اعجب من أن يكون الشاعر مفتوناً بالشعر، واقول أليس الاقرب الى الطبع ان يكون ضجراً منه وهو على الاغلب طافح به. أليس الاصوب ان يمل منه بعد ان اكل من عقله وعمره ونفسه، وبعد ان ضاع فيه كلما تقدم شوطاً وكلما ظن انه بالغ منه شيئاً؟ اعجب من ان يكون الشاعر مفتوناً بالشعر، واظن ان احرى به ان يلعنه، لكن قاسم حداد شاعر مفتون بالشعر، وليس افتتانه بالشعر الا بعض افتتانه بالعالم. ليس حبه للشعر الا من كرمه الفائق وحلمه، واحسب ان صبره على الشعر من صبره على الناس والاصدقاء جميعاً. قاسم حداد شاعر مفتون بالشعر ومحب للشعراء ومن كرمه وجد الشعر مشرداً، فأواه ووجد الشعراء ضالين فأعطاهم بيتاً هو «جهة الشعر»، انه بيت ولعله اكثر من ذلك، منتجع او مدينة، لكنه موقع على الانترنت ومن الصعب سبره من الزيارة الاولى، فالعمق الانترنيتي عمق أثيري ولست تخطو إليه، ولكنك تطير، ولسنا جميعا بأجنحة، لذا يبقى بعضنا عند العمارة الاولى فيما يستطيع البعض الآخر ان يحلق في اجواء العمارات الاخرى. انه فضاء شاسع هذه الجهة للشعر، التي أنا متأكد من انها جهة قلب قاسم حداد، إذ انني لا اشك في ان الشعر يجري في شرايينه ولا اشك في انه أوتي قلبا من شعر. لست الاقدر على ان اكون دليلك الى مدينة قاسم حداد فأنا رجل ارضي، ولست بقادر على التحليق. ثم انني اخاف من الخرائط وأخلط بين الجهات، فلست اصلح دليلاً. الا ان الذين اوتوا العلم بمدينة قاسم حداد يتحدثون عن عجائب هناك. هناك كنوز ظاهرة ومطمورة واخرى لنا ان نتكلم عن ألف ليلة وليلة شعرية. وعن مصور بمئات الأبواب كلما فتحت فيها باباً وجدت كنزاً أثمن، ولعلك تجد بجعات مسحورات وطيوراً من الجنة وشياطين وجناً. ولعلك واجد في بعض الأبواب خطراً عظيماً فمدن العجائب ليست جميعها مأمونة ولو كانت من شعر. يقال انك تجد في بطون العمارات ما شئت من مجموعات شعرية قديمة ومحدثة، ويقال انك تجد الكثير الكثير مما قاله الشعراء ونسوه، الكثير الكثير مما ارسلوه جزافاً، احاديث وسيراً واطروحات، والكثير الكثير مما قيل عرضاً او قصداً فيهم، وتجد الكثير مما قيل في الشعر وما يتعلق به من قريب او بعيد، ثم انك تجد صور الشعراء وأصواتهم وتدخل الى ناديهم وتحاورهم وتبادلهم كلاماً بكلام. هذا إذا لم تكن شاعراً، ولست ادري اذا كان غير الشعراء اليوم يقصدون مكانا للشعر، لكنك، وانت في الغالب شاعر، ستدخل الى بيتك من جهة قلب قاسم حداد، ولانك شاعر ستكون كسولاً وستستريح في الحجرات الاولى، ولن تتقدم إلا مرغماً.
يحتفل قاسم حداد بالشعر في زمن أقفر من الشعر، وفي عصر بات الشعر فيه بالرغم من الشعراء، حلقة او شيعة خاصة، ولم تعد اماكنهم سوى غيتوات، وتنكرت لهم الصحف والميديا بأجمعها فلم يعد لهم ذكر فيها وهجرهم قراؤهم اي هجران. قاسم حداد فارس ولا شك ليجازف هذه المجازفة، وليصنع للشعر هذا القصر وليدعو الشعراء المساكين ليدخلوه بأمان.
اعجب من شاعر يحب الشعر، لكن الشعر يحتاج الى شيء من الحب. والشعراء الغاوون الضالون يحتاجون الى الحب ايضا، وجهة الشعر على صورة قلب شاعر محب دعوة للجميع.
السفير
21 يناير 2008
***
عزيزي قاسم،
رويدك يا صديقي ودعكَ من خطوتنا الوشيكة الآن. لنأخذ هدنتنا الافتراضية ولو لدقائق. واسمح لي بأن أسترجع معك اللحظةَ خطوتنا الأولى.
خطوتي أنا على الأقل.
هل تذكُر؟
كان ذلك قبل 10 سنوات. ربما أكثر بشهور... لم تكن «جهة الشعر» أكثر من كوّة ضوء صغيرة هي موقع «قاسم حداد» الشخصي عندما جئتَ إلى الرباط. كنتُ يومها برفقة العماني النبيل عبد الله الريامي نفكّر في حانة صباحية.
بيرةُ الصباح تحت سماء الرباط المشرقة وفي جوها المعتدل على الدوام كأنها كأسٌ من الجنة.
لكنك اقترحتَ علينا جنة أخرى. فكانت «بغثة الصديق»...
- ماذا تقول يا قاسم؟ مقهى ماذا؟ إنترنت؟
سألتُ صحبي من أدباء الرباط وشعرائها فإذا بهم أجهلُ مني أنا المراكشي الغريب. سألنا طويلاً قبل أن نجد من يطمئننا - أو تطمئننا إذا توخينا الدقة، فقد كانت امرأة، هل تذكر؟ ــــ إلى أن هناك مقهى ينوء اسمُه بمثل هذه الرطانة الغريبة في حي أكدال.
جرجرنا أرجلنا وراءك عبد الله وأنا. لم نكن مقتنعين تماماً. ومع ذلك لم نتلكأ.
بلى، فقد تلكأنا قليلاً.
لكن هناك في المقهى ما إن تحلقنا ثلاثتنا حول الكومبيوتر حتى انفتح أمامنا القمقم لأول مرة... وخرج المارد الجبار:
www.qhaddad.com
لم يكن هذا المارد غيرك أنت:
صورتك، شاربك الكث، نظرتك الحزينة رغم سحابة الفرح البيضاء التي تظلل روحك في النص والحياة، قصيدتك، وأزرقُك الهشُّ المستحيل.
في تلك اللحظة بالذات، بدوت لي نبياً. عقدت الدهشة لساني. الدهشة شخصياً، وليس الكلمة التي في المعاجم.
(.......)
غادرتُ الرباط إلى جنوبي القصي، وبقيت هناك لأكثر من سنتين أنتظر. وما إن فتح أول سايبر كافيه أبوابه في الجوار (كان باباً واحداً، صغيراً وضيقاً في الواقع)، حتى التحقتُ بكم على الفور. عائلة كاملة كانت بانتظاري على حافة الضوء: أنت في المنامة. أخي طه في بروكسيل. بيلين خواريث في غرناطة. والآخرون هنا وهناك.
كان قطار الجهة انطلق لينهب السنين والمحطات والجغرافيات الشعرية المتناثرة بعدما أطلق صفيره الأول بحزم. وما إن وضعت خطوتي على العتبة الزرقاء، حتى استغرقَتْ مقصورات الجهة بردهاتها الشعرية المدهشة ومحطاتها المتلاحقة جزءاً كبيراً من وقتي وأحلامي طوال هذه السنوات. وبدأتُ أشتغل منذ ذلك في أجمل مشروع أدبي أخلصتُ له بعد «الغارة الشعرية»: مغامرة أول الشعر ومطلع العنفوان.
الكثير من أصدقائي المغاربة تسلّلوا عبر وساطة الجهة الظليلة إلى قارئهم العربي. والكثير من الشعراء العرب من مصر ولبنان والشام والخليج صارت قصائدهم وزوابعهم الإبداعية تهبُّ مباشرة داخل البيت الشعري المغربي الذي فتح شرفاته تماماً على رياح الجهة: جهة الشعر. حتى المنافي، مع مكرنا الإلكتروني المرح وانفتاح رياحنا على كل المهبات، ما عادت منافي...
أمّا عبد الله الريامي، الكسول الذي تأخر طويلاً قبل أن يقتنع بدرسك ياقاسم، فقد صار له إيميل هو الآخر. لكنه لا يستعمله إلا نادراً على ما يبدو. فاتصل به رجاءً عبر الإيميل من ملاذك البرليني حيث تعتكف هذه الأيام. لكن، لا تنسَ أن تبلغه محبتي. ولتكن غارتك الإلكترونية عليه مثل «بغثة الصديق»، تلك التي من دونها لا يكون الشعر شعراً ولا الصداقة صداقة.
عزيزي قاسم
الخطى تصطخبُ تحت أقدامنا في اتجاهات لا تخطر للطرق الطريدة على بال. فلنواصل إذاً منذ الغد... في الاتجاهات كلها.
لقد صارت للجهة جهات، فلنفتحها إذاً على المزيد من المَهبَّات.
محبتي لك وصداقتي الدائمة
أخوك: ياسين عدنان
* عضو أسرة تحرير جريدة «الأخبار»، وموقع «جهة الشعر»، ومحرر «دفتر أفكار» على الموقع عينه
www.jehat.com
الاخبار
2-فبراير 2008