها من مشاعر وأحاسيس أثناء تحويلها من مادة خام إلى سلعة جاهزة للاستخدام .
لا ريب أنه لا يمكننا العودة بالزمن إلى ما كان عليه زمن طفولة الإنسانية وبراءتها، ولا شك أيضاً أنه لا سبيل لوقف طفرة ثورة المعلومات والاتصالات، لكن الثابت أن الناس قد حرموا متعة التواصل الوجاهي، فهم إما متسمرون أمام شاشات التلفاز وإما مأخوذون بسيل المعلومات والصور والأخبار المتدفق فوق شاشات الحواسيب، وينبغي لنا التحسر على رحيل صيغة التخاطب الإنساني في أطواره الأولى، ما أفقدنا التفاعل الجميل مع الآخر المخاطب، وما يستدعي ذلك من حبور ومسرة، فلا العطر النفيس يغني عن رؤية الزهرة النادية، ولا الإيميل المنتهي في سلة المهملات الإلكترونية يحفظ للمتلقي أثراً من كلمة مكتوبة بخط اليد وحبر الود ودفء البوح والنجوى .
******
أحب من حين إلى آخر أن أقلب أشياء والدي القديمة، كراريسه وقصاصاته التي كنت أراه في صغري يكتب فيها قصائد الشعر الشعبي، وكثيراً ما كنت أساعده على ذلك بعد ساعات الدوام في المدرسة، وكذلك الدفاتر التي يحتفظ فيها بالطوابع البريدية القديمة، المستعملة وغير المستعملة . منذ سبعينات القرن الماضي يمارس هذه الهواية، لا في أوقات فراغه فحسب، بل يخصص لها وقتا، فما أكثر ما كان يستيقظ باكراً ليذهب إلى دار البريد المركزي في العاصمة حتى لا يفوته الإصدار الأول لطابع ما أو ظرف بريدي ما، يصدران بمناسبة ما، محلية أو عالمية . المسألة ليست سهلة ولا بسيطة لأن ثمة طوابير طويلة من المواطنين يأتون للحصول على ختم الإصدار الأول، بل إن كثيراً منهم يكونون في عين المكان واقفين في الطابور حتى قبل الساعة الثامنة الموعد الرسمي لانطلاق العمل في دار البريد .
هذا الموضوع لاحقني حتى في المدرسة حيث كان أحد زملائي، لم أعد أذكر منه سوى لون بشرته السمراء وخفة روحه وكثرة مزاحه، هو الآخر يمارس تلك الهواية . فرق واحد كان بينه وبين والدي، هو أنه كان يهتم بالطوابع العالمية كلها، بينما كان والدي يركز على الطوابع الجزائرية أكثر من غيرها . يوماً ما سألته عن ذلك فقال “إن جامع الطوابع المحترم من طرف النوادي العالمية في هذا المجال، هو ذاك الذي يعرف عن بلده وما فيها أكثر مما يعرف عن العالم وما فيه . فهم يحترمونك ويقدرونك بقدر ما لا يفوتك شيء من تاريخ وثقافة بلدك . والطوابع تعكس تاريخ وثقافة البلد” . أو لنقل إن هذه هي المعاني التي انطبعت في ذهني من ذلك الحديث، لأنني لم أحفظ الألفاظ .
وقال زميلي إن هوايته تتمثل في جمع الطوابع البريدية والضريبية ودراستها، ومبادلتها بأشياء أخرى مثل القطع النقدية، الصور القديمة وغيرها . بعد ذلك عرفت أن جميع الأشياء في الواقع قابلة للجمع، من الطائرات الخاصة والسيارات القديمة ذات النماذج النادرة والأسعار الخيالية التي يجمعها أصحاب الثروات الطائلة، حتى تلك التي يمكن أن تبدو لنا “تافهة” مثل العلب المعدنية الصغيرة التي تباع فيها المشروبات الغازية، البطاقات الممغنطة لفتح غرف الفنادق، بطاقات الشحن الهاتفي بعد انتهاء مدة صلاحيتها، أو حتى جوارب الفرق الرياضية ذات الشهرة العالمية فضلاً عن قمصانها . كل ما يخطر وحتى ما لا يخطر على البال قابل للجمع . ولكثرة ما كان يملك من طوابع، توصل زميلنا إلى حفظ أسماء جميع عواصم العالم عن ظهر قلب . كان خفيف الظل مع روح هزلية لا أدري من أين جاء بها، موهوباً في الجغرافية والتاريخ . بعد ذلك تخصص في الاقتصاد . ولطالما كنت أقول إنه ضيع موهبته الأصلية . تصورت أنه سيتخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية .
عرفت أيضاً أن أول طابع بريدي صدر يوم السادس من مايو/ أيار سنة 1840 في بريطانيا، وأن العناية بالطوابع تحتاج إلى صبر وأناة، حيث لا يكون الطابع صالحاً حتى تكون أسنانه المحيطة به كلها سليمة من العطب، وإلا فلا قيمة له . إن الأسعار المغرية التي تباع بها بعض الطوابع النادرة، جعلت كثيرين يلتحقون بهذه الهواية طمعاً في الحصول على تحفة بريدية نادرة تجعلهم، ولمَ لا، يلتحقون بركب أغنياء هذا العالم، ألا يقولون إن الفرصة تأتي مرة في العمر وتمر مر السحاب؟
أنا الآخر لحقتني عدوى البيت والمدرسة، فأصبحت أجوب محلات بيع الطوابع والكتب القديمة والأشياء العتيقة (الأنتيكة) في العاصمة . أحد تلك المحلات لا يزال مقابل محطة قطار “الآغا”، وإن لم تخني الذاكرة كان البائع شيخاً يدعى “عمي عبد القادر” لا أدري إن كان لا يزال حياً أم إنه انتقل من هذا العالم . المؤكد أن في محله يوجد كل شيء أو هكذا كان يبدو لي آنذاك: طوابع، مغلفات، بطاقات بريدية، قطع وأوراق نقدية، فضيات، نحاسيات، ميداليات ونياشين، كتب ومخطوطات بالعربية والفرنسية، بكلمتين كان المحل بمثابة مغارة علي بابا . أذكر أنني اشتريت منه كتاباً يعود إلى القرن الثامن عشر للأديب الفرنسي شاتوبريان بمبلغ وقدره، بالنظر إلى المنحة الجامعية البائسة التي كنت أحصل عليها آنذاك وأصرفها كلها تقريباً على الكتب وما شابه . يومها لم أصدق أنني تمكنت من شراء كتاب بمثل تلك القيمة . ولئن لحقتني تلك العدوى، فقد أصابتني بحمى الكتب بدل حمى الطوابع التي جعلت الناس شيباً وشباباً يلاحقون كل عائد من خارج البلد، أو مشهور بكثرة مراسلاته الخارجية، لحجز كل ما تجود به مغلفات رسائله من طوابع . أما صاحب الحظ الأوفر فهو ذاك الذي تمكن من مصادقة ابن قنصل أو حتى شخص عامل في إحدى القنصليات الخارجية، لأنه بذلك يصبح ملك ملوك الطوابع . وبعد الثورة التي حدثت على مستوى الاتصالات، وتعميم خدمات الشبكة العنكبوتية العالمية، ظهر أن هذه الهواية أصبحت لها صحافتها، جرائدها، مجلاتها ومواقعها الخاصة بها وبأغلب لغات العالم . تحتوي الأخبار وأسعار البورصات الطوابعية وكل ما هو جديد وطريف في هذا المجال .
قبل اهتمامي بالكتب، عرفت الكثير عن تاريخ الجزائر وثقافتها، بل التاريخ العربي والإسلامي والعالمي، من خلال مراجعة البيانات المختصرة المطبوعة باللغتين العربية والفرنسية، التي كانت ترافق المغلفات والطوابع البريدية الصادرة حسب المناسبات . من ذلك أن الملك الفرنسي شارل العاشر انهزم أمام البحرية الجزائرية على سواحل العاصمة في عام ،1541 ومن ذلك الحين وجه الداي حسن باشا القوة البحرية الجزائرية نحو السواحل الأوروبية من باب الحرب الوقائية بعد الهجوم الفرنسي السافر الذي تعرضت إليه السواحل الجنوبية للمتوسط . صحيح أن الأوروبيين أطلقوا علينا “قراصنة” في تلك المرحلة، كأننا نحن المعتدون عليهم، لكن المتوسط عاش سلاماً عربياً إسلامياً وكان بحق بحيرة سلام طيلة العصور الفاطمية والمرابطية والموحدية والزيانية والعثمانية . وما أشبه الليلة بالبارحة . عرفت من تلك المطبوعات البريدية أن من كانوا يقودون السفن الجزائرية رجال أشداء أمثال مراد رايس، جعفر رايس، مصطفى غرناؤوط، مامي القورصو، الدالي مامي وغيرهم . وبمناسبة صدور الطابع المخصص لاحتفالية اليونسكو بألفية ابن سينا سنة ،1980 عرفت ما لم أكن أعرفه عن هذا الرجل، حيث أدهشني أنه على رغم تبحره في العلوم الدينية، كان أيضاً متمكناً في العلوم الموسيقية التي كان يعتبرها زبدة العقل البشري، حيث ألف خمسة كتب في هذا المجال، كما لم تفته الإشارة في كتابه الشهير “القانون” إلى فضائل الموسيقا في العلاج، ما جعله يسبق عصره بقرون طويلة .
الطوابع عرفتني أيضاً إلى أهم المحطات في تاريخ الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وقائد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي . ومنها تمكنت في تلك المرحلة المبكرة من تصحيح بعض الأخطاء والمعتقدات التاريخية غير الموثقة حول أهم الآثار النوميدية القديمة في الجزائر “كان حكم مملكة نوميديا يمتد من سطيف شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً” مثل الضريح الملكي الكائن بمنطقة الخروب، والضريح الملكي الموريتاني الكائن بمنطقة تيبازة، والذي يسميه العامة خطأ “قبر الرومية” (أي ضريح المرأة النصرانية) وهو منسوب من طرف العديد من المؤرخين، من دون أدلة، إلى كليوباترا سيليني ويوبا الثاني . أما تراث الصحراء العريق، فلم أكن أعلم عنه شيئاً على الإطلاق حتى صدرت طوابع الرسوم والنقوش الصخرية التي تعد بالآلاف والموجودة في منطقة “التاسيلي نازجر” وتعود إلى عصور ما قبل التاريخ . وتمثل الصور المنقوشة والمرسومة (تعود إلى ما يقارب تسعة آلاف سنة) صوراً لحيوانات منقرضة ومظاهر الحياة اليومية التي تتناقض مع طبيعة الصحراء كما هي الآن، حيث تحكي الكثير عن البحار والجنات التي زخر بها ذلك المكان في زمن مضى . لذلك تعتبر هذه المنطقة قبلة السياح والباحثين الغربيين بشكل خاص، لأنها بحق أكبر متحف أركيولوجي طبيعي على مستوى العالم .
الخليج
20/02/2012