بعد الضجة التي أثارها ظهور أدب الإنترنت وما صاحبها من نعي للأدب الورقي ودعوات للتخلي عن الكتاب، بدأت تظهر لدى كتّاب الإنترنت ميول متزايدة لنشر إنتاجهم الأدبي في كتب ورقية وتوزيعها بشكل تقليدي، وهو ما بدا مناقضاً لكثير من الدعوات التي ارتفعت من قبل للتخلي عن الكتاب، فكيف حدث هذا التراجع؟ وما أسبابه ونتائجه؟
يقسم الدارسون الأدباء من حيث تعاملهم مع الإنترنت إلى قسمين، قسم يتخذ منه وسيطاً لإيصال أدبه إلى القارئ بعد أن نضج وتمكن من الكتابة، وقسم لشباب لم يعرفوا الكتابة خارج الإنترنت ولم يجربوا فترات التدريب والمحاولات الذاتية التي لا يشارك فيها الأدباء في العادة عامة القراء، بل اقتحموا عالم النشر الإلكتروني بتجاربهم الأولى من غير تردد، فقد فتحت الإنترنت أمام الإنسان فضاء للتواصل لا حدود له، وآفاقاً واسعة للوصول إلى المعلومات، ووجد الشباب فيه ضالة كانوا يبحثون عنها اختصرت لهم سبل التواصل والتفاعل وتبادل الحديث والاشتراك في الأفكار والآراء مع غيرهم، وشجعت هذه المشاركة الكثيرين على تجريب الكتابة في الإنترنت، ولقيت تلك التجارب استحساناً وإقبالاً من أعضاء النوادي التي ينتمون إليها، مما دفع أصحابها للمواصلة وألزمهم بالكتابة الدائمة إرضاء لذائقة أصدقائهم وسعادة بتلك التعليقات الجميلة والمشجعة التي يكتبها لهم الآخرون، فكان أن ظهرت نصوص أدبية كثيرة لكتاب شباب يمارسون الكتابة للمرة الأولى من خلال تلك المواقع، وقد ظلت وتيرة تلك الظاهرة في ارتفاع ومجالها في اتساع، وأعداد الذين يمارسونها في نوادي الإنترنت تتزايد باستمرار، حتى أصبحت سمة طاغية تستدعي دراستها والوقوف عندها لمعرفة أسباب انفجار هذا السيل من الكتابة الأدبية على الإنترنت وبروز هذا الكم الهائل من الكتّاب في المنتديات التشاركية والمدونات الخاصة .
وأرجع الباحثون هذه الظاهرة إلى أسباب عدة يمكن إجمالها في كونها منتشرة في الأغلب الأعم بين فئات الشباب من الأعمار الدنيا، ممن ما زالوا يبحثون لأنفسهم عن مكان بين الآخرين ويتلمسون طرقاً للتعارف والتواصل معهم ويضيقون في سبيل ذلك بالقيود التي يضعها الواقع الاجتماعي، لأنها تحد من حريتهم، فكان الفضاء الإلكتروني فرصة مثالية لبناء شبكة من الأصدقاء واكتساب المعرفة، وبحكم أن هذا الفضاء وهمي والأسماء فيه غير حقيقية فقد تعين على هؤلاء التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم لضمان ربط الصلة مع الآخرين فكانت الكتابة الأدبية هي وسيلة التعبير المثلى لما فيها من رقي وتسام يبهر الآخر، هذا إلى جانب أن هذا الفضاء الوهمي يعطي للإنسان حرية حقيقية في التعبير عن آرائه وأفكاره من دون رقابة من أية جهة أو مؤسسة، فوجد فيه الكثيرون تلك الحرية التي يبحثون عنها، هذا فضلاً عن قطاع كبير من الشباب الذين يمتلكون ميولاً أدبية ومواهب فطرية يريدون أن يطلعوا الآخرين عليها لمعرفة صداها في القراء، ولا يمكنهم إبرازها إلا في الإنترنت الذي لا يفرق بين كاتب متمرس مبدع وآخر مبتدئ ولصعوبة النشر التقليدي على المبتدئين، وكما تقول د . فاطمة البريكي “من الطبيعي أن كثرة الاطلاع، والتعرض إلى تجارب مختلفة، والتعرف إلى حضارات وثقافات وعادات متباينة، تفتح العقل، وتوسع الآفاق، وتوجد بواعث داخلية تدفع الإنسان، في أي فئة عمرية كان إلى الكتابة، وتحفزه على الإبداع . وفي ظل وجود هذه البواعث تحركت بذرة الإبداع في نفوس الشباب” .
حفزت ظاهرة أدب الإنترنت الدارسين على تقييم سلبياتها وإيجابياتها وانعكاسها على فن الأدب وأساليبه، وكيفية التعامل النقدي معها، وقد أظهر الكثير من هؤلاء الدارسين قلقاً عميقاً على ما يمكن أن يلحقه أدب الإنترنت من ضرر بالأدب العربي، ورصدوا القصور الإبداعي في هذا اللون من الأدب، والمتمثل في بساطة الأفكار ومباشرتها وخلوها من الخيال الأدبي أو المنظور الرؤيوي، وشيوع الأخطاء اللغوية، وكل ذلك يؤثر سلباً في الأدب الجاد خصوصاً إذا ما عُدّ هؤلاء أدباء على قدم المساواة مع غيرهم، وقد دافع البعض عن الظاهرة بكونها تلبي حاجة لدى أصحابها وتنطلق من مستوى محدد من الثقافة ونوعية محددة من القراء ليس لها القدرة على فهم الأدب الجاد العميق وتعاطيه، ومن هنا تأتي أهميته وحقه في الوجود وفي الاعتراف به .
المشكلة في هذه الكتابات لا تتعلق ببقائها على الإنترنت وتداولها بين رواد المواقع الاجتماعية وأصحاب المدونات، بل في محاولات أصحابها الوصول إلى ساحة النشر الورقي والظهور في كتابات أدبية مكتملة، وقد أصبح ذلك الظهور يشكل رهاناً لدى غالبية الشباب الذين يكتبون في هذه المواقع ويطمحون إلى أن يكون لهم مستقبل بين الأدباء، واليوم يسعى هؤلاء الكتاب وبكل وسيلة إلى الحصول على فرصة لنشر كتاباتهم في كتب . ويكفي أن نشير إلى أن بعض الذين اشتهروا في هذه المواقع عمدوا إلى طباعة إنتاجهم في كتب، ومن أشهر أولئك: رجاء الصانع في “بنات الرياض”، ونداء أبو علي في “مزامير من ورق”، وهما كاتبتان من السعودية أثيرت حول كتابتهما ضجة كبيرة ذات نواح اجتماعية وفنية، ولقيت كتاباتهما رواجاً وقبولاً عند طائفة من القراء، كما واجهتا هجوماً قوياً من نقاد أدب وكتّاب اجتماعيين، وكذلك كتاب “عايزة أتجوز” لغادة عبدالعال، و”أرز باللبن لشخصين” لرحاب بسام، و”أما هذه فرقصتي أنا” لغادة محمود، و”دولة الفيس بوك” لمحمد علي البسيوني وكلها كتب لمدونين مصريين اشتهرت كتاباتهم في مدوناتهم قبل أن يطبعوها في كتب .
في الإمارات نفذت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع منذ 2008 مشروعاً طموحاً لنشر كتابات كتّاب شباب عرف بمشروع “إبداعات شابة” وقد طبعت بموجبه كتب عدة لكتاب منها “من وحي الطفولة” لسلمى الكتبي، و”قصتان” لمريم حاجي، و”الأصائل” لناعمة الكعبي، و”صندوق الحكايا” لابتسام الزعابي، و”نونيات” لنادية المرزوقي، و”خيوط عنكبوتية” لسلطان الزعابي، و”بالأحمر فقط” لمريم الزعابي، و”الأسيرة” لفائزة عبدالقادر، و”الفعل المدمر للحياة” لسارة الكندي، و”أرح قلبك” لهدى التيم الشحي، و”الحب المدمر” لسمية العكبري، و”شيء من بعض إحساس” لشذى الغزالي، و”غربة الروح” لصفاء السعدي، و”جموح” لنجاة الظاهري، و”الرحالة” لخالد الجابري، و”القصيدة المستحيلة” لسعيد المنصوري وغيرهم . وأغلب هؤلاء الكتاب كانوا مدونين أو مشاركين في منتديات يكتبون فيها بانتظام ثم جمعوا كتاباتهم بعد أن بثوها على الإنترنت، وبعد أن لقيت استحساناً من القراء، وأمثلة هذا المبادرات لتحويل نصوص المدونات والمنتديات إلى كتب كثيرة في أغلب بلدان الوطن العربي .
تحول
هذا التحول في الرؤية محيّر في وقت لم تتوقف فيه حملات الطعن في قيمة الكتاب الورقي، في عالم رقمي يهمه الوصول السريع للمعرفة وبلوغ المرام بكبسة زر . ولا يمكن تبريره إلا بإحساس هذه الفئة من الكتاب بالحاجة إلى الاعتراف الرسمي بهم، وقراءتهم من طرف بقية فئات المجتمع، فبعد أن انجلى غبار ضجة الكتابة الجديدة التي بشروا بها، ووجدوا أنفسهم رغم تضخم نصيبهم على صفحات الفضاء الوهمي الذي يكتبون فيه غير موجودين في واقع مجتمعهم ولا يلقون الاعتراف الذي يحلمون به، فكان أن رجعوا إلى تلك الوسيلة التقليدية للنشر طمعاً في ذلك الاعتراف، وإحساساً بأن طبيعة النشر في الإنترنت لا تعطي للمرء الصدقية التي يعطيها له النشر التقليدي، فسهولة النشر فيه وتجردها عن كل القيود الأدبية تجعلان كتّابها غير موثوق بهم، خصوصاً إذا كانوا ممن بدأوا تجاربهم الأولى فيها ولم يأخذوا أنفسهم بتعلم الأدب والتدرب على الكتابة، وهذه حال الغالبية العظمى من كتاب الإنترنت، فالسعي إلى النشر الورقي هو وسيلة للحصول على الصدقية .
إن هذا التحول يطرح إشكالات كثيرة، فكيف سيتم قبول هؤلاء الأدباء الجدد بأساليبهم التي تحدثنا عنها آنفاً والتي يجمع النقاد على أنها لا ترقى إلى معايير الأدب الحقيقي، خصوصاً إذا توقفنا عند العتبة الأولى من عتبات صنعة الأدب وهي سلامة اللغة نحواً وصرفاً وفصاحة، فأغلب النصوص التي يكتبها هؤلاء الكتاب لا تلتزم بموازين النحو والصرف، وتدخل فيها اللهجات العامية بما فيها من لكنة واجتزاء للكلمات، كما تدخلها اللغات الأجنبية والرموز النصية مما تفسد معه اللغة . وهذه عتبة لا يمكن التجاوز عنها لأي طامح يريد أن يكون أديباً، وهي قاعدة مهما يكن اختلاف نقاد الأدب حول غيرها فإنهم لا يختلفون عليها، وإن أضيفت إليها السطحية المعنوية والمباشرة وكونهم في غالبهم لا يفرقون بين الأجناس الأدبية ولا يعرفون أصول كل جنس أدبي على حدة، ندرك عمق الإشكالات التي سيطرحها هذا النوع من الكتاب في عالم الكتابة الأدبية .
يلقي هذا التحول على عاتق المؤسسات التي ترعى الأدب في الوطن العربي مهمة عاجلة في توجيه هؤلاء الشباب وترشيد عطائهم، وإعادة تأهيلهم أدبياً بتوجيههم إلى المطالعة، تسهيلها لهم وتدريبهم عليها، فلا يمكن لأديب أن يكون كذلك وأن يبدع، ما لم يطلع على عطاءات من سبقوه ويستوعبها جيداً، لينطلق منها إلى أفق أبعد للعطاء، ولا يمكن لإنشاءات التلاميذ المدرسية أن تتحول إلى أدب معترف به، كما يلقي على عاتق النقاد عبئاً متجدداً في التصدي لتلك الكتابات بالنقد والتمحيص، وفرز جيدها من رديئها، دفاعاً عن الأدب الرفيع وعن الذائقة الأدبية العربية من أن تفسد .
الخليج الثقافي
31/07/2010