في العام 1935، حين ترسخت حقيقة ما سوف يسمى لاحقاً بالفنون الجماهيرية، وتمكنت التقنيات الحديثة آنذاك من أن تنتج وتعيد انتاج كل الابداعات البشرية في كتب أو افلام او اسطوانات ولوحات ملونة مطبوعة، رأى الفيلسوف الألماني – النمساوي والتر بنجامين ان الوقت قد حان لوضع تنظير متكامل يتعاطى مع مسألة "وظيفة الفن ووجوده في زمن المكننة والانتاج الجماهيري"، ومن هنا وضع حول الموضوع دراسة اشتهرت كثيراً، عاد وعدّلها بعد ذلك بسنوات قليلة لتصدر قبل رحيله بعام، وتصبح نوعاً من القانون، ليس فقط لعمليات انتاج الفنون والآداب آلياً، بل كذلك للأوضاع الجديدة التي جعلت النازيين من والستالينيين من ناحية أخرى هم الأكثر استفادة من تلك الامكانية لنشر الفنون.
منذ ذلك الحين كثر هذا النوع من الدراسات وتشعّب، وراح يتطوراكثر وأكثر بمقدار ما تدخل تطورات جديدة، على آلية ايصال الابداع، وصولاً الآن الى الكومبيوتر والانترنت والفضائيات والاسطوانات المدمجة وما الى ذلك. ولعل في وسعنا ان نقول هنا ان العرب، كانوا في هذا الاطار متلقين اكثر بكثير منهم منتجين، اذ ما عدا دراسات قليلة من هنا ومساهمات جدية نادرة من هناك، ليس ثمة اية دراسات عربية، لحد علمنا، تحاول ان تقول، بالنسبة الى الثقافة العربية بمختلف تجلياتها، ما قاله ذلك المتن الذي بدأ مع والتر بنجامين، انما مستنداً الى دراسات عديدة لكارل ماركس وماكس فيبر وكذلك اساتذة مدرسة فرانكفرت الكبا من امثال هوركهايمر و آدورنو، من حول الفنون وجماهيريتها ومسائل مثل الاغتراب والاستلاب...
ومن هنا اكاد اقول ان ثمة غياباً شبه كامل لما يمكن تسميته "وعي الصورة" ووعي حركية تتعلق بقدرة الصورة – التي تكاد تطغى كلياً على الساحات الابداعية في زمننا هذا – عن ساحة السجالات الثقافية العربية. ذلك ان الامر يبدو الآن، اننا، وتماماً كما بوغتنا بحضور الصورة الفوتوغرافية، ثم السينمائية المتحركة، ثم التلفزيونية في حياتنا، ها نحن نباغت الآن بالتقنيات الجديدة الموصلة للصورة، على كافة اشكالها وتحديداً منذ صار جزء اساسي من حياة الناس في منطقتنا يتحلّق من حول الصورة. غير ان هذه الصورة ظلت في المقابل وكأنها اداة ترجمة لا أكثر: "تترجم" السياسة والتاريخ والآداب والفنون، المجتمع والنقاشات، شؤون الدين والدنيا. تترجم كل شيء من دون ان يترافق هذا الوعي المجتزأ للصورة، بصورة لأي وعي جديد يتعلق بها. لقد دخلت الصورة حياتنا بديلاً لكل شيء.. لكنها – حتى الآن على الأقل – لا تزال صورة لكل شيء لا أكثر.
عبر هذه الصورة، التي تصل بشكل يومي الى كل البيوت والمكاتب، يشاهد العربي، كل ما يمكن له مشاهدته، من دروس الطبخ الى التحريض الارهابي، ومن اقتباسات روايات نجيب محفوظ، الى استعادة برامج الألعاب الغربية، ومن الاخبار – حرة من كل قيد ورقابة في معظم الاحيان – الى الاغاني وفنون الرقص والسينما، وبرامج الفكاهات البذيئة والسجالات السياسية والحنين الى الماضي والتطلع الى المستقبل.. ومالي هنا اواصل هذه اللائحة وأنا اعرف انها لا نهاية لها؟ كما قلت اذا صار كل شيء على التلفزيون، حتى المواطنون العرب البسطاء من اكبر المدن الى اصغر القرى صاروا صورا على التلفزيون. فالتلفزة لا يفوتها ان تستضيف، وفي كل مناسبة، مواطنين يصوَّرون ويدلون بآرائهم، تطبيقاً لمقولة باتت شهيرة للرسام والسينمائي الاميركي آندي وارهول مفادها، ان كل شخص في زمننا هذا يقيّض له أن يكون نجماً (ونضيف نحن: تلفزيونياً) ولو لربع ساعة في حياته.
كل هذا واضح اليوم، ولا سيما وقد تواكب ظهور الفضائيات العابرة للحدود والأقاليم، وكذلك للرقابات بشكل عام، مع ظهور الانترنت والآي بود والفيسبوك... الخ. وهو في وضوحه يكاد يقول لنا ان ثمة صورة ما، لوعي ما، تكوّنت في عالمنا العربي، وفي رسم مجتمعاتنا العربية، لا عودة عنه.
انه، إذاً، أفضل العوالم الممكنة...
غير ان هذا ليس دقيقاً تماماً. ذلك انه اذا كانت صورة الوعي العربي تكونت من طريق الصورة واستخداماتها المختلفة، فإن ثمة ما هو لا يزال على حاله، لا يتبدل ولا يتقدم.. وهو ما كان غي ديبور يحب ان يطلق عليه اسم "منظومة التلقي". فالحال ان ألوف ساعات البث، وألوف الساعات التي تمضي امام اجهزة الكومبيوتر، ومحركات البحث من غوغل وتويتر، الى ما يجدّ كل يوم منها، اذا كانت قد راكمت ملايين الافكار والمعلومات والمعارف والصور واضعة اياها في تصرف الانسان العربي، كما في تصرف أي انسان آخر، يبقى ان التساؤل الذي يجب ان نطرحه على انفسنا انطلاقا من هذا كله انما يتعلق بمنظومة التلقي هذه: كيف يتلقى المواطن هذه المعلومات والصور والأفكار؟ كيف تتراكم لديه؟ كيف يتمثلها؟ وماذا تقول له؟
هذه الاسئلة تطرح نفسها بنفسها انطلاقاً من ملاحظة تطاول وضعية القدرة على النقد لدى الانسان العربي، والمسلم تحديداً، بصرف النظر عما اذا كان متطرفاً او معتدلاً، سلفياً او محدثاً، علمانياً او مؤمناً.. لأن الاصل هنا ليس في ما يريده لنفسه او في ما يصف نفسه به، بل في التكوين العقلي والاخلاقي الذي كان له، في البيت والمدرسة ثم تحت ربقة المجتمع بعد ذلك.. بدءاً من سنوات الطفولة الاولى وحتى اعوام لاحقة. المسألة هنا تكمن في السؤال الشائك حول ما اذا كان العقل العربي (ولنستخدم هذا التعبير بشكل مجازي فقط، على سبيل التبسيط طالما اننا نعرف ان ليس ثمة ما يمكن تسميته عقلاً عربياً، لأن العقل حالة كونية انسانية شمولية، ولقد كان في ودنا ان نستخدم كلمة تفكير عربي، بدلاً من عقل عربي، لولا ان كلمة تفكير سوف تحيلنا الى فعل ادراك ارادي، فيما تحيل كلمة عقل الى فعل ادراك مكتسب... ولن نخوض هنا اكثر، في مثل هذا الجدال). المهم هنا بالنسبة الينا، ان عقوداً طويلة من غياب الاجتهاد، والنقد، والتمحيص.. وغياب فلسفة شاملة تخلق ما يمكن اعتباره "نظرة الى العالم" جعلت المسلّمات التي تكونت قبل نحو 1400 سنة، هي هي، نفس مسلّماتنا حتى اليوم. وأنا اذا كنت احدد رقماً هنا، فلكي لا يفهم ان غياب الاجتهاد وحس النقد هذا، رافقا ظهور الاسلام منذ بداياته، وهذا غير صحيح. فالإسلام في نشأته ورسالته الاولى كان ديناً يدعو الى إعمال العقل وتمييز المتعلمين، والى الاجتهاد... ولنتأمل للتيقّن من هذا، عبارات اسلامية رائعة مثل "وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" و"اليوم اكملت لكم دينكم" او "اطلب العلم ولو في الصين"...
اذاً بعد الأزمان الاولى للاسلام، اغلق باب الاجتهاد وغاب النقد وساد فكر العشيرة القاسم الكون ديار امن وديار حرب.. لتهجم علينا العصور الحديثة مطالبتنا بالتعامل مع مفاهيم "جديدة" علينا على الاقل، مثل، الأختلاف والتسامح والآخر... الخ. وطبعاً يمكن هنا ايراد الف مثل ومثل على ان كثراً من العرب استوعبوا هذا كله وكتبوا عنه ومارسوه، وأحياناً بأفضل كثيراً مما فعل اوروبيون ادّعوه. غير ان المشكلة ليست هنا. ليست في نهضويين كتبوا ودعوا الى دخول العصر، اخلاقياً وفكرياً، وليس تقنياً فقط، المشكلة في المجتمعات نفسها، التي لم تشأ في أغلب الاحيان ان تتبع خطى النهضويين وغيرهم، فظل السائد لديها مزيج من الاخلاق المنتمية الى النوايا الحميدة، ومن العادات والتأويلات الموروثة التي تحول بين الفرد وبين ان يكون له رأي خاص يتناقض مع رأي الجماعة... في اختصار هو النقد، تلقّي الامور بشكل نقدي، ما يشكل جوهر المسألة هنا.
وعلى هذا المنوال يمكن القول إن جزءاً كبيراً من التعامل الراهن مع ما يقدّم عبر الصورة – في مختلف أقنية وصولها – انما يخضع لذلك الواقع البائس. ولعل أسوأ ما في الأمر هنا يتعلق تحديداً ليس فقط بتقليدية تلقّي المجتمعات، وبالتالي الافراد لما يعرض لهم او عليهم، بل كذلك بما راحت تتسم به الاعمال المعروضة. والافكار المقترحة نفسها. ففي البداية، حين كان تلقي الاعمال الابداعية والتاريخية يتم من طريق الكتب، او النتاجات المحدودة، بما فيها الافلام السينمائية في بعض الاحيان، كان يمكن للمبدع – ان كان حداثياً نهضوياً – ان يضع افكاره بكل حرية، لا يخشى سوى رقابات الانظمة والسلطات، التي كانت، مجرد آلات قمع فكري جزئية، تحاول ان تحمي النظام الذي تمثله من مغبة انتشار آراء المبدعين وحداثتهم. غير ان هذا الواقع سرعان ما اصابه تبدل جذري، حين تحولت، حتى الفنون والآداب شبه النخبوية، الى اعمال جماهيرية. وفي الحقيقة لم يكن هذا واضحاً اول الأمر: في ذلك الحين، يوم جرى الحديث بوفرة عن فضائيات، ثم حاسوبات ثم انترنيت، عابرة للحدود والرقابات، توسعت آمال المبدعين التواقين الى نشر ابداعهم وأفكارهم التحررية: لقد بات في امكانهم الآن ان ينشروا اعمالهم بشكل اوسع وافضل بما في ذلك كتابات ونتاجات تعيد النظر في التاريخ، والمسلّمات والحكايات وشؤون المجتمع وشجونه: كل شيء من ثقافة الماضي الى ثقافة الحاضر.. الى آخر ما هنالك.
ولكن هنا وبعد حماس اولي وآمال عريضة، دق ناقوس ما، يدعو الى التمهل: صحيح ان الشكل الخارجي، لأكثر الاعمال الابداعية طليعية، يمكنه ان يصل الى الجمهور العريض ويُحب مع بذل بعض الجهد، ولكن هل حقاً يمكن في الوقت نفسه ايصال جوهر تلك الاعمال وقوتها التأثيرية؟ اذا كان في الامكان صنع مسلسل، مثلاً، عن المتنبي، او انطلاقاً من رواية تحليلية مشاكسة لنجيب محفوظ، او أخرى انتقادية لجبران او يوسف ادريس او فتحي غانم، هل يمكن حقاً للصورة القادرة على حكي ما يجري، ان تنقل جوهره ومغزاه، التجديدي الثوري؟ ولست اعني هنا، القدرة التقنية، بل اعني قدرة المجتمع على الاستيعاب، وتحديداً، بشكل اوضحر، قدرة من ينقلون العمل من النص الى الشاشة، على الافلات من... الرقابة الداخلية التي تستشري لديهم، بوصفهم جزءاً من المجتمع الذي كوّنهم؟
ان هذا يفضي بنا فوراً، الى فرضية فحواها السؤال: من هم اصلاً هؤلاء العاملون على اقتباس حياة المتنبي أو رواية محفوظ.. ولا يحمل هذا السؤال إية استهانة بهم، بل تقرير أمر واقع: ان الثورة التي تحملها أفلام شاهين او جهود ابن رشد او شطحات الصوفيين، او الادب النسائي العربي، او موسيقى رياض السنباطي، او روايات نجيب محفوظ وتأملاته، هي ثورات تولد من رحم تفكير فردي، لأفراد متميزين تكوّنوا في ظل اوضاع شديدة الخصوصية، وغالباً على الضد من مجتمعاتهم، وغالباً على احتكاك بالغريب، الاجنبي... الآخر. وهم، لأنهم يدركون واقع مجتمعاتهم، عاشوا في اعمالهم ازدواجية لافتة ومارسوا ما يمكن ان نسميه "التقية"، بحيث ان الجزء الأكثر تغييرية وثورية من ابداعهم بدا دائماً مخبوءاً برسم التأويل.
وهذا التأويل كان يتعيّن عليه أن يكون، أصلاً، من فعل المتلقين أنفسهم، مستعينين في احيان كثيرة بوسطاء هم باحثون مفسرون، يقدم الواحد منهم اجتهادات متنوعة تساهم في اغناء العمل المعني تاركة للقارىء امكانية الاختيار ضمن ذلك التنوع الاجتهادي، او تركه للتعامل مباشرة مع العمل الابداعي نفسه. ونعرف ان تراكم الاعمال الابداعية، من شعر الى ادب الى فلسفة وتاريخ وشتى انواع الفنون، من دون اية محاولة تقييمية هنا، هو الذي يشكل المتن الذي يكوّن بدوره ما نسميه "الثقافة العربية" كما تجلت على مدى تاريخها. هذه الثقافة التي نتساءل هنا عن وضعها ومصيرها في ظل انتشار وسائط الايصال الجماهيرية التكنولوجية وغير التكنولوجية. والحال اننا مع مثل هذا الانتشار، اذا كنا من اهل النخبة، او من حولهم، بمعنى ان نكون معنيين ليس فقط بوصول هذه الاعمال وتلقيها بالوسائط الجديدة، بل بالتساؤل حول هذا وحول مصائر المتن الثقافي العربي، يحق لنا ان نتساءل، في الوقت نفسه عن الامكانية الحقيقية لوصول هذا المتن الى من نفترض انهم معنيون به: المواطنون الذين قد نريد لهم، في حس تنويري لا تنقصه النوايا الحسنة، ان يستوعبوا اجمل الابداعات وأرقاها، ونصب اعيننا محطات وبرامج، تقدّم هذه الاعمال لعلها – أي هذه الاعمال – تساهم في بناء مستقبل زاهر للأمة.
فهل هذا ممكن الحدوث؟
ربما، يكون الجواب المنطقي، اجل، ولدينا على مدى سنوات وربما عقود، اعمال انتجت وشوهدت وربما نوقشت ايضاً، ترجمت شتى انواع الابداع، وتحدثت عن شتى انواع المبدعين، في برامج ومسلسلات، يمكن ان نضع لها لوائح لا تنتهي. بل ان في امكاننا ان نلاحظ، حتى، جهوداً حثيثة لدى البعض لادخال البعد الثقافي في برامج الألعاب، حيث لا يفوت مقدم من هنا ومقدم من هناك ان يمحور بعض – ان لم يكن كل – اسئلته من حول شعر المعري، او ارسطو كما فسره ابن رشد، او لوحات الواسطي، او موسيقى زكريا أحمد، او مذكرات ميخائيل نعيمة، او هندسة العثماني سنان... الخ. كذلك نشاهد العشرات من المسلسلات التاريخية، وتصل اليوم كتب بأسرها عبر غوغل، وتعرض التلفزيونات والانترنت افلام برغمان وتوفيق صالح وشاهين وتاركوفسكي... وتبث قنوات مسلسلات كاملة حول علماء العرب والمسلمين، وتقدم برامج حول المدن العربية.. ويمكن حتى للمتبدئ في ممارسات التعامل مع محركات البحث في غوغل وغيره، العثور على ملايين المعلومات والدراسات حول العرب وثقافاتهم.. كما حول غيرهم. انها، بكلمات مبسطة، العصور الذهبية لديموقراطية المعلومات و شيوع امكانات الحصول عليها. هذا كله صحيح... لكن الأصح منه السؤال الذي ينطلق من مسألة بالغة الأهمية هنا وهي: ما الذي يمكن الانسان العادي ان يفعله بكل هذا الذي يمكنه الحصول عليه؟
كان المفكر العربي يقول في الماضي ان المعاني مرمية في الطريق.. وهذا صحيح، وصار صحيحاً اكثر اليوم بوجود تقنيات المعلومات الجديدة، والتي تتطور اكثر وأكثر. لكن السؤال هو مرة أخرى: ما الذي نفعله بهذه المعلومات؟ كيف يستفيد الواقع والمستقبل العربيان منها؟ ومنبع هذا السؤال في رأيي هو ان ليس من المهم جمع المعلومات، بل المهم الاستفادة منها. وهذه الاستفادة، في رأيي ايضاً، لا تتعلق بوسائل ايصال هذه المعلومات، تقليدية كانت او حديثة... بل تتعلق بوجود منظومات فكرية، تستكشف، تصنف، تنسق، تعيد التوزيع والتركيب والتوليف. ومرة اخرى لا بد ان نقول هنا ان هذه النشاطات انما هي نشاطات لها صفة مشتركة واحدة: انها نشاطات نقدية... ما يعيدنا مرة اخرى الى ما افتتحنا به هذا الكلام حول الزمن الذي يلزمنا بعد، حتى نتحول من مجتمعات وأفراد يتلقون الى افراد يمحصون ما يتلقون ويضعونه في خدمة منظومات عقلية فكرية تصبح في عضويتها المتوخاة جزءا من كيبونة الفرد في تعاطيه مع المجتمع اي مع الجماعة.
ذلك ان وسائل التوصيل الحديثة تعرض على المتلقين ما يمكنها هي تحصيله من تأويل وتفسير.. وهي حتى ولو كانت ضليعة حقاً في هذه اللعبة، تجد نفسها وبشكل دائم مضطرة، الى التخفيف من حدتها التأويلية، الاجتهادية، وعلى الاقل كي تلقى قبولاً من "الجمهور العريض" الذي تتوجه اليه.. وهو جمهور نعرف انه، حتى ولو كان من بينه افراد بل حتى جماعات تكوّنوا فكرياً في معاهد حديثة وأحياناً أجنبية، في مجتمعات تعلّم الحس النقدي والفصل بين الايديولوجيا والفكر السليم، والتمييز بين الماضي (كفاعلية ثابتة جامدة، متحفية في معظم الاحيان) والتاريخ (كدينامية متحركة بشكل متواصل)، نعرف انه جمهور سرعان ما تستوعبه الجماعة في ردائها الكثيف والفسيح لتحوله كائنا جمعيا تقليدياً نسي ما كان تعلمه من مناهج وطرق تفكير، حتى وان لم ينس المعلومات.
ذلك ان الموضوع الرئيس هنا هو المنهج.. منهج التفكير. اذ تحت لواء هذا المنهج فقط ننتقل من استيعاب المعلومة، او العمل الابداعي وما بينهما، الى التفاعل معها كجزء من بناء الفرد الذي هو الشرط الضروري لبناء المجتمع والمستقبل. ومن دون استتباب منهج التفكير والتصنيف والفرز.. لا يكون هناك تلق حقيقي للابداع الذي يشكل الثقافة المنشودة. وفي غياب هذا المنهج لا يعود ثمة فارق بين ابن رشد او ابن سينما او ابن خلدون، وبين أي متحدث فصيح على التلفزة يتكلم ويتكلم دون ان يكون لكلامه جوهر ما. وفي غياب هذا المنهج تصبح حياة الغزالي مجرد مغامرة درامية تتحدث عن توبة انسان فقد ايمانه ذات زمن ثم استعاده... وتصبح ثلاثية نجيب محفوظ على الشاشة الصغيرة، مجرد احداث متلاحقة، ويصبح عرض فيلم لبرغمان او ايليا سليمان، مجرد تمضية ساعة ونصف الساعة بين اعلانات وأخبار وبرامج ألعاب.. لا أكثر.
غير ان هذا كله يبقى بسيطاً امام ما هو أسوأ... وهذا الأسوأ هو الآن، استيعاب لعبة الانتشار التكنولوجي للثقافة، ان وجد – وهو موجود اكثر وأكثر -، لمبدعي ازماننا انفسهم، اذ يصبحون نجوماً اعلميين يتزوقون ويتزينون ويختارون ما هو الاقل ثورية او راديكالية من افكارهم لعرضها في اعمال يكتبونها او برامج يتكلمون فيها ، بحجة الوصول الى قطاعات عريضة من الناس... ونجوميتهم هذه تجعلهم وجوهاً اجتماعية، يتضافر المال ورغبات الاثرياء، أفراد ومجتمعات ودول، لمكافأتهم على هذا الحضور المدجّن بجوائز وتكريمات لا تنتهي (مليون دولار مثلاً لأجمل رواية !، وغير ذلك للقصائد وما شابه).. فيصبح بالتالي كل انتاج يتحقق، وكان يفترض به اصلاً، ان يحمل جزءاً من ثورة فكرية دائمة – كما حال الفن منذ بداياته كفاعلية تجاوزية ، دون ان يكون الشرط كون تلك الثورة سياسية او حتى اجتماعية... حسبها ان تكون ثورة فنية، فتفعل فعلها في المجتمعات -، يصبح مدماكاً في ترسيخ الفكر والابداع المفرغين من كل مضمون.
وهنا، اذ اجد لزاماً علي ان اتوقف في هذا الوصف "المتشائم" عند هذا الحد، ارى انه بات عليّ ان اقول – ما يبدو لي بديهياً هنا – وهو ان المسألة التلفزيونية او التكنولوجية المعلوماتية بشكل عام ليست، في نهاية الامر، مسألة آلة تلقم بما نفكر فيه ونبدعه... فهذه الآلة هي في نهاية الأمر، ومهما كان تقدمها ، صمّاء... تتلقى ما نعطيها، وتعيد توليده. انها، بشكل ما، مثل نساء مكة وقد هجرهن الازواج لانجابهن البنات، فصرخن بصوت الشاعرة: اننا نعطيه ما يعطينا!
وأعني بهذا طبعاً، ان المسألة هي الأنسان نفسه وقضية الأنسان هي المنهج.. والسؤال حول استعداد المتلقي للتلقي: انطلاقاً من ثقافته وتكوينه وموقعه في المجتمع، ونظرته الى العالم... ومن هنا واضح ان البحث عن أفق حداثي – تكنولوجي لثقافتنا العربية، في زمن التلفزة واخواتها، انما يجب ان يبدأ من مكان آخر: من المدرسة، من البيت... من ادراك المسؤولين، من اصغر خلية اجتماعية، الى اعرض موقع للمسؤولية الرسمية، ان كل هذه التكنولوجيات.. انما تعطينا ما نعطيها.