لعل مؤسس الفايسبوك نفسه، الشاب مارك زوكربيرغ، لم يكن يعلم تماماً مآلات جمهوريته الأشهر، ولا ترجحّها حد الفائدة والخطر في آن. دولة الفايسبوك في غاية زوكربيرغ انطلقت من فكرة التواصل بين الناس لتبادل علاقات اجتماعية في انتقائية تامة، كذلك لتبادل المعارف والإبداعات والأخبار والمعلومات، ولتنشيط العرى العائلية والاجتماعية والخبراتية عبر التبادل المفتوح لكل أنواع المعرفة بشكل عام. كما التهاني بين العائلات والأصدقاء، وتبادل الصور، والبحث عن أصدقاء طفولة باعدت بينهم السبل، إلى انتقاء الأقرب إلى المزاج الشخصي حتى أصبح «الزواج» من خلال الفايسبوك، أمراً اعتيادياً بل غاية، لمّا أن الأسئلة كلها، متوفرة لها الأجوبة المتنوعة من خلالها يرسى السائل على شريك عمره. هذا الرخاء المعلوماتي بالتالي، ليس بريئاً تماماً، ما دامت تحكم دولة الفايسبوك مثلها مثل أي وسيلة اتصال أخرى، قوانين الربح. كما أنه تحول إلى محط أنظار لأرباب العمل، وللأنظمة حتى، بأجهزتها الأمنية الداخلية والخارجية ما شكل مطباً جيداً للنشطاء السياسيين والاجتماعيين. المتعة المحصّلة من هذا النوع من التواصل السريع قد يقابله مخاطر تهدد حياة المشترك الخاصة، وعمله، وميله السياسي والاجتماعي. هي متعة فعلية للمتوحدين بشكل خاص، يجدون فيها متنفساً لهم مع الحفاظ على خصوصياتهم كحجبهم لأسمائهم الحقيقية، ولصورهم مستعيضين عنها بأقنعة وشعارات مختلفة. ليست هذه الجمهورية الفايسبوكية مع ذلك، سلبيات كلها، ففيها من الايجابيات الكثير، سوى أن الواضح والأكيد، أن ملازمتها فترات طويلة قياسية، أمر بالغ الخطورة، وهو على الأقل بافتراضيته، على حساب الحياة الحقيقية نفسها. أسماء أدبية، شاركتنا السؤال هنا، حول سيئات وإيجابيات الفايس بوك، ننشرها تباعاً بحسب ورودها إلينا:
أميمة عز الدين:
النهايات المخيبة
الكاتبة القصصية المصرية أميمة عز الدين، وجدت في الفايس بوك نافذة مفتوحة على العالم بكل أطيافه وثقافاته. الاكتشاف «المذهل» للفايس بوك، على حسب توصيف عز الدين، جاء بسن متأخرة لها، لا تقوى فيه على تتبع آخر الاكتشافات في علم الكومبيوتر. أميمة كانت في البداية خائفة مترددة، غير واثقة من القراءة والكتابة كما يحلو لها، لكنها لما اكتشفته وجدته بحراً واسعاً عميق التقليدية، يحتاج الغوص فيه إلى الكثير من الحذر، فهو في النهاية عالم افتراضي بأيدٍ ووجوه حقيقية، لكن المشاعر فيه غير حقيقة، وتعتريها مجاملات وجبر خواطر. الفايس بوك ساعد عز الدين كثيراً، ووفّر لها قنوات تواصل واتصال بالناس». امرأة مثلي قابعة في البيت وفي جغرافيا الزوج والأولاد، لم أحلم أبداً بلقياهم كما من العسير عليها التواجد في المنتديات والاجتماعات الثقافية والفنية، فهناك اعتبارات تجبرني على الإذعان، والرضوخ، ولاءات تنتصب في الطريق. عز الدين ساعدها الفايس بوك في فتح عوالم من الدهشة وحرية الفكر والكتابة المتجددة، وكانت الساعات المتأخرة بالليل توفر لها الخصوصية والإطلاع.
أسمع من كثيرات ـ تضيف عز الدين ـ أن الفايسبوك يوفر أيضاً علاقات عاطفية لا بأس بها، تنتهي أغلبها بالفشل والشجب والحجب و«بلوك» في نهاية الأمر، مما يترك أثراً سيئاً في قلوبهن، إذ غالباً ما يدعي أحدهم لنفسه صفات اجتماعية غير صحيحة، وأوصاف ومكانة، ثم سرعان ما ينكشف حاله وتجتر المرأة ألمها بمفردها، وربما هذا الأمر هو أسوأ شيء بالفايسبوك. نادراً ما تنجح علاقات جمع بين قطبيها الفايسبوك، وأنا بنفسي شهدت علاقة انتهت بخاتمة سعيدة. العيب يكمن فينا نحن، لأننا على استعداد للوقوع في الحب مع أشخاص افتراضيين يتلونون بكلماتهم وبأشعار حب قد تكون لغيرهم. ما يفزعني ـ تقول أميمة ـ أن الفايس مكان مناسب لسرقة الأفكار، ومشاريع كتابة في مراحلها الأولى.
رنا التونسي:
الحياة ليست هناك
الشاعرة المصرية رنا التونسي لم تشأ الخوض في سلبيات وإيجابيات الفايس بوك، فقط تركت لمشاعرها أن تصفه: «على الفايس بوك أرى أصدقاء يكبرون أبادلهم التهنئة. أرى أحباباً يرحلون. من غاب منهم تحول إلى صفحة. على الفايس بوك لا يمكن ان أرسل الضحكات أو أسمعها. على الفايس بوك يصبح الحب هو اللاحب. على الفايس بوك أحلم بالحياة في مكان أبعد كثيراً من الفايس بوك».
طه عدنان:
البطولة المطلقة
الشاعر والكاتب والإعلامي المغربي طه عدنان يرى أن الفايس بوك يجعل الكتّاب يتصرفون كرؤساء تحرير مجلة صغيرة هم موضوعها الأول والأثير. عدنان يرى أنها فرصتهم للعب دور البطولة المطلقة أو نوع من ممارسة حقهم الطبيعي في النرجسية. على الفايسبوك ـ يقول طه عدنان ـ نبحث ككتاب عن تطمينات فورية حيال ما نقترفه. ولحسن الحظ مهما كانت المادة المنشورة فايسبوكياً بسيطة، وضحلة أحياناً، فإنك لن تعدم من يحتفي بها ليطري ألمعيتك. أما إذا سوّلت النفس، الأمّارة بالصدق، لأحدهم مصارحتك برأي لا محاباة فيه، فليس هناك أسهل من الإطاحة بصداقته.
هكذا وبشكل ديموقراطي. الكتّاب ـ يقول طه ـ لديهم هوس بالحضور، كأنهم يكتبون فقط لمقارعة الغياب. وهذا يظهر على الفايس بوك بشكل سافر. لذا تراهم يسارعون إلى إطلاق بنات هلوساتهم مثل (خبر عاجل)، ودونما تنقيح أحياناً، لتكتشف أن بعضهم لا يعرف متى تُكسر همزة إن ولا متى تُكتب الهمزة فوق السطر.
من حسن الحظ أن الفايسبوكيين ينوعون اهتماماتهم من حين لآخر لينخرطوا في أشياء أكثر جدية. كأن يساهموا في إعلان انتحار جماعي على الهواء الافتراضي او إطلاق ثورة بين الفينة والأخرى لتغيير الجو قبل أن يعودوا للتسلي بنشر إبداعاتهم وصورهم وعصارة أمزجتهم على جدران صفحاتهم الشخصية. الجدران الوحيدة التي يقضون في مناجاتها ساعات مديدة دون أن يثير ذلك سخرية أحد.
هلال شومان:
التفاعل
يرى الروائي والكاتب الشاب هلال شومان ان الكثير يتعامل مع الفايس بوك كشيء طارئ، بينما الحقيقة أنه طارئ على الوافدين على الشبكة العنكبوتية أو على الذين اقتصر تعاملهم معها على نطاقات ضيقة. بالنسبة لهذه المجموعة هو لا يزال من الكماليات، ولهذا ربما يتعاملون معه ـ على الأقل في المرحلة الأولى ـ بحذر. يجدونه في أحسن الأحوال تسلية لقتل الوقت، وفي أسوئها مضيعة من دون أن يخفوا الدهشة الأولى لإيجادهم أصدقاء مرّ زمن سحيق منذ تواصلهم الأخير معهم في الحالتين.
شومان يرى ان قد لا يصح النظر إلى فايسبوك من دون النظر إلى تجربة المستخدمين على الشبكة العنكبوتية وهي تجربة لم تبدأ في التدوين ولن تنتهي في فايسبوك. ما يميز فايسبوك أنك الآن ـ ان فتحت حسابك ـ ستجد والدك ووالدتك وربما أولادك يطلبون اضافتك كصديق. لقد اكتسب الموقع نوعاً من الصيت غير المسبوق بخاصة بعد الحراكات السياسية في البلدان العربية.
الكثير دخل ليكتشف ـ يضيف شومان ـ والكثير علق. وإذا كان بعض الكتاب يستخدمون فايسبوك كمنصة منبر للتحدث مع قارئيهم فهم يفوتون صفة مهمة مما بات يتعارف عليه باسم الشبكات الاجتماعية، وهي التفاعل. على «الويب» الكل سواء وأنداد، والتفاعل هو ما يخلق المضمون. أنت لا ترمي كلمتك وتمشي كما في منبر قصيدة. ولا تسمع مواطنيك ما تظن أنه صحيح كرئيس دولة سقط منذ أشهر. بهذا المعنى، تبدو التجربة بفردية كل المشاركين فيها، نقيضاً كلياً للأنظمة الحديدية التي تسقط تباعاً.
على أن هذه التجربة تعوزها بعض الخبرة. الكثير من الكتّاب مثلاً لا يفرق بين صفحة عامة على فايسبوك وبين حساب شخصي مثلاً، وهذه الاكتشافات عينــها سرعان ما تبدو جلية لهم بعد فترة من الاكتشاف والتمحــيص داخل الموقع. وعندها يمكن البدء بالحديث عن الموقع كشيء غير كمالي لهؤلاء المستخدمين. وقد يكون من المجدي البدء في الحديث عن كيف يمكن استخدام الصيغة الحالية للشبكات الاجتماعية في إنتاج عمل إبداعي سواء عبر التواصل مع المشاركين أو استخدام طبيعة الشبكات.
يرى هلال شومان أنه يميل إلى النظر إلى الشبكات الاجتماعية (وهذه لا تقتصر على فايسبوك بل بعضها مناسب تماماً للكتاب كموقع «غود ريدز» لمناقشة الكتب)، يميل شومان إلى النظر إليها كتفصيل حتمي وإن كان مرحلياً في سياق تطور الشبكة العنكبوتية.
ينتج فايسبوك مصطلحات تبسيطية: أنت «تحب» (لايك) ولا تجد «لا أحب» مثلاً لدواع تسويقية. إنه بهذا المعنى يحاول انتاج الثقافة الدارجة والقائمة على النظرة الإيجابية للأمور، وتجاهل كل ما هو سلبي، وإن كان يتيح التعليقات المفصلة. هذه الناحية تجعل شومان يفكر: هل يمكن ترجمة العلاقات الاجتماعية بتعقيداتها فعلاً على موقع الكتروني؟ هل يمكن الوصول لترجمة دقيقة لهذه الخارطة البشرية؟ هل يمكن البدء بالحديث عن نجاحات ملحوظة لمشاريع يمكن وضعها تحت خانة «التفاعل بين الإنسان والآلة»، بل ربما يتعداها ليصبح تحت خانة «التفاعل بين الناس عبر آلة»؟
نهى محمود:
نفكر معاً
نهى محمود، الكاتبة والصحافية المصرية كلما دخلت الفايس بوك شعرت كيف أصبحنا بكل هذه الوحدة! اقتسام الأشياء مع الآخرين، هو الهاجس الملح عند معظم مشتركي الفايس: «الكلمات التي نكتبها كل يوم، تتضمن أشياء تشبه: أنا أتألم، أنا أعاني من صداع، لدي مشكلة في العمل، ليحم الله البلاد العربية. أليس تلك ـ تسأل نهى ـ طريقة إعلان أننا نرغب ان نقول أشياء للآخرين؟ الصور التي نشارك بها، صور محببة لنا، مقاطع من أغنيات، كتابة ننشرها هناك، ونحن نتوقع بعض التعليقات... أترجم ذلك على أنه صرخات تجرّب ان تخترق العدم.
أنا لا أتابع الأخبار ـ تضيف نهى ـ لأنها تثقل على قلبي، سخرية القدر أن أعمل بالصحافة والكتابة، ولا أحتمل سخافة وبرودة الأخبار. يكفي ان أتصفح صفحتي على الفايس، فأعرف من فعل ماذا! تغيرت خارطة هذا الموقع كثيراً بعد موجة الثورات العربية، كلنا تغيرنا بعد ما حدث ويحدث، صار بإمكان هذا المكان من العالم ان يحقق لنا ليس فقط التواصل مع آخرين حتى لا نشعر بأننا وحدنا في هذا العالم، باستطاعتنا جميعاً الآن ان نفكر بصوت عال معاً، ان نشوش أفكار بعضنا، ونتجادل بقسوة وبلا رحمة، ان ننتقم من المختلفين معنا فكرياً. ان ندفع موجة بحر كاملة في اتجاه مع أو ضد. الكثير من الصخب، والفوضى، والوحدة حيث يتكلم الجميع ولا أحد ينصت...
جمال جبران:
مكتب شخصي
جمال جبران الصحافي والكاتب اليمني تربطه بهذه الأداة التواصلية علاقة أكثر من حميمة: «يذهب الزملاء إلى أشغالهم ومكاتبهم في الصباح، وأنا أذهب إلى «الفايسبوك». هم يذهبون إلى وظائفهم وأنا أفتح وظيفتي بمجرد تشغيل حاسوبي الشخصي، وعلى الفايس بوك مباشرة. أطمئن على الأصدقاء البعيدين أولاً، ومن ثم الأصدقاء الأقرب الذين يمكن على كل حال الاطمئنان عليهم عن طريق الهاتف ومن ثم يبدأ الشغل. شغلي أنا، نعم، حيث صار هذا الموقع المخصص للتواصل الاجتماعي مكتباً شخصياً أمارس عليه مهام أشغالي اليومية والتي منها أستمد أسباب استمرار بقائي على قيد الحياة.
لا أمزح هنا ولا أبالغ. كيف يمكن اعتبار المكان الذي تقضي فيه أكثر من نصف يومك وتتواصل معه مع مصادر دخلك المادي والعاطفي. الجريدة التي تكتب لها، والحبيبة التي تسكن في بلاد بعيدة عنك ولا تجد وسيلة للوصول إليها بغير «الفايسبوك».
كيف إذاً يقال ان لهذا الاختراع الرائع سيئات؟ ما يقوم هذا الفايسبوك بجلبه لي ليست سوى حسنات فقط ولا شيء سواها. لا اشعر به أداة لتضييع الوقت، تلك الحجة التي يقول بها المشغولون حتى آذانهم طوال الوقت، مع أنهم لا يفعلون شيئاً، ويكتفون ليل نهار بكيل شتائمهم للفايس ولا يستطيعون تركه في ذات الوقت.
وعليه، وبشكل شخصي لن يمكنني تركه، ولا أود أصلاً تركه. من يستطيع ترك كل تلك الحسنات التي يهبها له كلما فتح شاشة حاسوبه الشخصي، ليدخل الجنة، جنتي الخاصة.
السفير
24-9-2011