زحفت نار العولمة علي العديد من القيم، والتهمت دون رحمة مبادئ الجمال التي باتت جوهر الإنسان وكنهه، وفي ظل الاستئساد المادي المهول أفرغت كثيراً من المجالات من حيويتها، وافتقدت سر وجودها لأنها أصبحت عديمة الجدوي دون وظيفة تحت ظل الفهم الجديد الذي سطرته الرؤي الجافة التي تقدس كثيرا العلمية الحرفية، ولعل أكبر المجالات التي ينطبق عليها هذا القول هو الأدب، الذي أصبح بالتدريج حديقة تتراكض فيها التقنيات الكتابية المفرغة من المعني، وصار بالرغم من أنفه، جزيرة لا تدل علي نفسها، ولا تطل إلا علي عالمها الساحر الذي يستقل بذاته عن باقي الوجود، بعد أن ظل لقرون مديدة روح الخلق وصانع القيم والحيوات! ومع سيادة الركاكة وتهافت الكتبة الجدد علي التقنية علي حساب القيم الرفيعة والمعاني السامية التي تخلد النص في وجدان الأمم البشرية، وفي ظل تسلطن الحساسيات التي تدعو ملء فيها إلي التجريدية والقفز في الهواء والتعالي علي الواقع والناس ونشر السفسطة والقيح الداخلي ونبذ المعني وتشجيع الرداءة، أطلق أحد رواد الشعرية وممجدي دراسات الخطاب صرخة يحذر فيها من تدهور قيمة الأدب، ومغبة التفريط في قيمه الرفيعة التي كان يضطلع بها، موجها خطابه المؤثر إلي المهتمين بمجالات التربية فضلا عن الكتاب والمبدعين والنقاد وأهل الأدب من المهتمين، ذاك هو موضوع الكتاب الذي صدر مؤخرا بفرنسا تحت عنوان الأدب في خطر ، والذي ترجمه الدكتور عبد الكبير الشرقاوي بعد فترة قصيرة من تاريخ طبعته الفرنسية الأصلية، وهي صرخة مزدوجة بين باحثين كبيرين قدما للأدب الشيء الكثير، كل في ميدان تخصصه، وقد عودنا عبد الكبير الشرقاوي دائما علي الحفر عن الجديد الذي يهم المتلقي والباحث العربي، ليطلعه علي الجديد والأهم، ويجعله قريبا من التحولات النقدية التي يعرفها عالم الأدب الغربي الذي لا يمكن أن ننعزل عن صيرورته.
فبعد اشتغاله الذائع الصيت علي الشعريات وبنيات الخطاب الأدبي والبلاغة تنبه إلي أن دراسي الأدب ومدرسيه انساقوا خلف بريق الأشكال والقوالب والتقنيات الأدبية، وتجاهلوا جمالية المعاني الروحية والقيم الإنسانية التي تحفل بها النصوص الأدبية الكبري، وتناسوا ما يوحي به الأدب من صور السعادة والشفاء، مؤكدا أن اهتمامه بالصوغ النصي والخطاب الأدبي وبلاغة النصوص فيما مضي لم يكن تنصلا من هذا الجوهر الذي يجعل الأدب ملتصقاً بالإنسان في مسراته وأحزانه، بل علي العكس من ذلك كان يقترح الاستعانة بأدوات علمية جديدة لاكتشاف أسمي لهذه المعاني الثاوية التي يحبل بها النص الأدبي، داعيا إلي الموازنة بين العناية بالمعني النصي وتعالقاته مع الواقع والمحيط السوسيوثقافي الذي أفرزه من جهة والتقنيات والأشكال التي اختارها للوصول إلي قلوب المتلقين، وليس في هذا أي شكل من أشكال التعارض، يقول: التجديدات التي حملتها المقاربة البنيوية في العقود الماضية مرحب بها شرط احتفاظها بوظيفة الأداة 1. لكن للأسف ذهبت الجهود إلي عكس ما كان يتغياه تودوروف، فقد اهتم الدرس الأكاديمي والتوجيه التربوي والأدبيات النقدية وحتي جهود المبدعين بالشكل الذي تحول إلي جوهر وغاية بعد أن كان فيما مضي وسيلة تؤدي إلي جوهر النص وكشف معانيه السامية التي تخدم الإنسانية، يقول: إن معرفة الأدب ليست غاية لذاتها، وإنما هي إحدي السبل الأكيدة التي تقود إلي اكتمال كل إنسان.
والطريق الذي يسلكه اليوم التعليم الأدبي الذي يدير ظهره لهذا الأفق يجازف بأن يسوقنا نحو طريق مسدود، دون الحديث عن أن من العسير عليه أن يفضي إلي عشق الأدب 2. لقد جهل القراء في ضوء التوجهات الجديدة النصوص الرائعة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها قرونا من الزمن، وعزل الأدب في دائرة صماء خرساء، وكأن لا علاقة له بالإنسان وحياته لا من بعيد ولا من قريب، فافتقد طعمه وفسد الذوق العام، وأصبح المبدع مجنونا يجب أن يتعامل معه بمنطق الحماقة، وضاعت بالتالي رسالة الأدب السامية، يقول: الأدب متصل بكل شيء. لا يمكن فصله عن السياسة؛ والدين؛ والأخلاق 3. إن تودوروف يعتبر أن الأعمال الأدبية تحيي دائما ضمن سياق وفي حوار معه، ليس فقط لا ينبغي للوسائل أن تصير غاية، ولا التقنية أن تنسينا هدف الممارسة، بل لا بد من التساؤل عن القصدية النهائية للأعمال الأدبية التي نراها جديرة بالدراسة 4. إن الأدب ـ في نظر تودوروف ـ إذا لم يعن الفرد علي أن يحيا ويعيش تجارب الآخرين، فهو ليس أدبا، بل هو مجرد متعة وتلهية محجوزة للأشخاص المتعلمين 5، إن الأدب الرفيع هو الذي يتيح لكل واحد أن يستجيب لقدره في الوجود الإنساني 6. إن تودوروف لم يقصد بهذا الكتاب أن يتراجع عن مشروعه الذي بناه طيلة عقود من الزمن رفقة ثلة من الأصدقاء، بل إنه ينتقد الطريقة التي تعومل بها مع الأدب علي أنه مجرد عنصر كمالي لا حاجة إلي الزج به في أحضان اهتمامات الإنسان اليومية الكبري. ويدعو إلي التسلح بالوسائل والعدد التي ابتكرتها البحوث الأكاديمية البنيوية لفك لغز النص واستخلاص جماله ومادة قيمه النبيلة التي يريد توصيلها إلي الآخر في حدود الحاجة. إن النصوص العميقة بهذا المعني ليست هي التي تتوفر علي اكبر قدر من التقنية، بل هي التي تستطيع استضمار أكبر قدر من الأحاسيس البشرية التي تجعل منها نصا خالدا.
لقد ناقش تودوروف هذه المعضلة عبر كتيبه الصغير هذا في حدود ثمانية فصول صغري وعميقة تجترج السؤال تلو السؤال، وتبين عمق تفكير الرجل، وعناوين هذه الفصول هي علي التوالي: تمهيد، اختزال عبثي للأدب، ما وراء المدرسة، نشوء علم الجمال الحديث، جماليات عصر الأنوار، من الرومانسية حتي الحركات الطليعية، ماذا يستطيع الأدب، تواصل لا ينفد. لقد مهد لكتابه هذا بسرد سيرته العلمية منذ انتقاله من بلغاريا إلي فرنسا بحثا عن متنفس جراء الضغوط السياسية الخانقة في بلده، وفي فرنسا حيث التحرر والعمق وجد هناك من دفعه إلي تكريس مشروعه العلمي واحتضن أفكاره حول الأدب والمناهج، ويخص بالذكر كُلاً من رولان بارت وجيرار جنيت، مبينا طقوس حبه للأدب وسر عشقه له، ممتعضا من الطرق الكفيفة التي يدرس بها الأدب الآن. وفي الفصل الأول وضح المنزلق الخطير الذي هوت إليه الدراسات الأدبية التي حدت من فعالية النص وقتلته وأضاعت نجمته من خلال انصرافها إلي البحث غير المجدي عن التقنيات وأشكال الخطاب وجماليات الشكل، وتهميشها للمعاني الجميلة والقيم الرفيعة التي يحبل بها، موضحا أن هذه التقنيات لا فائدة لها في ذاتها إلا من خلال ما تؤديه من أدوار خدمةً لاستجلاء المعاني والمقصديات النصية. كاشفا امتعاضه من عزل الأدب وتفريغه من محتواه الإنساني ووظيفته التهذيبية والتربوية الخلاقة إذا كانت مهمة الشعراء حقا هي أن يكشفوا للناس عن قوانين العالم السرية، فلن يعود بالإمكان القول أن لا صلة للحقيقة بالأغنيات... فالفن والشعر لهما حقا صلة بالحقيقة، لكن هذه الحقيقة ليست من نفس طبيعة الحقيقة التي يطمح إليها العلم 7. وفي الفصل الثاني شرح أثر هذا الانصراف عن جوهر النص إلي حواشيه وقيمه التقنية علي المتعلمين الذين عرفوا التقنيات وأشكال الخطاب والأساليب الفنية والبلاغية دون أن يخبروا جمال العالم في النص؛ ودون أن تؤدي بهم معرفتهم الشكلية باستخلاص الجوهر الإنسان المتضمن في النص المدروس؛ ودون أن تكون لهم جرأة اقتحام جمال الأدب وتذوق الروائع الإبداعية، لقد كانت المدرسة وما فيها من مناهج وبرامج تكرس تهميش النص وقتله وتنتج متلقين عدميين بعيدين عن دائرة الأدب. وفي الفصل الثالث والرابع والخامس بين الظروف المتعاقبة التي أدت بالأدب إلي هذا النفق، رابطا إياها بالتغيرات السوسيوثقافية التي باتت تؤثر علي الإنسان وتفرض عليها رؤية معينة للأشياء والكون. أما الفصلان الأخيران فيخصصهما الباحث لاستعراض الإمكانيات والآفاق التي يفتحها الأدب والوظائف التي يؤديها والخدمات الجمة التي يقدمها للكائن الإنساني؛ موضحا أن الأدب سيظل دوما في صميم الجوهر الإنساني، وفي قمة انشغالاته واهتماماته اليومية أن تفكر جاعلا نفسك في موضع أي إنسان آخر، أن تفكر وتحس متبينا وجهة نظر الآخرين، شخصيات حقيقية أو شخصيات أدبية، هو الوسيلة الوحيدة لتوجهنا نحو الكونية 8، وإذا انعدم ذلك فالعيب ليس في الأدب، بل في نظرتنا إليه، وفي مناهج تعاملنا ووسائلنا العاجزة عن اكتشاف جماله وسر حضورنا في كنهه، يقول تودوروف: إن موضوع الأدب هو الوضع الإنساني نفسه، فالذي يقرأ الأدب ويفهمه سيصير، لا متخصصا في التحليل الأدبي، بل عارفا بالكائن البشري. فأي مدخل إلي فهم أشكال السلوك والأهواء البشرية أفضل من الاستغراق في أعمال الكتاب العظام الذين كابدوا هذه المهمة منذ ألوف السنين؟ 9.
إن الدراسة الحقيقية للأدب في نظر تودوروف تجعل منه مجالا مفتوحا علي دوائر متحدة المركز تزداد اتساعا: دائرة الكتابات الأخري لنفس المؤلف، دائرة الأدب القومي، دائرة الأدب العالمي، لكن سياقها النهائي، والأهم، هو الوجود الإنساني ذاته. جميع الأعمال الأدبية العظيمة، أيا كان منشأها، تدعو التفكير إلي سلوك هذا السبيل 10، لقد فطن خبير ومهندسها أن الوقت حان لتعود للأدب هيبته وجدواه التي ضاعت بالتدريج، وربما كان هذا الغياب والتغييب سببا من أسباب تفشي اللا إنسانية في العالم، وسيادة التوتر، والتلاسن والصراع العنيف ردا علي تردي القيم وسطوة الماديات التي تقضم كل ما هو إنساني. فلنر كيف يمكن أن نتدارك ما يمكن تدراكه، ولنعد إلي الكتابة والكتاب بهاءهم المفقود، إذا أردنا أن نحيي إنسانيتنا بلا مشاكل ولا تصاد عنيف.
- تزفيطان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، البيضاء، 2007م، ص 15.
- نفسه، ص 16.
- نفسه، ص 33.
- نفسه، ص 15.
- نفسه، ص 10.
- نفسه، 10.
- نفسه، ص 36.
- نفسه، ص 48.
- نفسه، ص /ص 54 ـ 55.
- نفسه، ص 53.ہ ناقد وقاص من المغرب
القدس العربي
26-10-2007