'العالم قرية صغيرة'. ظل هذا الكلام نظريا، إلى أن ولد الإنترنت. وعرف العالم شيئا اسمه تكنولوجيا المعلومات، صار في كل بيت في الأرض جهاز كومبيوتر وفي أكثر البيوت خط إنترنت. فأمسى العالم شارعا واحدا، وفضاء متصلا، وأصبح التقارب بين البشر والثقافات سمة العصر.
لكن الكتابة والكتاب الورقي، وإلى أن يبتكر العقل بديلا منه، يبقيان الأساس المكين للمعرفة الإنسانية، لا الصورة تعوضهما ولا السبل الحديثة. على أن الصورة، وكذا الوسائل الحديثة للتواصل بين البشر، سيكونان من الآن وإلى وقت بعيد رافعة المعرفة وحامل الكتاب بغمضة عين إلى الآفاق، فالعالم حقا قرية صغيرة، لا بل شارع مضاء في كون رحيب.
منذ البداية أقدمنا في دارتنا الحالمة على المغامرة، فاجتمعت نخبة من مثقفي الأمة وعقولها ومبدعيها ولعقدين من الزمن كان لنا مع الحلم سهم صائب، ومع المغامرة المتجددة للعقل المبدع نصيب. فكان 'الورَّاق' أول مكتبة للتراث العربي من مئات آلاف الصفحات على الإنترنت، وكانت 'الموسوعة الشعرية' أول موسوعة إلكترونية للشعر العربي من ملايين الصفحات، وتبعتها المشروعات الإلكترونية المختلفة 'واحة المتنبي'، 'واحة المعلقات' 'حوايا - واحة الشعر الشعبي'، 'موسوعة عصر النهضة'، 'المسالك'. وغيرها من المشروعات التي ربطت أزهى ما في الثقافة العربية بتكنولوجيا المعلومات، وقدمتها، للقارىء العربي حيثما كان.
وفي خط مواز، ومنذ عقد ونيف من الزمن، ولد وانطلق من أرض الإمارات 'ارتياد الآفاق'، كأول مشروع عربي متكامل لأدب الرحلة، وتأسس 'المركز العربي للأدب الجغرافي' كأول جمعية جغرافية عربية غير ربحية تعنى بأدب الرحلة وبالأدب الجغرافي على صعد مختلفة، ونهض عملها على:
تحقيق المخطوطات، نشر الكتب، منح الجوائز، وإرسال البعثات الأدبية إلى الأمكنة، ونشر الكتب.
وذلك من خلال إطارين كبيرين هما: ندوة الرحالة العرب والمسلمين، وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة.
وعملنا على تنشيط 'دار السويدي للنشر والتوزيع' لنشر الأعمال الصادرة عن المركز والجائزة. وفيها رحلات علمية، وأخرى أدبية، وثالثة دبلوماسية، ورابعة حجية وخامسة جغرافية، وسادسة سياحية، وسابعة استكشافية وغيرها مما أبدعته تجارب الرحالة وقرائح المسافرين.
واليوم في رصيد هذا المشروع الجغرافي 322 كتابا محققا بعضها نفد، وأعيد طبعه، وبعضها قيد النشر ثانية، ومئات الأبحاث و60 فائزا بجائزة ابن بطوطة، وهي أعمال أنجزها فريق مؤلف من عشرات الباحثين والأدباء المختصين بأدب الرحلة المتحلقين من حول المشروع والمركز، وعدد معتبر من الندوات ومعارض الكتب والصور الخاصة بهذا الأدب في مشرق العالم العربي ومغربه. وتمكن هذا المركز العربي الرائد بالتعاون مع عدد مهم من أبرز مراكز البحث والجامعات العربية والأجنبية من ترجمة شعار المركز: 'جسر بين المغرب والمشرق وبين العرب والعالم' إلى عمل وضع أدب الرحلة في الصدارة من الاهتمام العربي بعد عقود من الإهمال.
نحن لم نكتف بالتعامل مع نص الرحلة بوصفه نصاً سياحياً لمغامر أو نصاً مقدساً لحاج، وإنما بوصفه نسيجاً أوسع وأغنى من ذلك بكثير. وقد عنينا به لكونه، في نظرنا، النص الأكثر قدرة على الكشف عن الشخصية الحضارية للعرب والمسلمين، وما أحوجنا إلى ذلك اليوم في ظل التأزم العالمي وقلق البشر المعاصرين من علاقاتهم بعضهم ببعض في ظل عالم تتجه مكوناته أكثر فأكثر إلى الانفتاح والتواصل والتفاهم المشترك. فنحن في برهة حضارية جديدة كلية تفرض علينا كعرب ومسلمين وشرقيين أن نخوض غمارها، ونقود مركبنا الثقافي والإنساني في عالم يصطرع، عالم لا مكان فيه للغفلة أو الكسل.
من لا موقع له على الإنترنت لا موقع له في الأرض
عندما يكون المشروع اقتصادياً نتساءل عن الجدوى الاقتصادية، وعندما يكون سياسياً أو دبلوماسياً، نتساءل عن نقاط التفوق في الإقناع. وعندما يكون عسكرياً فإننا نتساءل عن احتمالات النصر والهزيمة. أما عندما يكون هذا المشروع ثقافياً كـ (الوراق) فنحن إزاء شبكة من الأسئلة والتساؤلات المعقدة المتعلقة بمقدار التقدم العلمي والمعرفي للأمم، ومدى قدرة أبنائها على الابتكار والخلق والإبداع، من جهة، ومن جهة أخرى مدى تمكن ثقافة ما من انتزاع مكانة متفوقة لأمة تحت شمس العصر.
هذه التساؤلات برسم مشروع (الوراق). وعليه لا بد لنا، هنا، من تقديم شيء من المهاد النظري للوقوف على المشروع، وإضاءة أبعاده بطريقة تتناسب وخطورته كمشروع استراتيجي عربي شامل.
تتعاظم أهمية الثقافة، والوسائل الحديثة لنشرها، في ظل ميل الإنسان أكثر فأكثر إلى استبدال مفهوم صراع الحضارات وثقافاتها والصراعات التقليدية القائمة على العنف البدني كالاغتيالات الجماعية والحروب (التي تجددت في أعقاب حرب عاصفة الصحراء مباشرة، وهناك من يريد لها أن تستمر) ، بثقافة الحوار والتبادل والتفاعل الحضاري. فالثقافة، في نظر إنسان الألف الثالثة وقواه الحية، هي البديل من القوة: أي أن الثقافة هي القوة.
بغياب الثقافة ومشاريعها غابت أمم واندثرت، ليس بالمعنى المعرفي وحسب، وإنما بالمعنى البيولوجي أيضا. ولنا في التاريخ أمثلة.
إن تحدي الإنترنت، في نظرنا، هو تحدّ وجودي، لا مراء لنا في اختياره، فصراع البقاء يفرض علينا أن نقتحم هذه الشبكة ونؤسس فيها وجودنا، لنكون جزءا من النسيج الإنساني بالمعاني الإيجابية المختلفة، وعلى كل صعيد. لا مكان لنا، نحن العرب، كما لا مكان لغيرنا، خارج الإنترنت. قد تبدو المسألة مبالغاً فيها، لكنها، في الواقع، بالغة الجدية. تصور أن لا يعود لك وجود معنوي وأنت موجود بالدنيا، وأن يزول تأثيرك الفعلي وأنت ملء الوجود!
التكنولوجيا الحديثة تغير العالم وتغير لغته. الجامعة دخلت غرف نوم الطلاب في بيوتهم، فيقرأ الطلاب ويمتحنون في غرف النوم. وقد لا يضطرون حتى إلى الخروج من البيت إلا للتأكد من أن الشمس ما تزال في السماء، أو لزيارة البحر.
الإنترنت، إذن، هو العالم في ثانية، بواسطته يمكنك أن تكون مع أي من البشر في كل وقت، يمكنك أن تعبر إلى مختلف الثقافات، وأن تتجاوز الحدود، والأجناس، والخصوصيات، لتكون عالميا. وباستعمالك له ينطبق عليك ما ينطبق على غيرك، أياً تكن الجغرافيا التي تسكن، والثقافة التي تنتمي إليها.
من لا موقع له على الإنترنت لا موقع له في الأرض!
إن رياح القرن الحالي (الهابة تحت شتى المسميات، وعلى رأسها مصطلح العولمة) ستحمل الثقافات غير المجتهدة (حتى لو كانت معتدة بنفسها لفظياً) إلى مقابر لن تقوم منها، وما لم تتدارك هذه الثقافات نفسها فلسوف يدرس العصر الإلكتروني آثارها.
في العالم لغة جديدة. إذن، على العرب، الذين طلبوا العلم حتى في الصين، أن يجيدوا استعمال هذه اللغة، وسيفعلون.
من هنا نرى أن على القوى العربية الحية أن تبادر قبل فوات الأوان- إلى مساندة المشروعات الرائدة والاستراتيجية التي تحاول أن تنتزع للعرب موقعاً مؤثراً على هذه الشبكة، فالوقت كان دائماً من ذهب وهو كذلك اليوم. ولا ينقص العرب أن يكونوا أبناء العصر وهم الذين سبق لهم أن صنعوا عصوراً زاهية وأهدوها إلى حضارة الإنسان.
نحن في حاجة ماسة إلى الحضور في العالم، ثقافيا، لأن الوجه العربي جرى تشويهه على مدار قرون، وبلغت ذروة التشويه مع منتصف القرن العشرين. ولقد تعرض العرب لضروب من الإجحاف والتجاهل عبر لعبة تنميط وتزوير لشخصيتهم الحضارية أصابتهم بخسائر معنوية كبيرة، وساعدت خصومهم على إيقاع الهزيمة بهم، وضعضعة وجودهم في العالم.
العالم يتصارع على الأرض وفي الإنترنت. فما هو موقعنا من هذه المعركة الحضارية، وبأي مكبر سنتبين العرب في ظل هذا الخلل؟!
إن أبلغ العبر مما تقدم هو حاجة الإنسانية إلى شيء من الاعتدال، وهذا لن يتم إلا بالمعرفة، إلا برفع الغبن الثقافي عن العالم غير الناطق بالإنكليزية، وفي طليعة هؤلاء يقف العرب.
ما يمكن أن يقدمه (الورَّاق) للثقافة العربية وثقافة العالم، داخل الدنيا العربية وفي كل الدنيا، هو من الآن (على رغم الصورة المذهلة لغلبة الإنكليزية) بمثابة خطوة في هذا الاتجاه، وثورة حقيقية ستنعكس آثارها على الأفهام والأذهان والمواقف، والدراسات والأبحاث الأكاديمية والحرة. من بين إنجازات (الورَّاق) أنه سيمكن المبحر من تطوير طرق البحث العلمي، ويختصر الوقت على طلاب العربية وآدابها وفكرها وعلومها. ومنذ الآن يستطيع المبحر أن يطلب من (الورَّاق) أن يعد له بحثاً حول مدينة القاهرة مثلاً، أو قبائل الجزيرة العربية، أو الطب العربي القديم، أو المدينة في الشعر. في لمح البصر يلبي (الورَّاق) هذا الطلب، في أي وقت شاء الباحث، وفي أي أرض كان.
قبل دخول الإنترنت كانت الأمم تحتاج إلى أسفار وحروب وأموال خرافية حتى تتمكن من إيصال شيء من نفسها إلى (الآخر)؛ فمن (فتوحات الاسكندر العسكرية - الثقافية) إلى (رحلة كريستوف كولومبس الجغرافية - الاستيطانية)، ومن (رحلة ناصر خسرو - المعرفية) إلى (رحلة ابن فضلان - الدبلوماسية - الإرشادية)، ومن (حملة هولاكو المدمّرة على الثقافة العربية الإسلامية) إلى (حملة نابليون العسكرية- المقنعة بالثقافة)، عرف العالم حراكاً هائلا للقوة مرتبطة بالمعرفة.
واليوم لا تحتاج الدول والأحزاب والتجمعات والمصانع والشركات والجمعيات الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية إلى نابليون جديد يفتح لأمته ساحات جديدة. الإنترنت هو البديل المتفوق، الذي يستعمله الغازي الاقتصادي، والمبشر الأيديولوجي، والمفكر المثقف صاحب القضية، والمبدع، والعالم، وكل من يملك فكرة جديدة. الورّاق) كتابك المفتوح على الآفاق).
شرعنا في العمل منذ عقد ونيف، من دون مقدمات إعلامية عن المشروع. أردنا أن نعمل كثيراً ونتكلم قليلاً، لكوننا تأكدنا من أننا كلما تأخرنا في العمل كلما تضاءلت حصتنا على الشبكة الدولية، وظل وجودنا في العالم مهزوز الصورة، وبدونا قاصرين عن النهوض كما نهضت الأمم الأخرى، وثقافتنا لا تقل عن ثقافاتها شأناً.
بالإعلان عن ولادة (الورَّاق) نحن لا نقصد أن نقدم إلى العربية إنجازاً حضاريا طموحاً، وحسب، وإنما نقصد أيضاً أن نضع المعنيين بتقدم الأمة العلمي أمام مسؤولياتهم الجسيمة.
الكتاب جاء قبل الإنترنت، هذه حقيقة، وبعده جاء (الورّاق).
هذه الكلمة بمناسبة احتفالية مرور 20 عاما على تأسيس 'دارة السويدي الثقافية' التي ترعى مشروعات ثقافية عربية رائدة بينها: 'المركز العربية للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق'، 'جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة'، 'ندوة الرحالة العرب والمسلمين-ارتياد الآفاق'، الموقع الإلكتروني 'الوراق'، وغيرها من المشروعات.
القدس العربي
2012-04-03