ما أرويه اليوم هو الحكايات التي كنتُ أترقّبُ أن يرويها لي أحد. ما أرويه ليس إلاّ جزءاً ممّا لم أرَ ولو رأيتُ لما رويت. نسافرُ حتّى نبتعدَ عن المكان الذي أنجبَنا ونرى الجهةَ الأخرى من الشروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولادات لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديّاتُ الناقصة. ليكونَ الوداع مليئاً بالوعود. لنبتعدَ كالشَّفَق يرافقُنا ويودِّعُنا. نمزّق المصائر ونبعثر صفحاتها في الريح قبل أن نجد - أو لا نجد - سيرتنا في كُتُب أخرى. نسافر نحو المصائر غير المكتوبة. نسافر لنقولَ للّذين التقيناهم إنّنا سنعود ونلتقي بهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلمِّعَ رنينَ الأجراس في الأودية المقدَّسة. لنبحثَ عن آلهة أكثرَ رحمة. لننزعَ عن وجوه الغرباء أقنعةَ الغُربة. لنُسِرَّ للعابرين بأنّنا مثلهم عابرون وبأنّ إقامتَنا مُوَقَّتة في الذاكرة والنسيان. بعيداً عن الأمّهات اللواتي يشعلن شمعةَ الغياب، ويرقِّقن قشرة الوقت كلّما ارتفعت أيديهنّ إلى السماء. نسافر حتّى لا نرى أهلنا يشيخون، ولا نقرأ أيّامهم على وجوههم. نسافر في غفلة من الأعمار المبدَّدة سَلَفاً. نسافرُ لنبلّغَ الذين نحبُّهم أنّنا لا نزال نُحبّ، وأنّ البُعدَ لا يقوى على دهشتنا، وأنّ المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان. نسافر حتّى إذا ما عدنا إلى أوطاننا أحسسنا أنّنا مهاجرون في كلّ مكان. هكذا بغتةً، ننفضُ عن أجنحتنا الشرفات المشرَّعة على الشمس والبحر. نسافر حتّى لا يعودَ ثمّة فرقٌ بين هواء وهواء، بين ماء وماء، بين سماء وجحيم. نهزأُ من الوقت. نجلسُ وننظرُ إلى المدى. نرى الأمواج تتقافزُ كالأطفال. يمضي البحرُ أمامنا بين سفينتَين، واحدة ترحل، وأُخرى من ورق في يد طفل. نسافرُ كما ينتقلُ المهرّجُ من قرية إلى قرية، ومعه حيواناتُه تلقّن الأطفالَ أمثولتَهم الأولى في السأَم. نسافر لنخدعَ الموت، فنتركه يتعقَّبُنا من مكان إلى آخر. ونظلُّ نسافر إلى أن لا نجدَ أنفسنا في الأمكنة التي نسافرُ إليها. لنضيعَ فلا يعثر علينا أحد. يحملُ إليّ هواءُ هذا المساء صوتُ الشاعرة اليونانيّة سافو. يحملُ الهندسة المقدّسة في صوتها حلماً ينبتُ على حافّة الليل أراهُ من شرفتي المطلّة على مطر خفيف يضيع في الضباب. كيف ألمس نورها من وراء الحُجُب والشمس تغيب في زوغان عينيها المغادرتَين؟ كلّ الوعود بحياة أبديّة، كلّ الفراديس المتخيَّلة في صوتها، وكلّ أجراس أوديتها وسماواتها هي له وحده، للرجُل الخارج من المرأة وفي قلبه شيءٌ من قلبها. وفي قلبه شيء من الرجاء. الرجاء واحد لا يتجزّأ. شجرة واحدة هي شجرةُ الرجاء. خدعة تُقاومُ حقيقة اليأس المتعدّد. بعيدة هي شجرة الرجاء، لا تنبت إلاّ في الأمكنة القصيّة دائماً. أمّا عشبة اليأس السامّة فهي في كلّ مكان. داخل الجسد وخارجه وفي كلّ مكان. هي المشاعر الوضيعة على أنواعها. الحقد والبغض والخبث والحسد. هي أيضاً الجوع والبرد والعطش والذلّ. هي مشيئة الحرب والمطر الأسود المتساقط فوق هيروشيما، ومنذ هيروشيما، فوق العالم بأسره. المطر الأسود الذي لا ينفكّ يتساقط ويلطّخ نفس البشر ببُقَع مَقيتة. هي نقصان الحبّ. لكن كيف لنا يا سافو أن نبتكر الحبّ الذي لا يحيي ولا يميت ولا يخفي شفرته الجارحة تحت جَناحيه المبسوطَين في عراء الزمن؟ أسمعكِ تقولين إنّ زمن البشر لم يأتِ بعد! تُرى متى يأتي وكيف؟ هل يأتي رأساً مقطوعاً محمولاً على الأكفّ؟ لقد تعبت الأجيال المتلاحقة من صَوغ الحكاية ومن تكرار المصائر ذاتها في دورة لا ترتوي ولا تهدأ؟ يحمل إليّ هواء هذا المساء صوتكِ. صوتكِ أنتِ بعد ألفَين وستمئة عام على اندلاعه للمرّة الأولى، قرب أنهار المأساة الإغريقيّة وقرب الأساطير التي يتصارع فيها البشر والآلهة. أتهجّى في صوتك: جسدَ المرأة بعد الحُبّ. الجثّة المسجّاة في انتظار أن نغطّيها بالنسيان. السقوط المائل المحسوب رياضيّاً. سقوط الأجساد التي نُحِبّ، الواحد بعد الآخر. قياسات السقوط: المسطرة والبركار. هندسة الهدم. الهدم الهائل الذي لا يستقيم بدون تصوُّر هندسي هائل. تدمير الهيكل تدميراً للطقس... تسألين هل ثمّة حُبٌّ لا يزال يقيم بيننا. الحبّ القليل بين الإنسان والإنسان. بين الإنسان والحيوان. بينه والنبات. أم أنّنا بدأنا معركة جديدة لا حاجة فيها إلى الأسلحة القديمة. تسألين هل البشر لا يزالون يفتحون كتاب الأساطير ويحرّكون رماد الموتى بحثاً عن نار خبيئة. أم أنّ الموت مات. وحنين الموتى، حتّى حنين الموتى إلى زيارتنا في الأحلام، نضب. الموتى الذين نحبّهم ونشتاق إلى رؤيتهم فيلبّون نداء الشوق ولا يتمهّلون. هم الذين ينتظروننا على الضفّة الأخرى يأتون لملاقاتنا عند حدود الأحلام. ولا يجرؤون على الاقتراب منّا أكثر حتّى لا ينكسر الفاصل. كلمتكِ هي أردّدها لتكون كلمتي. نتركُ الآخر كمن يترك مسكناً ما عاد يرغب في الإقامة فيه. أين هم الذين كانوا يرتعشون في الهواء، يتحرّكون وراء المربّعات الزجاجيّة، يقهقهون ويعطّرون قلوبنا؟ أين هم أولئك الذين تركونا نبحث عن لون للسأَم، عن كلمة نسمّي فيها الرطوبة الأبديّة لكنائس أوروبا؟ فحيثما نحن اليوم، لا نعرف هل الطريق إلى الأمام أم إلى الوراء. أين الطريق وإلى أين تكون الخطوة المقبلة؟ لا ليس هو مطر الذهب المتساقط فوق داناي. فوق جسدها الملتوي من الوجع. أسمعها من وراء الستارة التي تفصل بيننا تتنهَّد وتقول: كيف نتخلّص من الوقت إذا لم نتخلّص من الحياة نفسها، ولا نريد أن نتخلّص منها فماذا نفعل؟ هل لنا أن نبني عالماً بدون أنقاض ولا ذكرى؟ نقترب من الأشياء البسيطة، بدون هدف أو مرمى. في ضوء القمر الذي يروِّض في طريقه الجبال، ويدعوها إلى الجلوس معنا على الشرفات. وأنتِِ لا تنفكّين تغيبين، تمتدّ أمام مسكنك مساحات خضراء لا تنتهي. ثمّة أصوات نستعيض بها عن الموسيقى. أفكّر الآن في المرثاة الأولى لدْوينو. في الحيوان الصغير الذي رافقني شهراً واحداً في طفولتي وأفكّر في عينيه. في البحار التي بقيت وعداً في الكُتُب. وحين يهبّ الهواء الكبير فوق أمواجها المتململة كبطن امرأة في شهرها التاسع، إنّما هو يهبّ في رأسي. لا، لم أسافر بعد. وما زلتُ أحلم في السفر. لم نرَ وجوهنا في الماء. الكؤوس الملوّنة المرميّة في البحر هي كؤوس البندقيّة عند اشتعال القناة الكبيرة. ومعها المرآة وخاتم الذهب وضفيرة من شَعرك البندقيّ لا تلمس القاع أبداً، قريباً من متحف "لاكاديميا" حيث تستريح عذراء بلّيني، أجمل امرأة في إيطاليا. في طريق العودة، سنجلس حيث تعوّدنا الجلوس. عالياً سنجلس وأمامنا أشعّة الشمس الغاربة المنهمكة في نقل أشجار الشربين إلى أمكنة أخرى. ولا نفقه إلى ما يجري حولنا أو أنّنا نتظاهر بأنّنا لا نفقه. يا عصفوري الصغير المختبىء في ظلّ الأوراق والأغصان، لا أعرف إن كنتَ تموت أو تختبىء. يحمل إليّ هواء هذا المساء صوت سافو، ناصعاً وقوياً كشمس الجبال بعد المطر. الجبال الوفيّة التي تلقي مرساتها في الأرض، هنا، قريباً من خبز الصباح. في الغرفة المظلمة لا يأتي الضوءُ من نافذة أو من كوّة في الجدار، بل من التحام اللثّة ومن انفراج الشفتَين الممتلئتَين بغبطة. لا يمكن أحداً أن يمتلك أحداً ولا شيئاً. لا يمكن أحداً أن يمتلك حتّى نفسه. تُرى ماذا يمتلكُ النهرُ المتدفّق؟ النجمةُ المضيئة، ماذا تمتلك؟ الشمس التي تقذف براكينها؟ الشجرة الواقفة بصمت والتي تبدو ثابتة في مكانها؟ حتّى الصمتُ الشاسع حيث يحلو لنا أن نبني بيتاً... تقف أمام المرآة ولا أحد في المرآة. فاقدُ البصر مُدركٌ أنّ ما نراه أقلّ بكثير ممّا يُرى. ما نراه يخبّىء شيئاً آخر لا تمكن رؤيتُه بالعين. لا تمكن رؤيته أبداً. هل تمكن رؤية المشاعر؟ الهواء المأهول؟ السهل المنبسط وسربُ الطيور المُغادِر دائماً؟ هي هذه الحاجة إلى الرؤية ما يجعل الأرض قاعة انتظار فسيحة لما يوجد خارج الأرض. أو بالأحرى خارج المُدرَك من الأرض. هل الغرفة مظلمة حين لا يكون المرء وحيداً؟ حين تغصّ بالأنفاس، ويتّكىء المقيمون فيها على شرفات لا حدّ لها. كنتُ أراقب صدركِ العاري في المرآة نصف المظلمة. هل صحيح أنّ ما نراه أقلّ ممّا يُرى؟ أراقب مجيء الطفل في بطنكِ المتكوِّر، هذا الجبل العظيم. الجبال التي نستعيض عنها بالشعر هي الجبال التي لا نبلغها على الإطلاق. بدل أن نكتب عنها لماذا لا نُراقبها؟ نتأمّل المنحوتة المتحوِّلة يوماً بعد يوم. نلامسها ونتبارك بها. الشجرةُ الوحيدة مظلّتي. الشجرة التي تنمو خارج السماء والأرض. هل الغرفة مظلمة حين أمامها تنفرج الشفتان. شفتاكِ؟ وهذا الضوء الذي لا نعرف من أين يجيء. في لوحات كارافاجيو ورامبرانت. وفي صروح الرخام المخصّصة لأميرات الموت. من "تاج محلّ" ورخامه الأبيض ينهشه الوقت، إلى مروج الياسمين. من قصور البتراء الورديّة إلى زجاج الكاتدرائيّات المعشَّق. من قصر "الحمراء" في غرناطة إلى قُصَير "عمرة" في الأردنّ وحمّامه وجداريّات عارياته الملوَّنة وصوت مائه الدفين. مَن الذي ينحتُ ضوءكِ في الظلام؟ ولمَ الوقوف هناك، في الردهة الفسيحة، تحت مظلّة؟ هناك، حيث يعانقنا الموت ولا نموت. نتدلّل. يتدلّل واحدنا على الآخر ونبتكر في عمق الليل المتفسِّخ صباحاتنا. هل تبقى الظلمةُ ظلمةً حين يثور الجسد على أكفانه. يمزّقها، ويعاود تكوّره في بطن الأنثى. في أوّل بطن يدعوه إليه. إنّها لحظة التكوّن الأولى الأكبر من الكون. خارج المرآة وخارج المظلّة معاً. بعيداً عمّا يسمّي الروح روحاً والجسدَ جسداً. ما الذي يبقى من الظلمة حين تسدلين الستائر وتسيرين في الغرفة الموصَدَة حافية وبيضاء. تلامسين القشرة الملساء، ويطفو زبدُك فوق الجسد المسجّى لأجلك؟ أما رأيتِ الزبد الغافل عن ينابيعه، المنحرف عن سُبُله القديمة، الصاعد في يقظة الروح؟ زَبَدُ الظلمة هو، تدركني حرارته ولا أدركه. لؤلؤك الأسود اللزج. معدنُكِ الرخو المتململ في الأعماق. في الليل المتفسّخ، تبدأ اختلاجاتُ الولادة. تُطبق المرأة جفنَيها وشفتَيها على مزيد من الأسرار. هي التي تعلّمت الإصغاء إلى همس الجنين، تنصت إلى ما يأتيها ممّا قبل الولادة. وحين ينبجس الحليب من صدرها ملبّياً نداء الجوع، تفكّر في الينابيع الغائرة في ليل الأرض، قريباً من نبض براكينها، ولا يعود الظلام سابقاً للنور أو تابعاً له. في الغرفة المظلمة، تجلسين بقربي وتلتفتين نحوي وتتكلّمين. في فمي تتكلّمين. وكلّما اقتربتُ من همسك، حامت غيمة فوق الجبال. أسمّيكِ ما لا يُسمّى. وأنتِ تتلفّظين دائماً بالكلمة ذاتها. "الكذب"، تقولين. "تَقاسُمُ الكذب". ما الذي تقوله اللغة الرّثّة، الأداة التي ما عادت صالحة للضحك ولا للبكاء؟ ما الذي نقوله حين يتجمّد الكلام بين الأضلع؟ أقف أمام الزجاج. ألهث وأمرّر سبّابتي فوق البخار المتجمّع في بقعة واحدة. أرسم خطّاً لا يودي إلى مكان. ... لم أحلم قبل اليوم مثل هذا الحلم. وقفنا جنباً إلى جنب ننظر إلى لهيب الشموع المتصاعد أمامنا. دنونا أكثر، وأمسكنا شمعة واحدة. أشعلناها معاً، ثمّ زرعناها بين بقيّة الشموع، وقلتِ: "ليتمنَّ كلّ منّا أمنية في قلبه". وأطبقتِ جفنيكِ للحظات، كأنّما لتؤكّدي أمنيتكِ فتنحفر فيكِ وتستقرّ. وسرعان ما فتحتِ عينيكِ فالتمعتا، بل، ولفرط صفائهما أمام أنوار الشموع المتلألئة، لاحت لي الدمعة المحبوسة داخل العين وقد ضاعفَت من جمالها. لكنّي تنبّهتُ فجأة إلى أنّكِ عارية واستغربتُ كيف لم ألحظ ذلك من قبل. كنتِ عارية تماماً. ليس عريكِ الذي أشتهيه، بل عرياً آخر أجهله فيكِ. عرياً غريباً وموجعاً. كنتِ عارية كجسد المسيح. مجروحة ومستسلمة للنظرة التي تحطّ عليكِ، وهي طعنته الأخيرة. وتلك الابتسامة، ابتسامتكِ التي تضيء الظلام، صارت ندوباً تملأ الهواء. بعد منتصف الليل بقليل، يرتدي الميدان حلّة أخرى. يدخل طقوسه السريّة، لكن على مرأى من العيون. من السكاكين العديدة التي يملكها الجزّار، يختار السكّين الأطوَع والأجمل. تنبري وحدها في الساحة كمسلّة وحيدة مضيئة. بَوصلة المكان إلى الروح. يرفعها لتصبح قبالة عينيه. يتأمّل شفرتها، ثمّ يحاول أن يلامسها بظفره. ولشدّة ما يدنو منها، تبدو كأنّها تلهث في وجهه. في لوحة الفنّان الهولندي رامبرانت يتدلّى العجل المذبوح بأبّهة، مصلوباً خارج الآلام والأوجاع، مسكوناً برهبة الريشة التي رسمته. أمّا في الساحة، فالعجل المهيّأ للذبح مكبّل ومطروح أرضاً. وفي لحظة محدّدة، أي حين يأتي الحبل فيلفّ عنقه ورأسه بعد أن يكون قد لفّ قوائمه وأحاط بأنحائه، يعرف أن ما من شيء عاد ينفع، لا حراك الرأس الضخم ولا القوائم الأربع، فيستسلم مكرهاً مقهوراً لسكّين الجزّار. لكن قبل أن يُجزّ عنقه بثوان معدودة، يطلق صرخة مكتومة مدوّية تقول الموت وما هو أبعد من الموت. كأنّها صفّارة الرحيل تطلقها السفن الكبيرة قبل أن تغادر الشواطىء. وهي تطلقها في قلب الذين يشعرون بأنّهم لن يعودوا. لا ليست هي صرخة فحسب. إنّها، بتسمية أهل المكان، "جَعرَة"، أو "جَعير". وهذه الكلمة البليغة الحاسمة يطلقونها، أحياناً، على البشر، في لحظات الغضب الأقصى. كيف تكون شاهداً لتلك الصرخة ولا تقترب؟ من أيّ وجع قديم تطلع الصرخة؟ وهل يستطيع الهواء أن يلوكها ويبعثرها؟ أم أنّها تظلّ جاثمة هناك في هواء ساكن لا يتحرّك ؟ وما حيلتك حين يستيقظ فيك، فجأة، قتلى الثأر، أولئك الذين زيّنوا طفولتك بزينة الموت، وأطلقوا في سمائها أجراسَ الملاك الهارب، وهي، بلا ريب، أجراسٌ حزينة ؟ نقتلُ لنأكل. نصطادُ الطيرَ في سمائه والسمكة في بحارها. نذبحُ الحيوانَ والعشبة نقطعها من الجذور. وثمّة مَن في الخفاء يقتلنا ويأكلنا. لا يعني الطبيعة إلاّ النسل. لو كان يعنيها شيء آخر، لما تركت الفقراء يُنجبون. الحشراتُ وأجنحتها الشفّافة، السقّايات التي تثير الاشمئزاز في النفس، وحيد القرن، الخنازير، الدببة، الجرذان، الأفاعي، السنّوريّات، الحيوانات الغامضة وفي مقدّمها النمور [وقيل إنّ مَن يستطيع أن يفسّر الإشارات المطليّة على جلدها قادرٌ على معرفة أسرار الكون]، السُّرعوفة الراهبة المفترسة، الحيوانات المنظورة، وتلك التي لا تمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، الحيوانات المرتاحة والحيوانات البائسة وغيرها ممّا يرهب الموت، وجميعها يدور في دورة لا تملّ ويكرّر على الأبد حركاته ومصائره... لا يعني الطبيعة إلاّ النّسل. هل يعنيها النّسل فعلاً؟ أخذونا إلى الجبهة لكي نموت ولم نمت. الذين ماتوا منّا نصّبوهم شهداء. أمّا نحن، فلقد انكفأنا على أنفسنا وخجلنا من عودتنا إلى أهلنا أحياء. قالوا: "لا تخجلوا من أنفسكم. انتهت معركة ولم تنته الحرب. ستكونون وقوداً لمعارك مقبلة". فحمدنا الله تعالى. وما هي إلاّ هنيهة حتّى صرخ قائد الفرقة بصوت عال: "كلّ واحد وعُدَّته المهلكة بيده". ثمّ فتح كتاباً كبيراً كان بين يديه، وجعل يقرأ: "سيسير في وسطكم رجل لابس الكتّان، وعلى جانبه دواة كاتب. سيعبر في وسط المدينة وستعبرون في المدينة وراءه وتضربون. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخَ والشابَّ والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ابتدئوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. املأوا الدور قتلى. اخرجوا". خرجنا. على شفاهنا ابتسامات، وفي قلوبنا غضبٌ وحنين إلى الطعن. نُطعَنُ أو نَطعن. نَقتلُ أو نُقتل. وصار لكلّ منّا شبه شكل إنسان وتحته الشكل الكاسر الذي اتّخذناه للتّو عندما اشتعلت في دواخلنا روحُ الحيوان. سمعنا صوتاً يقول: "نحن اللحم، فتقدّموا". تقدّمنا. وفي وسطنا "الرجُل اللابس الكتّان الذي الدواة على جانبه". تقدّمنا. ترنّمت الأرض بخطانا. استبدّت بنا الحماسة. والفضاء ملأناه بالأناشيد. وإذا بيننا رجُل يبكي. فسأله القائد عن سبب بكائه، فقال: "لقد تأخّر الموكب وما عدتُ أحتمل الصبر". قالوا لنا أن نقتلهم ونقطّع أوصالهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يقتلونا ويقطّعوا أوصالنا. قالوا لنا أن نبيدهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يبيدونا. وبتنا ليلنا الذي سبق ذهابنا إلى المذبحة ونحن نشعر بفرح عظيم. ما كنّا نظنّه رملاً وسراباً، صار جيوشاً تتقدّم نحونا. ووجدنا أنفسنا، فجأة، نخوض معركة بالسلاح الأبيض. نطعنهم ويطعنوننا. نتبادل القبلات والشهادة على مقربة منّا، ندركها حيناً وتفوتنا حيناً آخر. كانت دماؤنا تسيل ونضحك من دمائنا. كانت عيوننا تُسحب من عيوننا. وكنّا نعرف ونحن نحارب، أنّ الأقمار الصناعيّة تلاحقنا وتنقل هذا الصليل كلّه. وكنّا على يقين من أنّ الجالسين أمام الشاشة الصغيرة ينتظرون منّا الكثير، وينبغي ألاّ نخذلهم، فلا نترك رأساً إلاّ ونحصده، ولا ذراعاً إلاّ ونقطعها من أصلها. وننعم النظر في الجرح بنشوة من ينتشي. وحين تشتدّ حميّة الكرنفال ويصير وَقْع الحديد على الحديد محرّضاً على الرقص، نرقص حتّى تخور قوانا ونسقط فوق الجثث المشبعة بالعراك. وحين لا يعود ثمّة من نقتله، نبحث في أجساد المقتولين عن بقعة لحم حيّ. نرفع الخراب إلى شفاهنا نشرب نخب الخراب. نُشيد ممالك الجرح والإعصار. نستبدل المعادلة: نكون أو لا نكون تلك هي المسألة، بمعادلة أخرى: نكون أو لا نكون تلك هي المهزلة. نتقدّم. كان الخوف الأكبر هو الذي يحمينا من الخوف. كانت رؤية أجسادهم تتحلّل هي التي تمنحنا مناعة ضدّ التحلّل. نقتلهم ونتساءل ما إذا كانت أجسادهم تتّسع لموتنا الكثير. ثمّ نرتدي قمصان الموتى كأنّما هي طريقنا الأجمل إلى الموت. تنتهي المعركة ولا ينتهي العراك. طالما أنّ الأنثى تُنجب لا ينتهي العراك. طالما أنّ الأنثى تنجب نبتكر وسائل جديدة للقتل، أجملها يسجّل صراخ الضحيّة. طالما أنّ الأنثى تُنجب... جميلة هي الأرض. جميلة هي السحابة المتهادية لوحدها في سماء زرقاء، كطائر ضيّع سربه وشرط طيرانه. جميلة النجوم وغريبة أنوارها الحائرة، حارسة المدى اللانهائي، تراقبك من بعيد، تعرفكَ هي وأنتَ لا تعرفها. تُرى أترأف بك لأنّك لا تدرك ما الذي ينتظرك عند العتبة، أم أنّها تدرك أنّ مصيرك ومصيرها واحد؟ جميلة هي النسمة الرحيمة في صيف الجُزُر البعيد تلفح الجباه. جميلة هي الأمطار الرشيقة فوق الأعشاب العطشى. وجميلٌ عطر الأنثى المجهولة التي تمرّ بقربك ماضية في سبيلها. جميلٌ لقاؤنا قبل أن يتعثَّر بالتفاصيل. يأخذُ شكلَ هلالٍ نُعَلِّقُ فوقه أحلامَنا. جميلة هي الأرض حين تغادرها روحي وألتفت إليها كما رائد الفضاء من مركبته فأراها زرقاء مضيئة من داخل. ترفع أشرعتها البيضاء وتتقدّمني، تسبقني إلى حيث أمضي، كأنّها تدلّني على الطريق. جميلةٌ هي الأرضُ الماضية إلى حتفها بسرورٍ نادر. |